اليوم 20 فبراير 2021..
دخلت المنزل نحو الساعة11 ليلاً.. غسلت يديَّ أولاً بالصابون المُطهِّر طبقًا لتعليمات السلامة من وباء الكورونا، ثم بدأت في خلع ملابسي، وأخرجت الروب دو شامبر الذي اشتريته اليوم من محل عمر أفندي الشهير، والقريب من ميدان النعام.. أحب هذا الروب كثيرًا لما فيه من مشاعر إنسانية تبث الدفء في عظام جسدي الواهنة والمريضة بسبب برد السكة الحديد القارس.. الروب رمادي بخطوط بيضاء، ومصنوع من صوف مدينة المحلة الكبرى.. ارتديت الروب وبدأت في تسخين طعام العشاء المكوَّن من البسلة الخضراء والجزر والبطاطس مع ترنشات البصل والطماطم مع مقدار بسيط من الكمون المطحون والفلفل الأسمر؛ الوجبة اللذيذة التي أعشقها بجنون.. طبعًا كان يوجد أرز ابيض دون ملح أو سمن أو حتى زيت طعام.. وهو الأسلوب النباتي الذي اعتادت عليه شخصيتي منذ نعومة أظافري.. وأخذت أقرأ صحيفة الأهرام الورقية.. وكنت يوم الخميس قد اشتريت رواية تراس بولبا للكاتب الروسي جوجول.. وأنا أحب جوجول جدًا منذ أن قرات له رواية “المعطف” وأنا فتى مراهق، وكنت من قبل قد شاهدت مسرحيته “زيارة المفتش العام”؛ الذي لعب دور المفتش العام فيها الممثل الشهير محمد رضا، والشهير بتمثيل أدوار المعلمين وأولاد البلد الجدعان أو أدوار الجزارين.. وكان الممثل الظريف جدًا صلاح السعدني يلعب دورًا أمام محمد رضا.. وأذكر أنني كنت سعيدًا جدًا بالمسرحية التي شاهدتها على شاشة التليفزيون منذ نحو40 عامًا.. وكان التليفزيون بالأبيض والأسود.. لكنني ما زلت أتذكر خفة دم صلاح السعدني والمعلم رضا وكأنها بالأمس فقط.. وأنني كنت سعيدًا بأسلوب جوجول المرح المغلف بالكوميديا السوداء.. كان حبي للكاتب جوجول عميقًا نظرًا لرؤيته الاجتماعية الثاقبة، وأيضًا لعبقريته الفذة في تغيير فن الكتابة القصصية، من خلال الرواية القصيرة “المعطف”؛ التي فجر بها جوجول عروش كتابة عصر النبلاء في القرن الثامن عشر.. وقد أشاد الناقد الروسي الشهير بيلينسكي بعبقرية جوجول النادرة. وفي ظني أن جوجول استمد هذه العبقرية في الكتابة، بسبب صداقته الحميمية، أو لنقل قربه، من الشاعر الكبير بوشكين.. فمن خلال صداقته لبوشكين تمكَّن من الوصول إلى روح الشعب، عبر حادثة حقيقية، وهي أصل رواية “المعطف”..
اليوم الخميس؛ أول أكتوبر 1970..
انتبهت على غير عادتي لجملة من أخي مطرواي، وحقيقةً لا أعرف مع من كان يتكلم مطراوي؛ ربما مع أبي، وربما مع أخي محمود، لكنني كنت مدركًا لسؤاله جيدًا؛ إذ سمعته يقول: ألن تذهب إلى الجنازة؟
وأتذكر جيدًا أنه بعد صلاة العصر بقليل في ذلك اليوم، وجدت أبي وعم سيد قاسم؛ جارنا، يتفقان على أن نُخرج الكراسي والترابيزة ونضعها تحت بلكونة شقتنا.. وبدأت بالفعل في كنس التراب، ورش الأرض بالماء، وربما كان معي حسن قاسم ورضا وحمدي أصدقاء الطفولة.. وصعدنا إلى شقة عم سيد قاسم وحملنا التليفزيون الوحيد في البلوك، ونزلنا ببطء شديد، ووضعنا التلفزيون على الترابيزة بحرص شديد.. كان التليفزيون ماركة تليمصر 40 بوصة.. كل ذلك كي نتفرج على جنازة الزعيم جمال عبد الناصر.. ولا أعرف حقيقة ماذا كانت مشاعري في تلك اللحظة.. لكنني كنت أشعر بالحزن.. وتلك الكلمات تهزني “الوداع يا جمال.. يا حبيب الملايين”.. كنت أردد هذه الكلمات دون وعي.. وأذكر أن أبي وعم سيد قاسم جلسا معنا، نحن الأطفال، على الكراسي.. وربما أتذكر وجه السادات، وهو يلقي خطاب الوداع.. أقول ربما!
