في علبة الليل المعدنية
العطشجي شخص مهمته أن يلقم الموتور الجائع في القطارات القديمة بالفحم، وفي القطارات الحديثة يملأ الخزانات بالمياه… يعمل بين الماء والنار و يبقى أمامه لاكتمال الكون؛ عنصر التراب أو الأرض التي تجرى عليها علبة معدنية، تلهث على قضبان تحترق المدن والأرياف، مبتلعة الزمن والناس والأحلام والحكايات…. العطشجي في مكان يرى العالم ويراه العالم، كما لو كان مبعوث إله معدني، وهذا سر رواية مصطفى الناغي الفريدة “علبة الليل المعدنية ” التي حكى فيها عن عالم عطشجي في السكة الحديد، منذ أن كان في السابعة عشر من عمره… الرواية طبعها مصطفى يدويًّا وفشلت محاولاتنا حتى الآن في العثور على نسخة منها حتى عند الكاتب نفسه… مدينة تبدأ في نشر مذكرات العطشجي، التي تدور في علبة الليل المعدنية نفسها، لكن بعد خبرات من الألم والقلق الكبير اجتاحت الكاتب ومنحته بعض الصفاء المتعب… المذكرات مزيج من الرسم والكتابة، يعيد بها مصطفى الناغي بناء ذاكرت بالألوان والمشاعر… ومثل الرواية ستمنحنا المذكرات شحنة جديدة من المتعة والقلق..
مذكرات عطشجي في السكة الحديد
محطة مدينة التبين، في الليل، وأي ليل، كنت أنتظر قطارًا ما، في مدينة ما، عادةً كنت أهبطُ مدينة التبين في الساعة الثانية بعد منتصف الليل.. الظلامُ كثيفٌ للغاية؛ حتى إننيعندما أنظر من نافذة القاطرة، لم أكن أشاهد بقية قطار البضاعة.. من خلفي كان خام الفحم هو البطل الأساسي في علاقتي بمدينة التبين.. القطارات التي تحمل خام الفحم كانت في أحيان كثيره تتقاطع مع القطارات التي تحمل خام الحديد الأحمر القادمة من الواحات الخارجة.. كان مشهدًا مهيبًا، خصوصًا وأن القاطرات الألمانية “الهنشل” كانت بمثابة وحوش بمعنى الكلمة وهي تجر ملايين الأطنان، أيًّا كان ما تحمله من هذا أو ذاك! [هنشل وأبناؤه؛ شركة ألمانية مقرها كاسل، اشتهرت في القرن العشرين كمصنع لمعدات النقل؛ من قاطرات وشاحنات وعربات ومركبات القتال المدرعة والأسلحة، أسس جورج هنشل المصنع في ١٨١٠، وتوقف نشاطها في ١٩٥٧].
أحيانًا كنا نتقابل معًا في نقطة تلاقي فوق جسر مدينة التبين، حقيقة نكون سعداء وكأننا رفاق طريق صعب؛ قطار خام الفحم القادم من ميناء الإسكندرية، وقطار خام الحديد وهو قادم من الواحات الخارجة، كلانا متعبان للغاية، كنا نلِّوح لبعضنا بعضًا. عادةً كان سائقو قطارات خام الحديد في حاجه ماسة إلى الماء والغذاء الذي كان ينفد منهم بسبب الرحلة الطويلة عبر الصحراء!
الإيقاع الليلي لمدينة التبين مخيف في عيني عطشجي سكة حديد عمره 17 عامًا. لكنني تقبلته بحب؛ حيث الجسر الحديدي العملاق، الذي شيَّده المهندسون الروس في عهد جمال عبد الناصر..
