في 1979 عرض التليفزيون المصري فيلم “ليلى في الظلام”، وهذه المرة لم يحذف اسم مؤلفه ومخرجه ومنتجه توجو مزراحي. كان ظهور اسم توجو على التترات أحد مؤشرات التغيير في سياسات الدولة المتحكمة في التليفزيون، بعد كامب ديفيد. وكان هذا بالنسبة للكاتب والمخرج أحمد كامل مرسي “عودة الحق إلى نصابه”، لكن قطاعات واسعة لم تشاركه هذا الحماس الذي كتب به مقاله في مجلة “السينما والناس”؛ أحد المجلات الموجهة لجمهور السينما الواسع. كان تغيير سياسات الدولة مصحوبًا بدعوة مثيرة للغضب هي “التطبيع” مع العدو، وكل ما يأتي في سياق هذا التغيير مرفوض، أو بعيد عن النقاش، أو على الأقل لن يتحول إلى حدث أو اكتشاف أو “حق عائد”، بل على العكس تمامًا أصبح توجو في مرمى سهام المتحمسين الذين تعاملوا مع كل يهودي وكأنه “مشروع” مقاتل في المؤامرة الصهيونية. هكذا دون قليل من تفكير في أن هذا التأسيس يتوافق مع الرواية الصهيونية السائدة بأن “إسرائيل هي المصير الوحيد أمام كل يهودي”. وهي رواية انتصرت سياسيًّا لفترات طويلة، لكنها تكسرت مع ظهور محاولة إعادة تكوين روايات مضادة، أهمها بالنسبة لنا رحلتنا وراء لغز السيد توجو، ومحاولة اليهود المصريين لاستعادة “روايتهم” الخاصة.
والمثير للتفكير أن هذه المحاولات اتخذت خطواتها الجدية في سبتمبر 1979، وكان مئات من المثقفين المصريين الرافضين لخطوات السادات تجاه العلاقات بين مصر وإسرائيل، قد أعلنوا تشكيل لجنة دفاع عن الثقافة الوطنية، برئاسة الأديبة الماركسية لطيفة الزيات، ومهمتها “مواجهة السيل الإعلامي المزيف لحقائق التاريخ الذي تعرضت له مصر”. وكأن “المعاهدة” حين أرادت إغلاق باب الحرب العسكرية فتحت من حيث لا يتوقع أحد حربًا غير معلنة ضد سرد ما حدث.
…الفقاعة
“مصر التي تخصني”، بهذا العنوان يمكن أن نرى بعض تفاصيل العالم الخيالي الذي رسمته عقول رأت في الصهيونية “خلاصها الأرضي”. هذا عنوان أول سيرة ذاتية -تقريبًا- عن حياة يهودية في مصر، كاتبتها راحيل ماكابي، المولودة في الإسكندرية سنة 1915.
عاشت في فقاعة شديدة الانغلاق، وكما يذكر جوئل بنين في كتابه “شتات اليهود المصريين، الشروق 2007”: “طوال العشرين عامًا التي قضتها في مصر صنعت “مسافة” بينها وبين كل شيء في القاهرة، لا تتجاوزها ولو كانت على بعد خطوات صغيرة منها. حتى لو كان هذا العالم يعيش فيه يهود يرتدون ملابس ذات طراز شرقي، ويعيشون في عالم بدائي تقليدي يسيطر عليه الحاخامات، ويختلف تمامًا عن المناخ الذي نشأت به والدتها”. راحيل كانت ترى أن العالم الذي يعيشه المصريون “عالم مخيف”. وقد شربت هذه الفكرة/النظرة من أمها التي انتمت إلى الصهيونية منذ 1904؛ حين أدمنت قراءة صحيفة “السجل اليهودي” [أشهر وأقدم صحيفة يهودية صدرت في بريطانيا سنة 1841]. الأب يرجع أصوله إلى شرق أوروبا، حين قرر أبوه (جد راحيل) السفر إلى مصر، وعمل في شركة قطاوي باشا -رئيس طائفة اليهود السفارديم في مصر- وتزوج من عائلته. صنعت الأم مسافتها أولاً مع عائلة زوجها؛ لأنهم بالنسبة لها “مصريون غرباء”، وذلك رغم أنها الأقرب إلى العرب، فهي تنتمي، حسب جوئل بنين؛ إلى عائلة بغدادية ثرية هاجرت إلى بومباي، لتتاجر في الأحجار الكريمة، ثم انتقلت إلى مصر في فترة غزو نابليون لها.. راحيل ابنة هذه التربية المغرمة بالمسافات والتميز عن أهل البلاد التي تعيش فيها، وتنتظر السفر إلى الفردوس الأرضي؛ أرض الميعاد والخلاص التي وعدت بها الصهيونية مهاويسها منذ القرن التاسع عشر. وكان من الطبيعي أن تنظر راحيل “إلى كل ما هو عربي على أنه قذر وغريب وهمجي”، وتعتبر كل ما هو مصري “غير حقيقي ووضيعًا ومخيفًا، فيما عدا ذكرياتها غير العادية عن الزهور والطعام وماء الورد”. وهو عالمها في فقاعة الأم؛ التي خرجت منها في 1935 إلى فقاعة أكبر وهي الكيبوتس/المستوطنة، ذات الاسم رومانسي: الحارس الصغير.
أصبحت راحيل ضابطًا في الهاجناه؛ الميليشيات العسكرية التي تأسست في 1921 أثناء فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، بهدف حماية أرواح وممتلكات المستوطنات الفلسطينية، ومن فرط تنظيمها أصبحت بذرة جيش الدفاع بعد إعلان دولة إسرائيل في 1948. وبالطبع كانت راحيل في طليعة ضباط الجيش، كما كانت سيرتها واحدة من روايات بناء “العالم الخيالي” فهي تجمع بين رومانتيكية الاغتراب عن العالم المحيط، ومشاعر التوحد الشخصية، مع وعود العقيدة التي تؤمن بها، فتحمل السلاح وتقتل من أجل هذه العقيدة. وهذا ما استوقفني في حكايتها ضمن العشرات من الأشخاص يتوقف عند سيرتهم كتاب “شتات اليهود المصريين”، المقاتلة الرومانتيكية، التي تفعل أي شيء (من الكراهية إلى الاعتداء والقتل) لتقيم “المملكة الخيالية” للهوية.. هي إذن الموديل الذي يسعد هذا النوع من الهويات القاتلة. لم يكن غريبًا ما عرفته في بقية قصتها؛ التي نشرت فصولها الأولى سنة 1965، مسلسلة في صحيفة “كيشت” التابعة للحركة الكنعانية؛ التي كانت ترفض الصهيونية، ومفهوم وجود شعب يهودي على مستوى العالم، وكانت تؤيد وجود هوية يهودية وطنية متجذرة في الشرق الأوسط (تعود إلى الكنعانيين الذين عبروا نهر الفرات قادمين من بابل إلى أرض فلسطين منذ ما يقرب من 3000 عام قبل الميلاد، وسموا بالعبريين أو العبرانيين وهم الإسرائيليون الحاليون). وفي ذلك الوقت، الخمسينيات والستينيات، كان من النادر أن يعترف أحد بحقيقة أن نسبة كبيرة من اليهود الإسرائيليين قد ولدت في دول إسلامية شرق أوسطية، أو كانوا أطفالاً لهؤلاء الذين ولدوا هناك.
ويرى جويل أن اعتراف راحيل ماكابي بمسقط رأسها أثار اهتمام محرر الصحيفة بفصول السيرة، التي اختار لها العنوان الذي كرهته راحيل، لأنه يوحي برابطة عاطفية لم تشعر بها نحو مصر، وكانت تفضل عنوان القنطرة غرب “الذي يشير إلى آخر محطة قطار في مصر على الطريق إلى فلسطين”، وهذا يتسق مع نفسية هذا الموديل من “مقاتلات الهوية” فهي قاطعة حاسمة، وتريد دائمًا إثبات إيمانها المطلق بعقيدتها، لكن هذه المرة سيتعارض إثبات الولاء للصهيونية مع غرض نشر سيرتها لإقناع الجمهور “الإسرائيلي” بأن الهوية ولدت في رحلة بين بابل وفلسطين.
