“تولد الذكورة من الألم لا من التستوستيرون”.
هذا ما اكتشفته من تأمل رحلتي مع الجسد.. الهرمون يخلق مشاعر ورغبات وصورًا متداخلة.. يضبطها رادار الصورة الكبيرة التي شكلتها العلاقات الاجتماعية ولم تحتل الوعي فقط، لكنها تسربت إلى اللاوعي، لتخلق حالة صراع وهستيريا حول تطابق صورتك مع الصورة العامة.. لتكون مع الجميع في الصورة.. لأننا “كلنا عاوزين صورة”.. هذه الصورة مؤلمة.. تقتل الرغبات، وتخزنها في غرف الممنوع التي تكاد تنفجر، وفي نفس الوقت تغذي صور ارتباط الذكرة بالانتصار والغزو والقنص، وهو ما يدمي قدرات الإنسان العادي.. يجعل الحياة مشروع بؤس وعجز.. ورحلتنا نرجسية جريحة تدمر حياة الآخرين وحياتها؛ لأنها لا تستطيع تلبية صورة الذكورة المجنحة.. قنَّاص الأورجازم.. قاهر النساء.. محرر البلاد.. حامي الضعفاء.. رب البيوت والشوار والمحال والمكاتب والمولات وكل حيز يتضمن أكثر من فرد واحد.
كيف تراكم كل هذا الهراء القاتل في نفوسنا الهشة؟ تخيَّل معي أن هذا الهراء يبني عبر الزمن “يوتوبيا ذكورية”، تقوم على قهر النساء وحبسهن في حيز السيطرة التامة، وتخلق فانتازيات عن الذكر القناص، هذه اليوتوبيا تؤرق صبيًّا يتجاوز الثمانية عشرة من عمره؛ أرقًا يجعل منه سيكوباتيًّا يتلذذ بخديعة مراهقات في عمره وأصغر، تتعرض كل منهن لرغبته الجارفة في استكمال أدوات ذكورته بالمطاردة والإغتصاب ليتطابق مع “صورة الذكر القاهر”، ويترك على جسد ضحيته وفي ذاكرتها علامة؛ بالضرب والإهانة “إنتي كده بقيتي شرموطة..”، ليكتمل الاستعراض الوحشي الذي يقدم نفسه به إلى عالم الرجال؛ بطلاً خارقًا. حكاية هذا الصبي شغلت المجتمع كله منذ العام 2020 مرتبطة باسم صاحبها “أحمد بسام زكي”؛ الذي أصبح ماركة مسجلة عما تفعله الذكورة الجريحة. كيف زرعت هذه الذكورة وحشيتها البدائية في نفس وعقل صبي ابن طبقات مترفة في عصر مختلف وزمن تكسرت فيه حدود السيطرة واقعيًّا واستمرت في العقل والوعي والإدراك؟ إنه شعور بعدم الأمان وفقدان القدرة على تلبية صورة “الذكر المجنح” القادر بانتصابه على إخضاع الجميع.. ومن قاده إلى جرائم يملأ بها الفراغ بين قدرته والصورة المتخيلة؟ هو العاجز الذي يريد الانتقام من “خائنة متخيلة” كما كان شهريار في ألف ليلة وليلة ينتقم من خائنته بقتل امرأة كل يوم حتى أتت شهرزاد وهربت من مصيرها بالحكي.. فانتازيات الكتاب الشهير دللت الجريمة وحولتها لحكاية لكن مع مجرم الألفية الثالثة لم يكن أمامه إلا ممارسة الخفاء في محميته العائلية.. يتخيل الصبي السيكوباتي أنه سيعوض عجزه بالجريمة؛ وهو لم يتلقَ تربية تروض الذكورة مكتفيه بدفع نفقات التعليم الغالي، وتعليمات الالتزام بـ”أدب القرود” مع ضيوف العائلة.. وكان عليه أن يكون البطل الذي يصعد مسرح القسوة لنرى ما تخبئه النفوس من إجرام ذكورية عصر العالم الافتراضي.
…
متى أدركنا إجرام الذكورة الجريحة ؟ في هذه الحلقة الأولى أتوقف أمام بعض شذرات قصيرة من تجربتي مع نغزات الوعي والمعرفة.
