في مجلتنا الجديدة نشاركك مقالات وأفكار تبحث عن الجمال والحرية، وتفتح مساحات لاكتشاف سرديات جديدة بعيدًا عن القوالب الجاهزة.
…الفقاعة
“مصر التي تخصني”، بهذا العنوان يمكن أن نرى بعض تفاصيل العالم الخيالي الذي رسمته عقول رأت في الصهيونية “خلاصها الأرضي”. هذا عنوان أول سيرة ذاتية -تقريبًا- عن حياة يهودية في مصر، كاتبتها راحيل ماكابي، المولودة في الإسكندرية سنة 1915.

راحيل ماكابي..كاتبة إسرائيلية
عاشت في فقاعة شديدة الانغلاق، وكما يذكر جوئل بنين في كتابه “شتات اليهود المصريين، الشروق 2007”: “طوال العشرين عامًا التي قضتها في مصر صنعت “مسافة” بينها وبين كل شيء في القاهرة، لا تتجاوزها ولو كانت على بعد خطوات صغيرة منها. حتى لو كان هذا العالم يعيش فيه يهود يرتدون ملابس ذات طراز شرقي، ويعيشون في عالم بدائي تقليدي يسيطر عليه الحاخامات، ويختلف تمامًا عن المناخ الذي نشأت به والدتها”. راحيل كانت ترى أن العالم الذي يعيشه المصريون “عالم مخيف”. وقد شربت هذه الفكرة/النظرة من أمها التي انتمت إلى الصهيونية منذ 1904؛ حين أدمنت قراءة صحيفة “السجل اليهودي” [أشهر وأقدم صحيفة يهودية صدرت في بريطانيا سنة 1841]. الأب يرجع أصوله إلى شرق أوروبا، حين قرر أبوه (جد راحيل) السفر إلى مصر، وعمل في شركة قطاوي باشا -رئيس طائفة اليهود السفارديم في مصر- وتزوج من عائلته. صنعت الأم مسافتها أولاً مع عائلة زوجها؛ لأنهم بالنسبة لها “مصريون غرباء”، وذلك رغم أنها الأقرب إلى العرب، فهي تنتمي، حسب جوئل بنين؛ إلى عائلة بغدادية ثرية هاجرت إلى بومباي، لتتاجر في الأحجار الكريمة، ثم انتقلت إلى مصر في فترة غزو نابليون لها.. راحيل ابنة هذه التربية المغرمة بالمسافات والتميز عن أهل البلاد التي تعيش فيها، وتنتظر السفر إلى الفردوس الأرضي؛ أرض الميعاد والخلاص التي وعدت بها الصهيونية مهاويسها منذ القرن التاسع عشر. وكان من الطبيعي أن تنظر راحيل “إلى كل ما هو عربي على أنه قذر وغريب وهمجي”، وتعتبر كل ما هو مصري “غير حقيقي ووضيعًا ومخيفًا، فيما عدا ذكرياتها غير العادية عن الزهور والطعام وماء الورد”. وهو عالمها في فقاعة الأم؛ التي خرجت منها في 1935 إلى فقاعة أكبر وهي الكيبوتس/المستوطنة، ذات الاسم رومانسي: الحارس الصغير.
أصبحت راحيل ضابطًا في الهاجناه؛ الميليشيات العسكرية التي تأسست في 1921 أثناء فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، بهدف حماية أرواح وممتلكات المستوطنات الفلسطينية، ومن فرط تنظيمها أصبحت بذرة جيش الدفاع بعد إعلان دولة إسرائيل في 1948. وبالطبع كانت راحيل في طليعة ضباط الجيش، كما كانت سيرتها واحدة من روايات بناء “العالم الخيالي” فهي تجمع بين رومانتيكية الاغتراب عن العالم المحيط، ومشاعر التوحد الشخصية، مع وعود العقيدة التي تؤمن بها، فتحمل السلاح وتقتل من أجل هذه العقيدة. وهذا ما استوقفني في حكايتها ضمن العشرات من الأشخاص يتوقف عند سيرتهم كتاب “شتات اليهود المصريين”، المقاتلة الرومانتيكية، التي تفعل أي شيء (من الكراهية إلى الاعتداء والقتل) لتقيم “المملكة الخيالية” للهوية.. هي إذن الموديل الذي يسعد هذا النوع من الهويات القاتلة. لم يكن غريبًا ما عرفته في بقية قصتها؛ التي نشرت فصولها الأولى سنة 1965، مسلسلة في صحيفة “كيشت” التابعة للحركة الكنعانية؛ التي كانت ترفض الصهيونية، ومفهوم وجود شعب يهودي على مستوى العالم، وكانت تؤيد وجود هوية يهودية وطنية متجذرة في الشرق الأوسط (تعود إلى الكنعانيين الذين عبروا نهر الفرات قادمين من بابل إلى أرض فلسطين منذ ما يقرب من 3000 عام قبل الميلاد، وسموا بالعبريين أو العبرانيين وهم الإسرائيليون الحاليون). وفي ذلك الوقت، الخمسينيات والستينيات، كان من النادر أن يعترف أحد بحقيقة أن نسبة كبيرة من اليهود الإسرائيليين قد ولدت في دول إسلامية شرق أوسطية، أو كانوا أطفالاً لهؤلاء الذين ولدوا هناك.
ويرى جويل أن اعتراف راحيل ماكابي بمسقط رأسها أثار اهتمام محرر الصحيفة بفصول السيرة، التي اختار لها العنوان الذي كرهته راحيل، لأنه يوحي برابطة عاطفية لم تشعر بها نحو مصر، وكانت تفضل عنوان القنطرة غرب “الذي يشير إلى آخر محطة قطار في مصر على الطريق إلى فلسطين”، وهذا يتسق مع نفسية هذا الموديل من “مقاتلات الهوية” فهي قاطعة حاسمة، وتريد دائمًا إثبات إيمانها المطلق بعقيدتها، لكن هذه المرة سيتعارض إثبات الولاء للصهيونية مع غرض نشر سيرتها لإقناع الجمهور “الإسرائيلي” بأن الهوية ولدت في رحلة بين بابل وفلسطين.