دقَّات العجلات على فواصل العجلات والنيل من أسفل القاطرة بلونه الأسود يجعلني في دوامة ليلية، بالأنوار الساطعة لفوهة الفرن العالي، والتي تبدو من بعيد كثقب ينفث خيطًا أسود طويلاً يحتوي السماء كلها.. [الفرن العالي هو الفرن اللافح، أو فرن الصَهْر، يستخدم لاستخلاص الفلزات من خاماتها، ويستخدم بشكل رئيسي لإنتاج الحديد والصلب. ويكيبيديا].
أحيانًا يكون هذا الخيط أحمر، ولا أدري من أي مصنع يأتي، لكنني كنت أستمتعُ به كثيرًا.. خصوصًا مع الدَّقات الوحشية للعجلات الحديدية، مع دفقات الهواء الناتجة عن ضغط هواء القاطرة على الفواصل المعدنية العملاقة للجسر المعدني..
جسور السكك الحديدية للمدن الليلية لها إيقاعات مختلفة؛فجسر مدينة طنطا على سبيل المثال أقل إحساسًا عن جسر مدينة الزقازيق؛ حيث عادة تكون أشجار السَّرْو والكافورتشبه خيال آلهة فرعونية، فيها كثير من الحنان، مع الهواء المشبع بنسيم الترع والمصارف، وشجر الكافور أو الصفصاف.. طبعًا العكس تمامًا مع مدينة التبين؛ حيث الهواء مشبع بكيمياء غاز النشادر، أو الأمونيا.. تفاعل كيمياء هذه الغازات واضح تمامًا في ليل مدينة التبين، ذات الأضواء الفسفورية المميزة لقمم مداخن المصانع ومحطات الكهرباء العملاقة.. ما كان يبهرني بعنف على سبيل المثال؛ كان الأنوار الفسفورية لمحطة كهرباء مدينة شبرا الخيمة، التي كنت أمر عليها في منتصف الليل، متجهًا إلى مدينة الإسكندرية، فكانت تبدو مثل فلاشات مركبة فضاء عملاقة وهي تمر بجانب كوكب المريخ.. وعندما أهبط إلى حوش مخازن قطارات مدينة التبين.. يكون كل شيء هناك له ظلال رمادية.. البشر أشباح سوداء.. والأنوار قليلة للغاية..التكَّات الخفيفة للعجلات الحديدية، واصطكاك تصادم عربات السكك الحديدية بإيقاعها الموسيقي المتميز يجعلني أشعر بالقشعريرة.. نظرًا إلى حالات الموت العديدة التي تعرَّض لها كثير من الأصدقاء من عمال الدريسة على تحاويل السكك.. [عمال الدريسة هم العمال المسؤولون عن صيانة وإصلاح القضبان].. كان للموت صوت موسيقي في محطة مدينة التبين.. خصوصًا مع اختلاط رذاذ خام الحديد مع خام الفحم، وخام فحم الكوك مع خام الإسمنت والدولومَيت [صخر رسوبي يتكون من كربونات الكالسيوم وكربونات المغنسيوم، لونه أبيض يميل إلى الاحمرار] لكن خام خَبَث الحديد هو الأشد قسوة؛ إذ كنتُ على الدوام أسافرُ به إلى نجع حمادي؛ حيث مصانع الألمنيوم.. [خبث الحديد سماد فسفوري ينتج عند صهر حديد الزهر بفرن التحويل لتحضير الصلب، فتتحد الشوائب الفسفورية بالحديد مع البطانة القاعدية للفرن المذكور، وتطفو على سطح الحديد المنصهر ثم تفصل جسمًا مساميًّا داكنًا. ويكيبيديا].
إيقاع مدينة التبين الليلي كاسح.. مع إيقاع أضواء كشافات قاطرات السكك الحديدية وهي تكشف جزءًا من سماء ملبدة بغيمة من دخان بطيء الحركة، الثقيل في إحساسه الكابوسيعلى القلب..