الكنز السري
عثرت عليه في الشارع.. اعتبرته كنزي الثمين، خبأته في درج سري، لم أعرف كيف أتصرف معه: كل مايتعلق باللذة لا بد أن يختفي عن أعين الرقابة العائلية..كل ما يتعلق بهذه المنطقة الغامضة ينبغي دفنه.. كتاب بلا غلاف ولا إشارة إلى محتواه.. تخلص منه صاحبه الأصلي.. وعندما وقع في يدي اكتشفت أن الكلام السري والبحث المنفرد عن خفايا اللذة يمكنها أن تكون بين دفتي كتاب. وهذا وعي مفارق سيغير فهمي لحرب دارت بيني وبين غرائزي ورغباتي وملذاتي. وكنت قد عرفت مجلات البورنو؛ ليست مجلات كاملة؛ لكنها صفحات مقطوعة من مجلة متهالكة الصفحات.. اكتشاف البورنو المصور لم يكن فقط حدثًا سعيدًابالنسبة لمراهق كتوم.. لكنه خروج من عالم الخيالات المجردة إلى تجسيد صور الخيال المرعوب، من مفارقة نقائي الذي أتلقى يوميا دروساً عن وجوده المهدد بالدنس والخطايا.
ظل الخيال أكثر نزقًا وجمالاً، يحتفظ للجسد ببهاء ما.. ويلعب ألعابه السرية بكل ما تحمله من شحنات.. الصور كانت ثقافة سرية، وهذا ربما سر الاسم المستعار: مجلة ثقافية.. أو فيلم ثقافي. ثقافة مارقة في مجتمع محافظ يثور سياسيًّا أحيانا.. لكنه يتمهل عند الثورة الاجتماعية.. وقتها كانت الأجساد ما زالت تحمل أثار مرحة. وملابس النساء ما زالت خفيفة وحرة.. والرجال أزاحت قشرة خفيفة تحكمهم في النساء؛ أتحدث عن أواخر السبعينيات من القرن العشرين، بعد قليل من ستينيات الفورات الكبرى في الحريات الشخصية. ففي طفولتي كانت أمي ترتدي الميني جيب والملابس فوق الركبة ودون أكمام بشكل طبيعي.. خالتي الأكبر كانت أقل جرأة في الخروج بهذه الملابس، لكنها لم تعرف ثقافة الملابس الداخلية داخل البيت.. بنات خالتي سرن على درب أمي.
أول معركة عائلية حول الملابس كانت بين ابن خالتي وشقيقته الأصغر؛ كان يعبر المراهقة ويخط شارب الرجولة مكانه بصعوبة مضحكة، كانت المعركة بشأن ارتداء المايوه.. كنا في المصيف المعتاد بالإسكندرية، بأحد الشواطئ العامة-الشاطبي أو ربما ميامي أو سيدي بشر- والشقيق “الحمش” لا يريد أن ترتدي أخته المايوه لأنها كبرت. الأب انحاز للبنت في المعركة.. وأنا أدركت أن الجسد مساحة قلق، حتى في المصيف؛ حيث كنا (أقصد نوع الذكور) يمكننا أن نسير نصف عراة تقريبًا في الشوارع.
عائلة مثل عائلتي بدت من خارجها “حديثة” بالمعني الذي فرضته الإقامة في المدن، وتلبية نداء خروج المرأة للعمل، واستهلاك صور جديدة عن علاقة الرجال بالنساء؛ امتدت من أيام الاستعمار وأصبحت من مستلزمات “الدولة الفتية”التي يبنيها “ضباط التحرر من الاستعمار”، الاستهلاك حالة إعجاب بموديل لم يسهم المستهلك في صنعه وتأسيس، ويصاحب الإعجاب عذاب من نوع الانفصال عما تسميه النرجسية العمومية “الأصالة “.. وعائلتي ظلت معلقة بين التيه بالمعاصرة والعذاب من الابتعاد عن الأصالة المتخيلة.. غادرت عائلتي إلى صورة جديدة؛ بفعل الحماس للحظة الجماعية؛ حماس لم يحولها إلى عائلة متحررة، خصوصًا في مجال الكلام عن الجسد.. ولم تفرق العائلة بيني وبين أختى في المعاملة، استجابة لنداء المساواة.. كان ذلك حتى في الرقابة على النشاط الجنسي، الذي نالت منها أختى نصيبًا أكثر قسوة.
كانت أمي تخاف من شطحاتي الجنسية غير المعلنة.. وتعمدت أكثر من مرة أن تسميها أمامي بالتسمية الشائعة الرادعة في مثل هذه العائلات: قلة أدب.
