“موبايلات بقى!”
لافتة كانت مرفوعة بالقرب من قصر الاتحادية عشية 30 يونيو 2013. كتبها مصري ابن نكتة بجوار صورة محمد مرسي. رسالة مكتوبة بالخفة في مواجهة تراث ثقيل من كآبة تتسرب منذ لحظة ظهور حسن البنا في 1927.
رسالة وداع لنموذج الداعية القادم من الأرياف يستهدف بث مشاعر العار في المدينة. محارب أو مخلص قادم ليخلص المدينة من آثامها وشرورها بالدخول في الحداثة.. أو الخروج عن الموديل الافتراضي الذي تخيله الشيخ حسن للحياة كما كانت في القرن الخامس الميلادي. الموديل وشيخه يواجهان بعد طول سيطرة حرب متعددة المستويات، لكنها المرة الأولى تقريبًا التي تظهر فيها الخفة في مواجهة الثقل التاريخي الذي اسس له حسن البنا المولود في قرية (المحمودية، بحيرة) التي كان مثلها الأعلى هو الإمام محمد عبده شيخ الأزهر المتمرد بشكلٍ ما على موديلاته القديمة. والثائر الذي لا يفصل بين الاستقلال عن الاستعمار وإصلاح الدين. لكن البنا لا يصبح محمد عبده. ولا هتلر أو موسوليني كما قالوا عليه في عز نجوميته؛ بل هو خليط من الإمام المجدد والزعيم النازي الذي يسيطر بالتنويم المغناطيسي على جماهير عمياء مكسورة الجناح، تشعر بضعفها وتري تحققها في الذوبان تحت جناح الزعيم المهيمن. حسن البنا ابن ثقافة ريفية عاش صدمة الحياة في الإسماعيلية؛ المدينة الإفرنجية على أرض مصرية. هناك كانت البيئة المناسبة لولادة تنظيم يبحث عن سند من 1400 سنة ليواجه الغرب المنتصر والمسيطر.
كان التنظيم يبحث عن مجد قديم.. تربى زعيمه في مجال يمنح الواعظ الديني رتبة اجتماعية.. كان أبوه مأذوناً وساعاتي وخطيبًا مسجد القرية. والبداية كما هي عادة التنظيمات الفاشية من خلال إعادة تربية الإنسان ليبدو دخوله التنظيم ولادة جديدة. حسن البنا الشيخ الذي يرتدي بدلة مصنوعة بقماش مصري وطربوش أنشأ جمعية سماها “منع المحرمات”. اسم لا ينقصه الإغراء لجذب مراهقين يبحثون عن دور يشعرون بذواتهم في مجتمع راكد. أعضاء الجمعية كانوا يرسلون بخطابات تهديد لمن يرتكب منكرًا. التقى هذا مع الحس السياسي الساخن في مظاهرات ثورة 1919 التي اشترك فيها حسن البنا وعمره لا يتجاوز 13 عامًا. نمت عند حسن البنا علي ما يبدو نزعة شعور بالاضطهاد بمزبج من حس المطاردة الأخلاقية والثورة السياسية، وتعاظمت هذه النزعة في إطار أوسع و هو البكاء على سقوط الخلافة الإسلامية في تركيا.
هكذا وفي ظل محاولة “وراثة” الخلافة بعد سقوطها في إسطنبول، أن يظهر تنظيم الإخوان المسلمين من بيت حسن البنا في الإسماعيلية في نفس التوقيت الذي كان الملك أحمد فؤاد الأول يبحث عن طريقة يحقق بها حلمه ليكون خليفة للمسلمين. البنا كان كاريزما دينية مؤثرة، جمهوره من عمال المعسكرات في منطقة القنال هؤلاء هم نواة أول تنظيم سياسي في مصر يدعو إلى العودة إلى الإسلام. لم يحلم حسن البنا بمنصب خليفة المسلمين. لكنه منح القوة لفكرة البحث عن خليفة مصري. حسن البنا محترف في فكرة تنظيمات التربية الرشيدة. وهو هنا يشبه كل التنظيمات الفاشية التي تقوم على فكرة الولاء والسمع والطاعة. أفكارها كلها عن الخير المطلق والشر المطلق. تقسم العالم إلى فريقين: مؤمنين وكفار. تنظيمات لا تعترف بالحرية الشخصية ولا بثقافة تحترم مكان الفرد في الحياة والتاريخ. وتكفي بوضعه ضئيلاً في إطار العظمة والمجد التي يصنعها القائد والزعيم مستعيدًا لحظة ذهبية قديمة. هذا الموديل من التنظيمات عرفه العالم كله في لحظة من لحظات تطوره. كان الجنرال الفاشي والنازي يخطب في شعبه من الشرفات. ينظر إليه من أعلى.. ويرى الجميع صغارًا في انتظار حنانه.
