في أي ثلاجة كان مجدي مكين؟
في ليلة خريفية تميل للشتاء من ليالي نوفمبر ٢٠١٦، كان مجدي مكين؛ بائع السمك، يعبر شوارع القاهرة بعربة كارو ووقع في الكمين، لينتهي المشهد كله بعد سلخ جلده وتفجير خصيتيه، بينما تحدث رواة من موقع الجريمة، عن دم كان ينزف من أذنيه. ولمح أقرباء آخرون، اقتربوا من الجثة، دماءً عند شرجه..
باختصار هذه الروايات كوَّنت صورة جسد ميت رُسمت عليه علامات قوة بائسة.. مشهد لا يختلف كثيرًا عن مشاهد عاشتها البشرية في عصور التوحش.. نحن لا نزال هناك؛ في زمن انتهاك الجسد.. هكذا انتهت حياة مجدي مكين صاحب العربة البدائية، التي يجرها حصان، على يديّ شخص ينتمي لمشهد أكثر قدمًا، وبدائية..
الجسد في حجز قسم الأميرية كان أسيرًا للمتوحشين، والاستعراضات التي تقام كل ليلة، مغطاة بالشعارات النبيلة: نعلمهم الأدب ونعيد تربيتهم..
يتلذذ السادي بانتهاك الجسد.. يراه بلا قيمة ما دام قد وقع تحت يده.. يهتز جسد الضابط نشوة من تعذيب الآخرين.. واللهو بأجسادهم. جولة أو غزوة أو مهمة عمل ينتظر عليها مكافأة.. غرف التعذيب مسرح، له طقوس مدهشة، من الأسماء إلى الأدوات مرورًا بملامح تتشكل نفسيًّا بإيقاع هذه الغرف المقبضة.
طبق الفحم الساخن أحدث إبداعات مسارح التعذيب في البوليس المصري. قدم الضابط إضافة مصرية إلى فنون التوحش الممتدة عبر التاريخ.. يقال إنه من سلالة ضباط، أي أنه ابن أصيل للدولة، لذلك لم يجد ما يمنعه من الإبداع في الفن الذي لا يزول بالتقادم.. استدعي طبق الجمرات من عصور سحيقة، ومن لاوعي طوائف المتلذذين بصرخات الألم.
بائع السمك المتجول وجد نفسه “صيدًا” في مسرح التعذيب المقام بقسم الأميرية، ينتظر في “الثلاجة” التي تعني في لغة أقسام البوليس، مكان انتظار الفريسة للوحش الذي سيتسلى عليها في الليل، يوضع بها حصيلة المحتجزين على ذمة المباحث، وتحت إشراف رئيس المباحث، انتظارًا لعرض السهرة، حيث يبحث رجل ملول متعب في آخر يومه، عما يدفع الأدرينالين إلى جسمه الخامل..
لم ينتظر مجدي مكين في الثلاجة طويلًا؛ كانت الحفلة سريعة.. وكما جاء في تقرير الطب الشرعي؛ فإنه تعرض إلى واحدةٍ من وسائل التعذيب التي تحقق أكثر من غرض، وهي “الوقوف علي الظهر”، التي تعني الإذلال، بوضع شخص تحت قدم من يملك السلطة (ويحتكر العنف)، وفي هذا الوضع يتمزق الجسد إذا رفعت الذراع إلى أعلى، وهو ما أحدث “صدمة عصبية“ حسب التقرير تبعها جلطات في الرئة وهبوط في الدورة الدموية، إلى أن استسلم الجسد تماما تحت ثقل “آلة التعذيب” البشرية.
تقرير الطب الشرعي كان وراء انتقال التحقيق مع الضابط وتسعة أمناء شرطة إلى مرحلة جديدة، بعد أن تحولت القضية إلى “مختبر” لإثبات حسن نوايا الدولة، وهذا سر مشاركة فريق من الإعلاميين الحاملين لرسائل الدولة في الحملة ضد “قتلة” مجدي مكين، و هو نوع من الاختبارات تضحي فيها الدولة بعناصر “طلعت ريحتها”، من أجل امتصاص الهجوم على منهجية التوحش في الأقسام.
مجدي مكين ليس الأول في عروض مسرح الأميرية للتعذيب، والجرائم السابقة انتهت بوساطة أطراف أخرى تفرض إذعان أهل الضحية للتنازل عن المحضر، مع أن الجريمة تتنوع بين التعذيب الوحشي، والقتل برصاصة من السلاح الميري، حضور طريقة “تطييب الخواطر” في ظل شعور بأن “لا أحد يُحاسَب” وأن “الباشوات فوق القانون” وأن “مفيش فايدة” جعل التنازل في القضايا السابقة “أمرًا لا مفر منه”..
ولأن بائع السمك المتجول لم يخرج، ولم يولد من جديد، فإنه سيبقي علامة ما على أسوار الأسمنت المسلح، سيسمع فيها صوت الضحايا، لخلخلة العلاقة القائمة على الإذعان، والتي اعادت تشكيل شكل الشوارع لتصبح الأقسام قلاعًا أمنية، لا تشعر بالأمان وسط الناس، ولهذا تعلو الأسوار، و تزداد شراسة المواد المصنوعة منها، ليشعر بالأمان كل وحوش المسارح المتلذذين بآهات ضحاياهم.. وليس مدهشًا أن الأمان لا يتسرب من هذه الأسوار ولا من المناطق المعزولة عن السيارات والمارة.
من سينظر إلى مقرات الأمن المعزولة في مدينتنا، من الطبيعي أن يسأل: هل هي مدينة يحكمها التوحش؟
نكتب هذا في انتظار احالة الضابط (كريم مجدي) إلى المحاكمة، ليس بحثًا عن حق “مجدي مكين”، لأن الحق لا يعود للميت، ولا حتى انتقامًا من المجرمين، لكن حتى لا تتكرر الوحشية.
لمعرفة المزيد عن حي الأميرية و علاقة سكانه بقسم البوليس، يمكنكم متابعة حلقة “حكايات جميلة” عن الأميرية: