أحمد الدروي قصة مثيرة، أعلنت بها “داعش” عن وجودها في مصر، وأرسلت من مكانها الذكي في الميديا رسالة تقول إنها تخترق حياتنا الحديثة وتعرف كيف تجر زبائنها إلى عالمها الفانتازي مثل برنامج من برامج الواقع التي رأى مخترعوها أن في حياة الناس وتصويرها ما يجذب المشاهدين “داعش” تخترقنا بقصة أحمد الدروي، ضابط الشرطة السابق في الترحيلات الذي كان عطوفًا مع السلفيين فاعتبروه “رجلًا نظيفًا في منظومة الخراب الدنيوي” ومنحوه تأييدهم عندما دخل ماراثون الانتخابات في المعادي.. لم يكن سلفيًّا كما هو ظاهر، لكن السلفيين أحبوه، وهي المنطقة التي أهَّلته ليكون مطروحًا من قبل جمهوره على “تويتر” ليقدموه إلى مرسى مرشحًا لوزارة الداخلية.. وبعد مرسي اختفى الدروي وانقطعت أخباره حتى وصل خبر موته بالسرطان، لكن أصدقاء له وفى جلسة خاصة أخبرونا بأن الحقيقة أنه قُتل في عملية بسوريا.. وكان وقتها “داعش” اسمًا عابرًا في سماء الميديا.. كما أن حرمة الموت جعلت الحكاية تُدفن في الجلسات الخاصة لكن “داعش” أصبح ملء السمع والبصر وما دُفن في الحوار الخاص أصبح “قصة أولى” في كل الميديا العالمية، تلبيةً للعبة إرسال الرسائل من “داعش” إلى المقيمين في بؤس حائر بين الاستبداد والإرهاب، وهي رسالة تؤكِّد أن الإرهابي لم يسقط من السماء.. إنهم ينافسون الدولة وأجهزتها الأمنية في تجارة الخوف.
هل ذهب أحمد الدروي إلى “داعش” لأن “حلمه كُسر”؟ هذه أسطورة من أساطير التبرير الشائعة للقتل باسم الله.
تقول الأسطورة إنهم “ضحايا”، لكن ليس كل ضحية ينتقم من جلاده بقتل وإعدام وقهر ضحايا آخرين؛ باعتبار أن سبب قهره لهم “أكثر نبلاً” فهو يقتل باسم الله بينما يقتل رجل البوليس باسم الحاكم او كما يتخيل باسم الوطن. هذه الأوهام هي صديد سنوات نراه الآن متجمعًا في صورة “داعش” التي ذهب إليها الدروي المعروف بدماثته وطيبته وحسن أخلاقه، بل وسطيته ورغبته دائمًا في الابتعاد عن المشكلات.. كيف هاجر من حالة “المواطن المثالي” صديق الجميع إلى صورة “المجاهد الكليشيه” بأزياء من تصميم عقول تنظيمات ما بعد أفغانستان.. كيف هاجر إلى الكلاشينكوف بعد أن كان يختار موديلات غربية في الملابس الخفيفة، أو تلك التي يضع فيها الكوفية في فتحة القميص…كيف تحولت محاولته ليبدو عصريًّا بملابس أوربية؛ حتى وهو قريب من السلفيين إلي محاولته للاقتراب من الموديل الذي جعله أمراء القاعدة الشكل المعتمد للمجاهد دفاعًا عن الإسلام؟ “ويسأل أصدقاء له من مجموعات “ائتلاف شباب الثورة ” وقبلهم من خريجي نفس دفعته في كلية الشرطة “كيف تحول المعتدل إلى إرهابي؟” وهذا سؤال يعكس صدمة متعددة المستويات، لكنها تؤكد أنه في إطار تيار يريد السلطة باسم الإسلام ليس هناك معتدل، أنه مشروع قاتل. قرار مؤجل بالعنف يكمن في وعي من يتصور أن تدينه لن يكتمل إلا بالوصول إلى السلطة، وقتل المخالفين إعلاناِ لقوة دينه، وجبروت المؤمنين به.