….بكائية “بنت النيل”
صاحبة السردية الأولى المتكاملة عن “اليهود المصريين”، اختارت لنفسها اسمًا مستعارًا هو “بنت النيل” أو “بات- يائور” بالعبرية. اسمها الحقيقي جيزيل ليتمان؛ يهودية مصرية عاشت في سويسرا منذ عام 1956. وكما يذكر الباحث الأمريكي جوئل بنين فهي من المهووسين بـ “البكائية الجديدة”. وهو التعبير الذي لخص به مارك كوهين أستاذ دراسات الشرق الأدنى بجامعة برينستون مفهومًا يقوم على “تصور كئيب للحياة اليهودية في أرض الإسلام، يؤكد على استمرار القمع والاضطهاد منذ عهد النبي محمد حتى زوال معظم الطوائف اليهودية العربية عقب الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948”. وهذا الاسم الأدبي لم يكن فقط غرامًا بالذاكرة الشخصية للأديبة، بل كان خاتم مصداقية، لكي يتحول كتابها الصغير المكتوب بالفرنسية “اليهود في مصر: سرد موجز لتاريخ 3 آلاف عام” إلى “رواية معترف بها” وتتلقفه مؤسسات رئيسية في تكوين “الدولة”، وفي المنظمة الصهيونية كلها.
نشرت المؤسسات الرسمية رواية “بنت النيل” في 1974؛ وهي الرواية التي تحاول صنع مأساة لليهود القادمين من المشرق، والذين يسمون بالعبرية مزراحيم ومفردها مزراحي.. وبكائية المزراحيم هي رواية موازية لمحرقة الأشكيناز بالنسبة لليهود القادمين من أوروبا. لكنها في الأساس قصة من تلك القصص التي تبنيها هوية الكتالوجات بكل قداستها، تضع صورة الضحية كاملة الأوصاف، ليتأسس عليها “حقيقة متخيلة” في “وطن” ينتظر الضحايا القادمين من شتاتهم.
رواية “بات ـ يائور” كانت ردًا على رواية يتبناها “صهاينة” فيما قبل 1948 عن وجهة نظر إيجابية للتاريخ الطويل لليهود في مصر، وكما يذكر بنين في كتابه “عن الصمت شبه التام الذي قيد به اليهود المصريون أنفسهم حيال حياتهم في مصر منذ 1948 إلى أواخر السبعينيات من القرن العشرين”.
البكائية الجديدة التي كانت طليعتها رواية بنت النيل، ترسخ “اضطهاد اليهود” ليتوازن مع مطالبات الفلسطينيين بحقوقهم وممتلكاتهم التي جردتهم إسرائيل منها”، كما أنها ستبعد اليهود المشرقيين عن “أية روابط ثقافية مع العالم العربي. التي ينظر لها على أنها من أعراض التخلف”. وفي النهاية لمعت البكائية في لحظة “كان الابتعاد عن العالم العربي/ ثقافته/ روابطه/ تاريخ التعايش فيه، هو ثمن الانتماء للمجتمع الإسرائيلي”. البكائية أقوى مسمار في جدار العزلة، وأقوى أدوات الهوية القاتلة في السيطرة على جمهورها.
…الهويات الملتبسة
في 2 أبريل من نفس السنة التي غادرت فيها المقاتلة الصهيونية محطة القنطرة غرب ،1935، كان شالوم يظهر على الشاشة بطلاً لسلسلة أفلام تحمل اسمه (قبل إسماعيل ياسين وليلى مراد). بدأ مع “شالوم الترجمان” وتلاه مع “شالوم الرياضي” 1937، ثم المندوبان، والعز بهدلة. وتقريبًا في كل هذه الأفلام كانت تتشكل ملامح “هوية سينمائية” للشخص الذي يحمل اسمًا رسميًّا هو “ليون أنجل” الذي التقطته عين السيد توجو من أدوار صغيرة في فرقة الجزايرلي؛ أحد أشهر فرق المسرح الشعبية آنذاك. اختفى الاسم الرسمي تدريجيًّا من الذاكرة ومن تترات الأفلام (عمل مساعد مخرج مع توجو)، وذلك بينما كان توجو الذي اكتشفه يغير اسمه ليصبح اسمًا مألوفًا، أو للتخفي من عائلته المترددة تجاه عمل ابنها النابه في الفن [توجو عرف باسم مسلم (أحمد) ونصفه الثاني ترجمة لاسمه اليهودي (المشرقي)]. تعدد الأسماء في مثل هذه الحالات فيه شيء من اللعب، والتنقل الحر بين أكثر من عالم شبه مكتمل.