لكنني أتذكر جيدًا عواء سارينة الخطر وهي تبث الرعب في قلوبنا جميعًا.. صوت العواء ذاك وهو يرن في فراغ المساكن الشعبية.. وكنت أجري من الخوف وكأنني سمعت صوت محركات طيارة فانتوم.. والطيارة الفانتوم يكفي اسمها فقط كي تلقي الرعب في قلوب الجيران فكانوا يهرعون إلى شقتنا، لأننا كنا نسكن في الدور الأول.. وقد شاهدت ذاك الرعب في نهار صيفي؛ ربما عام 1969، وأم سوزي وزوجها يهرعان بتلهف إلى شقتنا، ويجلسان على الكنبة في الصالة، وأنا لا أفهم من أين يأتي هذا الرعب.. ولكنني لاحظت أن أم سوزي ترتعش من الخوف.. ويبدو أن ذاك الأزيز المرعب كان بسبب طيارة فانتوم إسرائيلية مرَّت من فوق البلوك.. كان الصوت قريبًا للغاية، ولم يكن حائط الصواريخ قد بُني بعد.. سمعت هذه الكلمة من أخي عبد العزيز.. وكان أخي محمود قد ظل مجندًا في القوات المسلحة منذعام1967 إلى عام 1974؛ أي طول سنوات الحرب في الجيش.. ولم تكن الحياة سهلة؛ بل كانت مؤلمة، واللون الأزرق يسيطر على كل زجاج النوافذ.. اللون الأزرق والزجاج الإنجليزي ذو البروز المطلي أيضا باللون الأزرق الثقيل المتوحش في مشاعره الذي لم يكن يسمح بنفاذ ولو خيط رفيع من النور.. فكنت أشعر أننا في سجن، وصوت العواء ينتشر بكثافة، ويخيِّم حتى على الهواء.. كنت أجري بحثًا عن المخابئ؛ تلك البنايات المدفونة في قاع الأرض بلا منفذ هواء تقريبًا.. مصمطة إلا من نوافذ ذات سياج حديدي.. فأتذكر الفنان الإنجليزي هنري مور؛ وهو يرسم الرعب على وجوه الإنجليز في فوهات مترو أنفاق لندن.. وهذا بالضبط ما حدث معي في ليلة مقمرة، ذهبت فيها الأسرة كلها والجيران إلى أحد هذه المخابئ التي كانت في شارع المطراوي.. ما زلت أشم رائحة الهواء المخلوط مع عطن باطن الأرض، وضوء لمبة الكهرباء الواهن، وخيال البشر وهو يتحرك ببطء، والضوء الواهن يحركه تيار هواء بارد قادم من إحدى تلك النوافذ المسيجة بالحديد، التي تشبه نوافذ السجون بالضبط.. وأنا أمسك في ذراع أمي، والضوء يتلاشى، وصوت صراخ بعيد يأتي عبر هذه التجاويف الإسمنتية، وصوت العواء مستمر، يتكرر ثلاث مرات، أربع مرات، وهذا يعني أن الطيارة الفانتوم تقترب. وقتها كانت التعليمات مشددة بعدم لمس أي شيء على الأرض؛ سواء كان قلم جاف، أو عروسة لعبة، أو دبدوب، على أساس أن الطيارات الإسرائيلية تقذف هذه الأشياء التي هي في الأصل ألغام قاتلة!
كان الرعب يسيطر في طفولتي، حتى من هذه الألعاب البسيط.. ولم يكن هناك مفر من هذا الخوف من عواء هذه الصفارة.. وبعدما مر الزمن كنت أنظر كثيرًا لهذه السارينة التي كانت موضوعة على سقف عمارة في شارع المطراوي، وما زلت، حتى الآن، أنظر إلى مكانها كثيرًا.. كانت عبارة عن ثلاثة أبواق من الحديد، تشبه أبواق سارينة القاطرات.. والعمارة من 4 طوابق، وفي ذاك الزمن كانت أعلى عمارة في شارع المطراوي؛ ذات طراز معماري أنيق، ذات شبابيك عريضة وطويلة، ولها سلم عريض، له أيضًا شبابيك تهوية مطلية بالأزرق، ولا زال الزجاج باللون الأزرق رغم مرور الزمن..
طبعًا أزيلت سارينة الخطر تلك، وأصبح مكانها أطباق الساتالايت.. أما المخابئ فأصبح مكانها حديقة جميلة بها شجر أكاسيا، وتحوطها سياج من حديد باللون الأخضر، وقد التف حول السياج نباتات الفل والياسمين.. وكلما مررت على هذه الحديقة أتذكر عواء سارينة الخطر المحذرة من الحرب ومن الطيارة الفانتوم.. لقد كانت طفولتي رحلة من العذاب والآلام، ولكن هذه حكاية أخرى.