الدهشة من تحول الوديع الطيب إلي قاتل يستعرض وقفته بالسلاح ويفخر بالسكين والذبح ويدخل في “الدور” هي استجابة لنوع من التربية التراكمية بأنه باختياره أصبح منتميًا للفرقة الناجية، أو الطليعة المؤمنة التي لا يستوي مقامها مع المجتمع الكافر وسلطته الكافرة. هذه التربية تمنح حياة الشخص معنى خادعًا ووهمًا بأنه “نبي” و”صحابي” و”حامي شرع الله” كما صورته روايات التجنيد الأولى في هذه الجماعات، والتي كان أشهرها في الثمانينيات الفيديوهات المصورة للبطل المغوار عبد رب الرسول السياف، والتي كانت تعرض في الجامعات واحتفالات ومحاضرات تربية الفرد للدخول في الجهاد الدروي تصور أنه لم يعد لديه إلا التورط التام في جيش الخلاص الذي سيخلص البشرية من آثامها ولو بالقتل. ومثل كل جيش خلاص فالمنتمين إليه حالات إنسانية ونفسية تحتاج دراسة وتأمل. وفي هذه الحالة نحن أمام قطاع من عشاق الوقوف في الوسط يعبرون في برهة قصيرة إلى استعراض الهوس الجماعي، رأيناهم في المجموعات المجذوبة بحازم أبو اسماعيل ولم يكن جميعهم فقراء أو محتاجين لكن بينهم من كان يقف في منتصف الطريق، لا هو متفوق ولا هو فاشل، لا هو ناجح اجتماعيًّا ولا هو مطرود أو منبوذ أو لديه حتى ما يختلف به مع الناس. إنها كائنات ترى في الجسم الكبير لكيان سياسي بلا ملامح كما كان الحازمون أو في فرقة القتل المسماة “داعش”.. مكانًا مفجرًا لطاقات كامنة، ألوف مثل الدروي وغيره من الطيبيين صنعوا كارثة هتلر. فقد كانوا جمهوره الذي يبكي من خطبه وجيشه الذي خرج للعالم مبشرًا بالدولة النازية منقذة البشرية من ضعفها.. ألوف مثلهم يصنعون الدمار والقتل والخراب بهذه الطيبة المفرطة هذه الألوف هي وقود تنظيمات عاشت على نشر الكآبة والذنب العمومي.. واستسهلت الإجابة على الأسئلة الكبرى عن التخلف بأننا عصاة أو كفار، نستحق القتل بالرصاص والقنبلة والجنزير.. ليتطهر المجتمع.
وبين قتلنا بالكآبة أو بالرصاص تشكل جسد ضخم من تنظيمات يدعي كل منها أنهم الفرقة الناجية في مواجهة مجتمع كافر تلك الفكرة القنبلة، أطلقها “سيد قطب” مستثيرًا كل جروح العجز في “المستضعفين” ونافخاً في مشاعر الاضطهاد عندهم. هو نبي التطرف الذي حول ألمه الذاتي في سجون عبد الناصر إلي خطاب متكامل، أصبح فيه الالم رغبة في الانتقام، وجدت مرجعيتها في أفكار أبي الأعلى المودودي في الهند صورة محفورة بخليط الاضطهاد والتضحية ودفع الثمن والاغتراب عن الواقع. والهجرة بعيدًا عنها إلى موديل حياة يتخيلون أنها تشبه التي عاشها النبي محمد والصحابة في الفكرة إرهابي كامن، يتصور أن عنفه مقدس، يحمل تصريحًا إلهيًّا يجعله يقسم العالم إلى “فسطاطين”.. وحتى في قمة الاعتدال فإن علاقة العنف قادمة لأن الإيمان بالفكرة يجعلك تلغي الآخرين.. (بالتكفير والتعالي القائم على أن الحق معنا وحدنا)، وتلغي حتى أفكار التسامح التي تنشأ في فترات الاستضعاف وتظهر من الأعماق العدوانية سافرة.. دون حتى المكياج المتقن الدولة التي تدرِّب شرطتها على إذلال الناس وقهرهم وتصطاد من الشوارع ضحايا ترسم على أجسادهم رسائل بالتعذيب والضرب والسحل.. هذه الشرطة لا يمكنها أن توقِف الإرهاب.. لا يمكنها إلا الانتصار في جولة كما حدث في التسعينيات عندما اتخذ قرار القتل خارج القانون، وهنا انتهى جيل من الإرهابيين، لكن الإرهاب لم يمت.. الإرهابى ساكن “قصادك” وربما تكون أنت بعد قليل.. لأنه أمام جبروت دولة لا شيء سوى القتل باسم الله.