وهذا مستوى من الهوية الملتبسة، وهو مصطلح تستخدمه ديبورا ستار كثيرًا في كتابها عن توجو مزراحي الذي “تعبر أفلامه عن نوع معين من الانتماء الوطني، وتقدم تعريفًا للذاتية المحلية المشتبكة مع خطابات الهوية الوطنية والجنسية” تشير ديبورا إلى مثال لهذه الهوية السائلة، وهو “ابن البلد”، الوصف الذي أُطلق على المصريين لتمييزهم عن النخب التركية والشركسية. هوية متكونة من تراكم الزمن وتفاعلات الناس مع الظروف السياسية والاقتصادية والسياسية، وليست “هوية الرسائل الخالدة “التي تحاول إقامة ممالكها وإمبراطوريتها ومجدها القديم في زمن مختلف، بما يمكن تسميته “تمرينات على المستحيل”.
كان شالوم في هويته السينمائية بائعًا متجولاً (يبيع في الشوارع، بضاعته هي أوراق اليانصيب، أي الحظ والمغامرة) وصديقه المقرب عبده؛ مسلم يعمل غالبًا صبي جزار يعاني سوء معاملة معلمه، وبهذا الثنائي يحكي الفيلم عن طبقة لا ينظر إليها طوال التاريخ إلا باعتبارها كتلة تحت غبار الفقر والتخلف والبلاهة، أو ملائكة مضطهدين يتعودون على ضربات يد الشر الطويلة. لكن بدخولهم في الحكاية يتغير مصير شالوم وعبده ويصبحان مرآة، لا موديل للاحتذاء، ولا فيلسوفين يعبران عن حكمة المشردين والمهمشين والفقراء، كما كان يفعل شارلي شابلن.
ديبورا ستار ترى أن توجو مزراحي لعب على توسيع مفهوم “ابن/ بنت البلد” ليشمل يهود الطبقات الدنيا الذين يتحدثون العربية. وعلى توسيع مفهوم المواطن الذي يتبناه عموم الناس “بينما كان شالوم يستفز الطبقة البرجوازية العليا من اليهود الذين ينظرون بازدراء إلى الفقر والقيم الدينية التقليدية التي تميز سكان حارة اليهود، الحي اليهودي في القاهرة، كما رفض الكثيرون منهم استخدام اللغة العربية. فلم يروا أنفسهم قط على أنهم يعتنقون هوية ابن البلد التي يمثلها شالوم”.
لكن رافاييل موصيري، وهو قارئ، لصحيفة “الشمس” المصرية اليهودية الصادرة باللغة العربية، كتب رسالة إلى المحرر بعد عرض فيلم “العز بهدلة” يشكو فيها من أن الفيلم يحط من قدر اليهود. ديبورا ستار تعجبت من أن الفيلم الذي يقدم “علاقة صداقة بين عائلتين مسلمة ويهودية”، وكان مستفزًا لكاتب الرسالة الذي رأى “أن سلوك شالوم وصمة عار على المجتمع، فهو يسرق اللحوم من محل الجزارة حيث يعمل عبده، وتظهر تظهر شخصيته قذرة وأنانية وبخيلة”، ويناشد موصيري مزراحي لاستخدام موهبته العظيمة لتجنب تصوير الشخصيات اليهودية بهذه النواقص “من واجب مزراحي بصفته يهوديًّا إظهار فضائل إخوانه اليهود، وإبراز مظهرهم على الشاشة الفضية”. وموصيري، يهودي ناطق بالعربية يعمل في مجال الصحافة العربية اليهودية، وقد نشر آراءه تلك في مجلة تدعو إلى دمج اليهود في الثقافة المصرية.
السيد توجو ليس من هذا العالم المعقد للهوية المغلقة /القاتلة، لذلك اختار شالوم ليكون “بطل” فيلمه الصامت الأول، الذي عرض في نسختين؛ سكندرية باسم “الهاوية”، وقاهرية باسم “الكوكايين”. وكان ذلك في 1930، في عز حرب الدولة في مصر على مخدر الكوكايين.. حتى إن توماس راسل حكمدار القاهرة من 1902 إلى 1946 أرسل خطاب شكر لصناع الفيلم على التوعية بخطورة المخدر، الذي ذكر الحكمدار في مذكراته (ترجمة مصطفى عبيد -دار الرواق-2020) إن “من بين 14 مليون هم سكان مصر كان نصفهم يتعاطى الكوكايين”.