التسميات دفعت التفكير حول الجسد إلى السر.. إلى الخيالات ربما، أو إلى محاولات فردية للاكتشاف؛ محاولات أعرف أنها ملعونة من التسمية العائلية.. التي ربما لا زالت مستقرة في مكان ما من الوعي المنسي.. أو الذي تم تجاوزه، لكنها تظهر من حين إلى آخر لتشعرني بالذنب كلما اكتشفت لذة عبر الجسد.. أو خضت مغامرة حول الطاقات المهجورة في الجسد الذي يحملني أو أحمله طول عمري وسيغادرني فقط لحظة الموت.
التسميات قادتني أيضًا إلى أحكام قيمة؛ فالعضو الجنسي عند البنات تسميه أمي:” اللولي” ما يعني أنه نادر وغالٍ ويجب المحافظة عليه. وهكذا عندما وجدت حكايات الكتاب الذي عثرت عليه تسمي الأعضاء بأسمائها المتداولة في الشارع، استيقظت حساسية المتعة المحرمة. كانت الحكايات أكثر إثارة للخيال.. في الحقيقة نقلت محبتي لقراءة درجات من المحبة الذهنية إلى عالم الحواس.
ربطتني فانتازيا الحكايات بشيء حميمي مع الأميرات والعبيد والبحارة العابرين والتجار والجواري.. والأمراء أصحاب الأجساد المذهلة.. عالم كامل قادني إلى منطقة حرية لم أسمعها لا في أحاديث رفاق جولاتي القصيرة في الشوارع في أثناء الطفولة والمراهقة ولا استمتعت مثلها مع الصور.. عالم ربط بين جسدي ونشاطي الذهني ارتباطًا جديدًا على وعي الهارب من القيود والصمت المحيط بالعلاقة مع الجسد.. لم يكن الجسد محظورا.. كان حاضرًا.
تجلس نساء العائلة بمنتهي الراحة، الحرية كانت مفصولة عن العيب طول الوقت. كنت أتابع عالم العيب في السر منفردًا، وأقيم بينه وبين الحرية سورًا وهميًّا.. كتابي الحبيب الذي عثرت عليه مصادفة خربش قليلاً في هذه الأسوار.. لكنه بقي علامة على اللقاء الأول الكامل مع صورة الجسد. وعرفت بعد سنوات طويلة أن كنزي السري لم يكن سوى أشهر كتاب عربي؛ ألف ليلة وليلة.
ليس جسداً واحداً
ألف ليلة وليلة دخلت الحيز السري. لم أستطع سحبها معي إلى الحيز المعلن؛ عندي نوعان من الحيز للجسد.. جسد طيب ومثالي ومؤدب.. في حيز علني أمام عموم الناس. وحيز تحت أغطية ثقيلة.. وراء الأبواب وفي حجرات الأصدقاء.. يهرب فيه الجسد إلى مساحات غموضه، وكل حيز يعمل بشكل فعال. أحيانًا دون رغبة مسبقة ولكن بتوازن عندما يختل تقوم القيامة.. في كل حيز حدود يستيقظ فيها الجسد النائم. بينما الجسد الآخر يحضر بشكل خافت، ومثل الظل أو القرين. يهمس. يؤرق. يثير التوتر. أي جسد منهما ينتصر في حالة الصراع؟ بالطبع الجسد هنا يشمل العقل لأن الانفصال بينهما ثنائية اكتشفت سخفها.. وهذه العلاقات المعقدة كلها لا تخصني وحدي.
ذاكرتي الواعية بدأت و الجسد العلني والسري يواجهان غمامة وظلمة مابعد هزيمة يونيو 1967.. الأجساد تغيرت. انكمشت عن تلك التى لاحت أشباحها في ذاكرة الطفولة المبكرة، أو التي كانت تطل من الأفلام السابقة على الهزيمة.. لم يكن التغيير مجرد إرتداء أمي ملابس الحداد على عبد الناصر، أو ترهل أجساد العائدين في استراحة ما بين الحربين. أو حتى في انكماش صور الأجساد المشدودة بأحلام عودة الأمجاد، والصعود من الدول النامية إلى مصاف الدول العظمى.. كل شيء انكمش؛ حتى قشرة موديل التحرر والمساواة والخروج من البيت عادت مع الهزيمة نزوع إلى ميتافيزيقا العقاب الإلهي على مسار البلد.. بدا التفسير اللاواعي هو الغضب من الابتعاد عن الله والسير بعيدًا عن تعاليم الإسلام.. هذا النزوع كان خجولاً في البداية تحت وقع أناشيد وهتافات “هنحارب” و”بكره يطلع النهار” وأنباء حرب الاستنزاف.. انفصلت فكرة الانتصار عن مسار “الحداثة”؛ أي السير على موديل التحديث “الغربي”. وتيقظت الروح على مستوى الحركة دعمًا للحرب. بينما استمر الانكماش فيما يتعلق بالأفكار الجديدة.. كأن العودة إلى الله جزء من خطة النصر.
