“حاسب من الخفافيش”..
كانت الحيوانات الليلية تطير فوق رأسي أمام كلية الفنون الجميلة؛ قبل فتحة الممر الضيق الذي تركته حواجز شركة حفر مترو الأنفاق كي نعبر من خلاله بين شوارع الزمالك.
الخفافيش تحركت في حلقة تتسع وتضيق، لا تقترب من رأسي، لكنها تخلق ذبذبات خوف غامض، مركزه في خيال الطفولة “الوطاويط”؛ الاسم الذي تطلقه اللغة الشعبية على الحيوان الثديي الوحيد القادر على الطيران.. يا له اسم مرح على الرغم من الرعب.. أهذه حيلة مصرية للانتصار على الرعب بدفعه إلى منطقة المرح؟
خيال الرعب في الأساطير والحكايات القديمة، دُعِّم بأسطورة معاصرة فسَّرت ظهور وباء الكورونا، بعد تناول رجل صيني في مدينة ووهان لحساء الخفافيش.. الأسطورة ظلَّت أقوى من كل التفسيرات العلمية، وانهالت اللعنات على الصين والحيوان الطائر، واستمر الخفاش رمزًا للوباء الذي ما يزال يرعبنا ولا نراه.
بدا أن وطاويط الزمالك لم تهتم لوجودي، ولا لرائحة الصراع بين الخوف العميق وعقلانية علمية ترتب كل شيء ببرود مستفز أحيانًا.. وبالتأكيد لا علاقة بعودتي منذ قليل من مهرجان الجونة بهذا اللقاء الغريب الغامض، في ظل أضواء أعمدة إنارة نصفها معطل، تسهم في ظلام يمنح أصابع الخفاش المتطورة طريقًا إلى غشاء يسهل الطيران المنخفض.
ربما هي كما قالت صديقتي “ثورة من الحياة البرية في الزمالك”، وذلك بسبب الحفر الذي جعل سكان الحي الهادئ يدورون في متاهة منظمة.. ليسوا وحدهم؛ الموضوع أكبر وأقرب إلى ذبذبات تخترق الوعي الجماعي، اختراقًا غير مرئي، يشبه الوباء يكسر علاقة الناس بأماكنهم، ومدنهم، وبيوتهم، ومناطق الألفة لديهم.
في المدن الكبري؛مثل القاهرة تنشأ المحبة الغامضة من علاقة بين الذاكرة والواقع.. الآن لا مجال سوى للدوران السريع في المتاهات المنظمة، مع لهاث الهدم والبناء، وحركة أصحاب المال والقرارات الهيستيرية لإعادة توزيع المساحات والمقامات.. هذه الهيستيريا هي المحرك الذين نلهث خلفه أو نختبئ منه.
تخيَّل نعيش مع وباء غير معروف بعد، والمدينة تتحطم من حولنا؟ والحياة البرية في حالة هياج، حتى الفئران صعدت للأدوار العليا، والخفافيش حلقت فوق رأسي.. وسُلالات العِرَس المصرية الجديدة تتبختر في مشيتها.. تستعرض قدرتها على فحض المكان بنظرها الحاد…نحن غرباء إذن! والكورونا جعلت من البيوت مخابئ صغيرة؛ وأصبح الخروج مغامرةً حقيقيةً، ولو كان عبورًا لشارع، أو سفرًا لـ ٥٠٠ كم من أجل مشاهدة السينما.
خرجنا من العزلة إلى المهرجان.. كان التردد في قبول الدعوة كبيرًا، تتساوى معه الرحلة الكبيرة في الانتصار على الخوف، كأن الخفاش المرعب الباحث عن فريسة بقرون الاستشعار، أو العين التي ترى في الظلام، يصارع الرجل الوطواط؛ أو الباتمان كما اخترعته السينما لتحكى عن فارس من الأغنياء يخرج من الظلام ليحارب الظلم.
منذ العودة من نيويورك قبل الإغلاق بأيام ،دخلنا عزلة اضطرارية واجهنا فيها هشاشتنا،وتصارعت فيها العزلة الاختيارية مع عزلة الخوف من كل لقاء جماعي، من الخروج،والأماكن الاليفة ، من اليد التي تحولت رسولاً للقاتل غير المرئي… وفجأة خرجنا من هذه العزلة المركبة إلى المهرجان.. إلى لقاءٍ جماعي، وأين؟ في الجونة؛ أي خلف أسوار يتحرك بداخلها مجتمع مغلق يدور حول نفسه.أي في متاهة منظمة كما ترسمها كتب اليوتوبيا.
هذه القفزة؛ هل لها علاقة بالفلسفة والفن والأفكار، أم هي مجرد حلٍّ رأسمالي يرفض الإغلاق التام، ويحارب من أجل تشغيل عجل الإنتاج و الماكينات التي عطَّلها الخوف من الكوفيد 19؟
الكوفيد 19 حاضر من البداية.. فهذه الدورة (الرابعة) عنوانها التحدي.. كيف تتحدى وحوشًا لا مرئية؟ عبأت إدارة المهرجان عبوات كحول 70٪ ومُعقِّم وكمامة سوداء دائمة تحمل نجمة الجونة؛ شعار المهرجان. صاحبتنا عُدة التحدي والمواجهة منذ الخطوة الأولى، وقبلها اعتذارات عن إجراءات للحماية من الفيروس، وضرورة الحفاظ على التباعد الاجتماعي؛ سرُّ أسرار “المقاومة” منذ ظهور الفيروس مطلع العام ،والمصطلح الذي انتشر أسرع من الخوف.
كيف يقام مهرجان في التباعد ..؟
التباعد الاجتماعي؛لم يكن تعبيراً دقيقاً من الأساس، لأن حتى القرب والوصال، بل والاجتماع السياسي،وكافة أشكال اللقاء الإنساني في أقصى تحققها عبر الشاشات التي تنافس العالم بمعناه القديم في أن يكون عالمًا.
الكورونا ساهمت في تسريع انتقالنا إلي عالم مختلف ومجتمع لا يعتمد علي التواصل البدني المباشر…هل المهرجان هو نوع من مقاومة المصي؟ هل نبؤة العلاقات مع عالم لانراه ولا نلمسه تتحقق بشكل أكثر قسوة من فيلم HER إنتاج 2015، حين أحب الرجل إمرأة لم تكن سوى النسخة الأنثوية من ” النظام..”
هل يقاوم مهرجان “الجونة” هذا التسارع؟ أم هي استجابة لصيحة مؤسسه نجيب ساويرس من الأسابيع الأولى لرعب الكورونا في مصر؛ للخروج من البيوت والعودة إلى ماكينات العمل حتى لانموت من الجوع؟
هل الجونة خفاش أم وطواط؟
قبل نصف ساعة من موعد الطائرة قررت أن أسافر..وبعد أن عدت من السفر وبينما أقلب في ملفات الصور فوجئت بصورة لنجيب ساويرس يرتدي تيشيرت أبيض ناصعاً و مرسوماً عليه قناع الوطواط بشكل متقن جداً…
ولم تكن هذه هي الصدفة الوحيدة في الجونة.