شالوم بطل سينمائي، وليس بطلاً حربيًّا أو مناضلاً من أجل الهوية. في الواقع هو موظف، وتظهر أصوله اليونانية في لكنته وطريقة نطقه للعامية المصرية. وديانته نراها في طريقة إلقاء التحية، أو في اسمه الفني: شالوم، الذي ظهر به منذ فيلم صامت مع توجو اسمه “5001”؛ وبدأت فيه بذور شخصيته؛ رجل صغير فقير، ابن شارع، يتلقط الأموال من أعمال صغيرة، وتلعب المعافرة والمصادفة دورًا رئيسيًّا في استمراره بالحياة، يبيع ورق اليانصيب ويكسب من إحداها ثروة مفاجأة، لكنه لا ينسجم مع عالم الثروات ولا يجيد حياة الأثرياء ويفضل العودة إلى حياته الأولى. وهي تيمة ستتكرر في أفلام توجو مزراحي، سواء مع شالوم أو مع غيره من أبطال “صغار” يواجهون تحديات أكبر من إمكاناتهم، وتتفجر في كل صدام “مهزلة”، ونهاية تشبه الحكايات الشعبية الساذجة بنهايات سعيدة فيها الكثير من الانتشاء والرضا للفقير المضطهد.
شالوم؛ البطل اليهودي ظهر في ذروة جرائم الفاشية والنازية ضد اليهود (وغيرهم من الأقليات الجنسية والعرقية والدينية)، وبداية نشر الخوف والرعب الذي استثمرته المنظمات والجماعات الصهيونية ليكون محرضًا على هجرات يهودية إلى فلسطين، باعتبارها أرض الوطن الموعود من الله. وهكذا غادرت راحيل وظهر شالوم، في نفس العام (1935) الذي كان فاصلاً في وضع اليهود المصريين، بعد أن ظهر المستوطنين اليهود في فلسطين بالأسلحة، وهو ما كان بداية لثورة فلسطينية في 1936. وبدأ صدى هذه المعركة المسلحة يظهر في مصر ممثلاً في ارتفاع صوت التيارات ذات الملمح الفاشي.
…هامش قصير: عن الخواء الموحش
جاكلين كاهانوف نقيض راحيل مكابي. ليس تمامًا، لكنهما يمثلان الوجه المثقف من “جنود الهوية”. هي مقاتلة شرسة من أجل الصهيونية مثل راحيل مكابي، عملت لخدمة تيار ضد الصهيونية يرى الهوية اليهودية “تاريخًا مقدسًا” آخر. وهذه الصراعات والفروقات ليست مهمة في تربيتنا العاطفية كثيرًا؛ فالعدو كتلة واحدة، ولا وتكتمل هويتنا إلا ببلورة العدو الذي نحاربه، والعالم الذي نعاديه والدوران حول الطوطم المقدس لنقيم مملكتنا ذات الرسالة الخالدة، حتى يعود “الخليفة” الغائب.
التفكير ضد الهوية لا بد أن يسير في اتجاه واحد، وهو الإثبات أو التفسير، دون إرشادات لكيفية الدوران الصحيح. واكتمال الانتماء رهن بتصديق الهراء متعدد المستويات الذي يحشو فراغ ملايين البائسين غير القادرين على الحياة دون كتالوج، وكلما كان الكتالوج كبيرًا وشاملاً ومُنزلاً من “المنطقة المظلمة في النفس البشرية التي تبحث عن شيء تقدسه أو تذيب ضعفها في كيانه الضخم” كان مناسبًا.
الوهم بالمهمات النبيلة هو مغناطيس الهويات، ومصدر جاذبيتها عند الراغبين في التميز والهاربين من الخواء الموحش. هل قلت خواءً، ولم أذكر أن تحوَّل الهوية من صفات تجمع مجموعة من البشر، إلى عقيدة تتغذى على الدماء والقتل والإلغاء، هو تنظيم وإحكام لهذا الخواء الموحش في عالم متخيل ومصنوع من روايات مبتورة، مشوهة، مختلقة، ناقصة؟
ما الفرق بين جاكلين كاهانوف وراحيل مكابي؟ جاكلين قطعت رحلة أطول لتصل إلى نفس النقطة التي وصلتها راحيل: إسرائيل هي المصير والحل، لكن كيف.. وما الذي اختاره السيد توجو من الخيارات المطروحة على اليهود المصريين؟ ومن الذي ورث أفلامه وأوراقه السينمائية؟ و….مازال الغطس مستمر لنفهم لغز السيد توجو.