لكن هنا في بلاد لم تحسم أغلب اسئلتها وقضاياها الشائكة، استمرت التنظيمات بنزوعها الفاشي، مبشرة بمجد قديم، متصارعة على سلطوية كابوسية. كان الجنرال يخطب من شرفة مثل الفاشيين، والناس تتطلع إليه، بينما الشيخ على منبره، ممسكاً بسلطة نائمة، يخفيها ليبدو لحظة الصلاة في مساواة مع الجميع. إلى أن جاءت هزيمة الجنرال، وكانت انتصارا للشيخ. وهما متشابهان في طلب السمع والطاعة. الجنرال يطلبها في الشارع. والشيخ في المسجد. والهزيمة اخرجت الشيخ ليكون الشارع امتدادًا للجامع. استمرار حسن البنا كان تعبير عن هزيمة الدولة الحديثة التي نافق فيها كل الجنرالات الحس الديني للشعب. كما أن هزيمة تنظيم حسن البنا في معركة السلطوية ستفتح المجال لتتلخص الحداثة في التوحش. يقولون إن شعب مصر متدين وكأنه الوحيد بين شعوب الأرض. أو كأن ذلك يعني معاملة خاصة تختلط فيها محبة الله ببناء الدولة. وساعتها سيظهر شعار مثل أن الإسلام هو الحل. وهو شعار يشبه الدعايات التليفزيونية السخيفة التي تلغي كل مميزات المنافس، بل تلغي المنافسة من أساسها.
لعب حسن البنا السياسة بمنطق تحريك السلطة بالريموت كنترول.. الانقلاب من أسفل. وقد نجحت هذه السياسة إلى حد ما مع الملك فاروق الذي ورث عن أبيه الغرام بمنصب الخليفة. أهدافه كلها تحريك راس السلطة لتنفيذ تعليمات التنظيم وتصوراته عن الحياة في مصر المحروسة دون أن يشعر، باعتبارها تعليمات الله. وهم وكلاء الله. يتصورون أن العداء مع الإنجليز ليس صراعًا بين مصالح وحرب بين قوتين. بل هي محاولة لهدم عقيدة الإسلام، ورغبة من الكفار إبعاد المسلمين عن دينهم. كان حسن البنا مسنودًا من طلائع برجوازية ريفية (شرائح نالت بعض التعليم أعلى من المتوسط.. وتوقفت) تبحث عن دور وتريد الذوبان في الجماعة. هؤلاء يشبهون أتباع هتلر. الذين كانت مشاعرهم تهتاج لحظة خطابه. تبكي النساء في البيوت. ويشعر الرجل أنه توحد مع الزعيم الملهم الذي وجه اللعنات إلى عدو اختاره بعناية.. ويبحث عن طريقة لتفريغ اللعنات. السحر هنا لفكرة أنهم “صحابة العصر الحديث” او “الطليعة المؤمنة ” وتتم تربيتهم في حضانات يشربون فيها أنهم “كريمة الكريمة” في البلد.. وأنهم خلاصة المؤمنين، ومثل كل تنظيم يبني على فكرة الطليعة لا مانع من قتل أو قهر ملايين لتسيطر تلك الطليعة المؤمنة (وهنا تلتقي طليعة هذا التنظيم الاسلامي مع أعتى احزاب الشيوعية.. كلهم يقتلون من أجل أن تحكم الطليعة). خرجت الطليعة من الحضانات.. لتواجه خريفها الذي لن يمر خفيفًا مثل رسالة الوداع لمحمد مرسي.
* الصياغة الأولى 29 يونيو 2013