وبعد فشل التنظيمات العنقودية والهرمية نحن أمام جيل جديد من الإرهاب يعيش على أطراف المدينة.. مجانين يقتلون ببرود.. يتسرَّبون من مناطق لا تصلها سلطة، نُجوع على هامش المدينة المكتظة كعربة روبابيكيا يدخنون الحشيش لكنهم آخر طبعة من الجهاديين أو الإخوان الجدد الذين اجتذبتهم المظلومية بعد فض رابعة ليسوا تربية الهيراركية الإخوانية ولا يخضعون للهرم المستقر منذ 80 سنة.. هم أمراء جماعات الانتقام يتنقلون بين النجوع وبين الجماعات الغاضبة من الدولة ليصنعوا دوائر جديدة للجماعة المترهلة.. وفي الميكروباصات لا يهتمون بالشكليات القديمة من الإصرار على القرآن والبسملة والفصحى المفارِقة للمجتمع.. لا يشبهون القدامى لكنهم يراعون جمهورًا من المصابين في مستشفيات حرب لا يراها غيرهم.. بنايات غير مكتملة تضم مئات جرحى في عنابر أو مستعمرات تخمر فيها المظلومية عاطفها ورواياتها لا تليفونات محمولة.. فقط إنترنت يتصل بالعالم لتنطلق منه شظايا الرواية التي لا يراجعون فيها خطاياهم.. ويبنون فيها نفسيات معادية للمجتمع ليست الدولة وحدها إذن موطن العداء، ولكنه المجتمع الذي رفض الإسلام حين رفض المرسي والجماعة.. وصفَّق لاعتقال الشاطر وفضّ رابعة ويطارد الإخوان كلعنة الزمن الشرير على الضفة الأخرى أو على بُعد رحلة ميكروباص مكتظ بنتاج السنين الطويلة منتجعات يتعلق أصحابها بأمل عودة الجنة الأرضية بين النجع والمنتجع.. تدفع القاهرة فاتورة عصر الانحطاط.. ويدور أهلها في دوامات تشبه الغرق في ترعة راكدة العالم القديم الذى ترعرع فيه الفاسد والإرهابي يتآكل.. ونحن للمرة الأولى ندرك أننا جزء من هذا العالم بالتواطؤ أو بالمصلحة أو بالتصفيق مثلًا لقاتل السادات، لأننا لا نستطيع إسقاطه أو بالتصفير على نغمة فاسد لأنه سينقذنا من الإرهاب أو حكمه الخانق عشنا أيام البدائل المضروبة من الأدوية في الصيدليات إلى عمر سليمان على كرسي الرئاسة حتى أصبح هناك مَن يبكي على أيام مبارك بل ويظهر مبارك نفسه وبصوته يلعب دور الحكيم الناصح.. نعم هو نفسه راعى الانحطاط الأول ومدمر حياتنا.. وقاتل التعليم والصحة والأمن.. يقدّم نصائح للمستقبل.. قائد عملية التحويل من بلد إلى صحراء.. ومن الأمل إلى الغرق في رمال متحركة.. الآن يظهر وينصح بالضبط كما يمكن لأي قاتل من جماعات انتظار الخلافة.. وكلها خارجة من عباءة مشروع الإخوان بكل ركاكته.. ليتحدّث لائمًا عبادة البيادة أو الغرام بالعسكر.. انظر أين تقف؟ أي قيم وأفكار تحدِّد موقعك من العالم؟ فكّر لتفهم ونفهم قصة أحمد الدروي..
*الصياغة الأولى: أكتوبر ٢٠١٤