بكى نبيل الهلالي..
لا يملك أبطال هذه الواقعة حسًّا تراجيديًّا كي يفهموا لماذا بكى “القديس اليساري” عندما استمع إلى شاب اسمه، حسب الروايات، محمد النجار، ينشد “غرباء” من خلف القضبان وخلفه كورس من أمراء وأعضاء الجماعة الاسلامية المتهمين بقتل رفعت المحجوب (رئيس مجلس الشعب وقتها؛ سنة 1990).
التقط الهلالي الحس التراجيدي في النشيد وكورس المنشدين وراء القضبان، وقصتهم خارج هذه القضبان. متهمون بالقتل يغنون لحظة الحكم بالإعدام عليهم في جريمة، هي مثل القضايا التي تتشابك فيها السلطة، والمنشقين عليها لاستعادة “الخلافة”، نمط الحكم المنقرض. الجريمة لا تزال لغزًا كبيرًا، فالمقصود حسب رواية الجماعات الإسلامية لم يكن رفعت المحجوب، بل وزير الداخلية (اللواء محمد عبد الحليم موسى آنذاك)، أما عشاق النمائم في الغرف المحيطة بالسلطة فروايتهم عن التخلص من رفعت المحجوب نفسه قبل أن يكمل صعوده في سلم المناصب السياسية العليا، ليصبح على سبيل المثال “نائب الرئيس” في جمهورية مبارك التي خلت دائمًا من هذا المنصب، وكون المحجوب مدنيًا، يمنح الرواية أرضية تصديق لجمهور يدمن روايات الغموض القادم من العالم العسكري. الرواة والجمهور في مثل هذه الروايات لديهم قدرة على إقامة علاقات ووشائج بين أطراف تبدو متناقضة، ومن أجل إنجاح الروايات وتفسير كم الغموض المرتبط بإدارة ماكينة السلطة في مصر، يمكن تخيل الرابط الذي يجمع بين صراع العسكر لاستمرار احتكار السلطة، مع منشدي “غرباء”.
ربما العالم المثير بين الأفكار والسلاح، والتنازع على احتكار العنف والقوة مع الدولة، هو “التراجيديا المتخيلة” التي أثارت بكاء نبيل الهلالي، إضافة إلى استمداد مبرر الوجود من طاقة “الضحية” القادرة على أن تكون في لحظة “مجرمًا” انتقامًا وتحقيقًا لنوع من العدالة القاسية والقامعة. الهلالي تربية مخالفة، وطرق غربته مختلفة. سليل أرستقراطية شاركت في الحكم (أبوه آخر رئيس حكومة في العهد الملكي) واختار نبيل اليسار والشيوعية، والمحاماة دفاعًا عن الحقوق (العمال) والحريات (له جولات تاريخية دافع فيها عن تنظيمات كانت تضع اسمه على قوائمها في الاغتيال).
قديس، تتولد عنده مشاعر التراجيديا، عندما يغني كورس المظلومين نشيد الغربة في سبيل عقيدته (تتعدد الروايات عن أصل كلمات النشيد، من بينها أن الكلمات لشاب من بلاد الشام وآخرين يعيدونها إلى شباب “الصحوة ” في السبعينيات). التراجيديا بما فيها من احتفال ببطل لا يساوم، لا يقبل الحلول الوسطى، يقاوم في كبرياء، تختلط مع الحس العاطفي. “الصحوة ” التي بدت أنها ومضة في لحظة الهزيمة في يونيو1967 وانكسارات مشاريع دولة التحرر واحتضار الدولة بعد تفسخها وعجزها، فخرج من أطلال أو من بين زفرات الاحتضار أبطال من خارج الزمن، قادمون من عالم “الغرباء” المنتمين إلى “الإسلام الغريب في داره” منذ إجبار هذه البلاد على الدخول في الحداثة.
خبر القبض علي شكري مصطفي
وكما رأيت في صورة شكري مصطفي “بطل” من نوع جديد.. ملامحه لا تشبه النماذج السابقة لأبطال الشعوب في طريق تخلصها من الاستعمار. قاتل لكنه لا يشبه القتلة العاديين، وزعيم عصابة لكنها عصابة غير تقليدية. إنه أمير “جماعة المسلمين” التي أطلقت عليها الصحافة اسم “التكفير والهجرة”.. ونشرت صورته عقب اغتيال الشيخ الذهبي وزير الأوقاف (١٩٧٧) وقتها وحوكم هو وخمس من أعضاء التنظيم وحكم عليهم بالإعدام.. ابن موت.. هذا ما تقوله نظرة “أمير الجماعة” القادم من زمن مختبئ تحت السطح.. بوهيمي لكنه مختلف عن موضة هذه الايام من السبعينيات.. ملامحه مخطوفة إلى شيء بعيد. على وجهه حُفرت مشاعر غربة من نوع يشبه غربة الريفيين في المدينة أو البدو في قلب الحضارة الحديثة. لا تعطي صورة شكري مصطفى انطباعا بالإجرام التقليدي.. على العكس توحي بالتعاطف مع شخص يقف على حافة الجنون.. يثير التعاطف والخوف معاً. هذه هي التراجيديا التي التقطها قديس اليسار؛ في “غرباء” يتزاحمون على قضبان زنزانة، يسيرون خلف سراب اسمه “الصحوة” ويرونه طريقهم إلى الجنة، ويخلصهم من مصير أرضي تعس، حياة واقعية بائسة ليكونوا أنبياء أرضيين، ورثة سيد قطب نبي الأنبياء أول صف الضحايا الذين ينشرون أفكارهم بالقتل.