قراصنة الطبقة الوسطي قرروا الانقضاض على ألف ليلة وليلة. القراصنة أصحاب مشروع أخلاقي. ومشروعهم نسخة مهذبة من ألف ليلة وليلة. وكان هذا من بين إشارات كثيرة حذفت الكثير من تفاصيل الثقافة الشعبية لصالح أخلاق الطبقة الوسطي المهزومة الميالة إلى الشيزوفرينيا.
كانت النسخة المهذبة إشارة متجددة إلى الانقسام في الثقافة بين السري والمعلن. أصبحت الطبعة الكاملة في قائمة القراءة السرية. بينما المهذبة موجودة على أرفف العائلات المحافظة. من هنا لفت الانتباه إلى الكلمات المكشوفة الصادمة بعد أن كانت القراءة الحرة لكتاب مثل ألف ليلة هو نوع من ثقافة لا تدفع إلى سلوك جنسي ولكن إلى خيال مفتوح على حكايات مثيرة للدهشة؛ الجنس محور بطولتها. وظل ألف ليلة شاهدًا على واحد من الانتصارات الغامقة للأخلاق المنافقة، وتحول الحيز السري للجسد من “العيب” إلى “الحرام”.. من الجرأة الشخصية إلى الذنب والجريمة.. حتى إنه في 1985 حكمت محكمة في دمياط بحرق ألف ليلة وليلة.
النسخة المهذبة من ألف ليلة التي عاشت عليها أجيال. قص ريشها، واختزلت قوتها بفعل إرادة الطبقة الوسطى المترددة بين حرية الغرب وأخلاق الشرق. تردد حكم إيقاع الجسد ومساحته وحريته في الخمسين سنة الأخيرة.
..في سيرة الاجساد الكبيرة
ولدت في لحظة التردد الأولى قبل هزيمة يونيو بسنتين تقريبًا. وولدت ابنتي الوحيدة(فرح) بعد أيام من زلزال أكتوبر 1992 الذي نفض المدينة وأخرج من شقوقها أفكارًا، ومن أطلالها رعبًا لم يغب عن الذاكرة. ولدت فرح لحظة شعوري بالخطر. وولدت أنا في لحظة انتشاء؛ البلد كلها تنتظر خطوة كبيرة لتصبح دولة عظمى.. وطاقة هذا الحلم يغلف العلاقات بأغلفة مفكوكة الأربطة.. نحن دولة متحررة.. مغنيتها الأولى” الست “.. والثورة تغني مع عبد الحليم للأجساد الفتية التي تبني السد العالي، ولم يعد أمامها صعب، فما بالك “بيوم تحريرنا فلسطين”.
البلد جسد عفي ضخم يحتضن داخله أجسادًا صحية، تكون عائلات نموذجية؛ رجل وامرأة مبتسمين وحولهما طفل وطفلة. وكانت عائلتنا من هذه العائلات؛ التي ينتظر منها أن تكون دنموذجية، استمعت إلى تعليمات الثورة، وخططت لحياة سعيدة على كتالوج كانت تجسده صور السعداء “رجل بشارب صغير وامرأة مبتسمة وأطفال مبتسمون” أجسادهم محايدة.. خالية من إشارات إلى الحواس او الرغبات. أجساد رياضية في مهمة منتظرة؛ صناعة وطن.
عمال الشركة “الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى” لحظة خروجهم في وردية الظهر – نحو 30 ألف عامل.. يخرجون معها.. أجساد متوترة مرهقة.. تحتفظ بالعافية المطلوبة في العمل البدني. خروجهم لحظة توتر. نشوة القطيع وقوته وتوحشه.