من حظِّي التعس أن لمدينة التبين وجهًا آخر عشته في مراهقتي المبكرة.. حين كنت فتى صغيرًا مشبعًا بالأحلام.. أدرسُ في المعهد الصناعي لمصنع الجديد والصلب.. وهو ما كان محاولة أخيرة من أخي مطراوي؛ كي يكون لي مستقبل أفضل في هذه الحياة! لكنني كالعادة خيَّبت آماله.. وطبعًا هربتُ من مدينة التبين كلها، وليس من المعهد فقط.. واحتضنتني المدينة الخلابة إلى نفسي.. أقصد مدينة حلوان!
في مدينة حلوان كان الحال أفضل؛ بوجود سينما حلوان، والتي كالعادة أدمنتها.. ومن سوء حظي في هذه الحياة أنني شاهدت فيلم الأخرس، لمحمود ياسين، وكان يحكي عن مهندس في مصنع الحديد والصلب، وحدثت له له حادثة في إحدى ممرات الفرن العالي..
الإيقاع النفسي للفرن العالي يُشعرك أنك انتقلت فجأة إلى مدينة برلين؛ حيث حطام المدينة بعد ضربها بالقنابل.. كلُ شيءٍ مهشم.. والدخان الأسود يدمِّر أنفك فيجعل التنفس بطيئًا.. والهواء أصلاً ممتلئ بذرات حمراء وسوداء وبيضاء وبنفسجية ورمادية، مع مرور سحابة من غاز الإيثيل..الشيء الوحيد الجميل في مدينة التبين هو النساء الروسيات، إذ كنتُ أستمتع بحلم يقظة أن أكون عشيقًا لإحدى هؤلاء النسوة!
وعلى الرغم من قسوة المدينة والمصنع فقد كان لها إيقاع مدهش؛ أقصد تكَّات أو رنَّات العجلات الحديدية لقطارات خام الفحم أو الحديد، وهي متجهة إلى محطة التبين؛ حيث جسر السكة الحديد يعلو المدينة، وهو أصلاً يخترقها من المنتصف، ومن ثَم تكون هذه الإيقاعات هي الإحساس الوحيد بالزمن، وسط تراكمات سحب من الدخان الأحمر والأسود والأبيض..
التقسيم الديموجرافي للمدينة يحتل أغلبه مصنع الحديد والصلب وملحقاته؛ فالمدينة تقع تحت خطوط هجرة بشرية تأتي على سبيل المثال من كفر العلو، وأبو رجوان، والصف، والعياط.. وهي مدن خليط من عرق قبلي على عرق بدوي.. ولقد كان لي نصيب أن صادقت أحد الطلبة من المعهد، وذهبت إلى بيته في أبو رجوان، وشربت معه شايًا ممزوجًا مع الفول السوداني.. ويومها قال لي: هذا سلو بلدنا!التمر هو ما جعلني أكره مدينة أبو رجوان حتى الآن..
في محطة التبين لا شجر.. لا طيور.. لا بشر إلا من حكر ذات بيوت قذرة متراصة بشكل يجعلك تبكي وهم يطلقون عليهم هنا في محطة التبين كناسين الفحم حيث يعيشون على سرقة بقايا عربات السكك الحديدية من الفحم الخام، ومن ثَم يبيعونه إلى وِرَش الحِدادة في حي البساتين القاهري. وقد شاهدتهم- هؤلاء البشر- في إحدى الليالي الباردة بملابسهم الرثة ووجوههم الكالحة المغبرة بذرات الفحم، وهم يحملونه في أجولة من البلاستيك، طبعًا كان هناك أطفال؛ الأمر الذي يذكِّرني بعصابات سرقة القمح من حوش محطة صوامع القمح في إمبابة؛ الحي القاهري الشهير، حيث كانت محطة التبين نقطة تجمع عملاقة لخام الفحم والحديد، والإسمنت والدولومَيت والطفلة والفوسفات والمنجنيز والبازلت، هذا غير رحلة القاطرات، وهي تجر مترو الأنفاق وهو “ميت” من ميناء الإسكندرية إلى محطة طرة الإسمنت، وهذه حكاية أخرى!