عندما بكى الهلالي كان زعيم الغرباء في القفص هو صفوت عبد الغني، الذي أصبح بعد سنوات رئيس حزب إسلامي (داعم لمرسي في الحكم/ مشارك في جني ثمار “الصحوة”)، وذلك بعد رحلة حصل فيها على دكتوراه في التعددية السياسية. خرج في إطار موجات المصالحة بين النظام وغرباء الصحوة.
تغيرت ملامح صفوت عبد الغني عن تلك التي كانت لحظة إنشاد “غرباء” لكنه لم يصل إلى المرحلة الأليفة، وغادر أيضًا اللحظة التراجيدية ولم يعد إلى الواقع، لكنه بقي معلقًا في واقع افتراضي، يتضمن كل هذا في خلطة، هي كل ما بقي من “الصحوة”. خلطة مقاتل أو إرهابي سابق، متصالح مع أجهزة النظام الزمنية والعسكرية، ودارس للتعددية السياسية، دراسة للاستخدام فقط وليس للمعرفة ولا لتكوين وعي يغادر به مواقع الإرهاب. وأخيرًا سياسي يلغي السياسة بإعلانه على منصة “رابعة العدوية” وأمام جمهورها المتحمس لإعلان “دولة الله علي الارض”: “أنتم هنا لتدافعوا عن الدين”.
هكذا تحولت التراجيديا إلى ميلودراما تحولًا لم يكن مدهشًا، تقوده جماعة الإخوان، أشهر تنظيمات صنعت من نفسها ضحية حتى ابتذلت التعاطف معها. لم يعد لدى منشدي “غرباء” إلا ابتذال النشيد، العودة اليه، بكاءً على مغادرة السلطة، وربما لنكتشف أن غربتهم دائمًا هي نوع من افتقاد السلطة. “الصحوة” لم تكن اكتشافًا للإسلام “الغريب” ولكن لضياع السلطة وفقدان زمام شرعية الحكم والهزيمة أمام مؤسسة السلاح. هزيمة دولة جنرالات التحرر كانت الممر لمن بدا مصيرهم تراجيديًّا ويلهثون الآن تجاه أقصى أنواع الميلودراما. هؤلاء الذين حولوا قاعة مناسبات في مسجد رابعة إلى غرفة عمليات سلاحهم فيها كاميرا يحدثون منه الغرب (الذي تقوم فكرتهم على تكفيره أو إنه الشيطان الاعظم/موطن الشرور) في هذه القاعة نفس الهرم التنظيمي. القيادات أمام الكاميرات والقيادات الأعلى في الدور الأعلى، والأوامر تصدر بينما في الساحة جموع موهومة بأنهم في حرب دفاع عن إسلامها وفي طريقهم للجنة. من هو مدير التسويق الشاطر الذي أقنع جمهور “الصحوة” بأن السياسة تعني أن يكون كل شخص منهم “مشروع شهيد”؟ وبأن الدفاع عن السلطة جهاد مقدس، وأن الحكم في هذا الزمن لا يزال خاضعًا لحروب البيعة؟ هكذا قررت جماعة الإخوان خوض حربهم ضد منافسهم في الحرب السلطوية، باعتبارها معركة خلاص ديني، بين الخير والشر، وتحول الاعتصام إلى حديقة مفتوحة لسلالات المهووسين بأحلام “الصحوة”، يمارسون طقوس تثير الضحك والخوف معًا، من ركاكة بدائيتها، والقسوة المختفية خلف هذه الركاكة. وتحول ميدان رابعة العدوية والمناطق المحيطة إلى معازل، مستوطنات عقاب داخل المجتمع وخارجه.
لحظة فقدت كل ملمح تراجيدي، وفقد معها “الدين/الإسلام/دين الصحوة ” أوهام أسقطت عليه في السبعينيات والثمانينيات بأنه الدين الثوري أو “لاهوت تحرير” إسلامي، وطغت الميلودراما كاملة في انتهاء “غزوة المقعد الكبير” بمذبحة بعد أن كانت مجرد تعبير عن شطارتهم في تجارة “الصناديق”.
الميلودراما الإخوانية /الاسلامية إشارة خروج من زمن “الصحوة ” بعد أن كانت تشبه القدر كما قالت خطابات الترويج الأولى التي حولت هزيمة عسكرية وسياسية إلى حفل كبير للندب والشعور التاريخي بالذنب “لأننا ابتعدنا عن الله.. والإسلام”، وكان هذا الخطاب من وجهة نظر شرائح يسارية، هو شكل من أشكال “مقاومة وتحرر” من الديكتاتورية العسكرية المهزومة، مع أنها لم تبدِ تحررًا بل كانت أقرب إلى تناطح في حرب الهويات وتنازع على من يفوز بمناقصة تعليب الشعب تحت رايته.. والغربة مع الهويات القاتلة/الجاهزة لم يلتفت إليها أحد، بل إن خيال مراكز التفكير في أوروبا وأمريكا استمر في تنميط شعوب هذه المنطقة من العالم داخل كليشيه سكان كهوف وعابري صحراء حيث يتجاور الجمل وسيارات الدفع الرباعي.. وهؤلاء لا يحكمهم وفق هذه الرؤية إلا محاربي الهوية، الغرباء عن العصر، الذين يفرضون عالمهم المتخيل بقوة السلاح ونبذ الآخرين بغربتهم.
* الصياغة الأولى 26 يونيو 2013