كان الجميع يخافون من لحظة خروج الجسد الضخم؛ خروج له قانون يفرض نفسه. رأيت آثار توحد الجسد العمومي على أبواب ونوافذ وسيارات شارع السبع بنات المجاور لشارع الإنتاج. الرحلة بين الشارعين يتخللها مشاحنات بين عامل وأحد الباعة المنتظرين لحظة الخروج، أو في مطاعم الفول والطعمية، أو مع أصحاب السيارات التي تنسى قانون الشارع الساعة الثالثة. الجسد الكبير يضبط إيقاع المدينة في تلك اللحظة. وعندما يختل القانون يتحول الجسد إلى حالته المتوحشة: الحرق والتكسير والضرب. آثار هياج الجسد الجماعي تبقى عالقة في ذاكرة الشوارع التي لا زلت أراها ساحة حرب.. لا يصلح أن تمشي فيها وحيدًا، بل ذائبًا وسط جماعة.. في جسد كبير.
خبرتي الأولى في صدام الأجساد الكبيرة كانت في عمر التاسعة تقريبًا؛ بعد حرب أكتوبر بسنتين؛ حين رأيت للمرة الأولى الجندي ببدلة وخوذة كاكي يحمل عصا غليظة جدًّا و يهوي بها علي رأس مجموعات العمال.. كانت تظاهرة و العمال يريدون عبور “الكوبري السفلي”(كما يسمون النفق الارضي بلغة اهل المحلة).. قوات الأمن تفوقت في الشراسة علي الجسد الكبير.. تفكك الجسد وتحلل إلى أفراد يهربون في الشوارع الجانبية والأزقة وعلي شريط السكة الحديد.. كانت لحظة انهيار وتبعثر للجسد الكبير المثير للرعب.. يوجد ما يلقي بالرعب في قلب الجسد الكبير؛ توجد السلطة؛ العصا والخوذة لاحقت فكرة الجسم الكبير.
تظهر صورة السلطة الذهنية كلما نادتني رغبة عارمة بالذوبان في الجسم الكبير لمشجعي الكورة، أو في تظاهرات السياسة.. تابعت العصا التي تدور دورات جهنمية في يد جندي يمتطي جوادًا في مباراة كرة مهمة. كانت ممرات دخول الجمهور ضيقة تحيطها أسوار حديدية ويدور حولها عساكر على الجياد وفي أياديهم عصي غليظة وسياط، وجوههم جافة وقسوتهم مبنية على ضعف، في مشهد وكأنه من فيلم تاريخي.
توقفت بعد هذه المرة عن الالتحام بالجسد الكبير في ملاعب كرة القدم حتى سنة 2006؛ يومها وبالمصادفة لم يكن يوم جمعة عاديًّا. ثلاثة تجمعات بشرية في مناطق مختلفة تنهي الفراغ المعتاد في أيام الجمع بالقاهرة. مسيرات حمراء متجهة إلى مدينة نصر.. في كرنفال ملابس رياضية وقبعات ملونة.. طبول تدق إيقاعات الحروب القديمة.. ووجوه مصبوغة على طريقة القبائل البدائية في استعراضات طرد الأرواح الشريرة والقتال مع الأعداء؛ جمهور جديد على كرة القدم؛ صبايا وشباب لم يعرفوا ملاعب الكرة من قبل، لكنهم زحفوا إلى الستاد وراء رغبة (أو احتياج ربما) إلى الدخول في حالة جماعية. رغبة ليست منظمة. انتقلت مثل العدوى بين جيل يجرب للمرة الأولى الورطة العاطفية مع المجتمع.. صبيان وبنات تحت العشرين وفوقها بقليل يخرجون في أفواج لتشجيع منتخب الكرة، ويهتفون وراء إيقاع طبلة الحروب هتاف واحد: مصر!
ولأنهم أبناء طبقة وسطي (برجوازية فالتة من زلزال الطبقات) يتابعون عبر وسائل الإعلام الحديثة مظاهر الاحتفالات الجماعية واستعراضات لجسد الكبير في الكرنفالات التي تمنح الأجساد طاقة من التحامها.. ومصر محرومة من كرنفالات الطاقة التي لا تخضع لسلطة العصي والخوذات.. والجيل الجديد من البرجوازية حاول كسر الحواجز الشفافة وهو مشحون بمشاعر انتماء غريبة على تكوينه وتربيته كمشروع شخص أناني لا تشغله أية أمور أبعد من مستقبله الدراسي. لم يصل كل هذا إلى الشكل السياسي لأنه وريث أجيال مرعوبة من السياسة.