مع صوت الطبلة المتلاحق الذي يصمت فجأة ليبدأ من جديد –رأيت ما أريد أن أراه- لكني لم أشعر بارتياح ربما لنظرة الطبقة المتوسطة التي أنا منها للشذوذ (كما كانت تسمى المثلية الجنسية ) في ذلك الوقت. وما إن وصلت إلى شارع الواجهة ورأيت الأضواء تزين حانوت الفسخاني مع جامع وضريح أبو العلا تنفست الصعداء وقلت لنفسي: لا زالت جذور من أيام الفراعنة باقية تصورتها كما هي، لكن حينما سألت علماء الآثار قالوا: لا أحد يستطيع التكهن بنوعي الرقص اللذين كان أحدهما يمارس في المنازل لتسلية الضيوف أو رقص فتيات المعابد والفرق بينهما، ولا يمكن بأي حال من الأحوال ثبات أشياء بذاتها عبر آلاف السنين مع مؤثرات أخرى دخلت إلى مصر من شعوب أخرى.
كبرت ومن مناقشات خالي بمنزله واستراحة الهرم علمت أن الرجل الذي اتهمه البعض بأنه معتوه لأنه أصر على أن يخرج الآلات الموسيقية من المتحف ويجربها هو الدكتور “شيفرز”، وأنه أضاع عمره كله – رغم دراسته العميقة الموسيقى- في تتبع الموسيقى الشعبية المصرية والآلات من أقصى الصعيد حتى أعلى شمال الدلتا ومن سيناء حتى الصحراء الغربية، لا أدري من أين كان يأتي بالمعونة والمساعدة. هل هي من معهد الموسيقى الشرقية.. أم من القصر الملكي.. أم الحكومة الألمانية؟ لكنه كان دائم البحث والسؤال والسفر والترحال والتدوين بالألفاظ العربية وبجانبها اللغة الألمانية والنوتة الموسيقية. خالي دائما يستقبله ويحضر له كتباً من مكتبته. لا يضيع وقته أبداً لابد أن يسأل في شيء مهم. أصبح اسم “د. شيفرز” بالنسبة لي أسطورة. كلما قلت لخالي شيئاً في الموسيقى أو ذكرت له مكاناً إلا وقال لي: سبقك إلى معرفة هذا ودراسته بعمق “د. شيفرز”. حينما قررت الذهاب إلى سيوة سنة 1951 قال لي خالي: إن أردت أن تنصت للموسيقى الحقيقية للصحراء الغربية فلا بد أن تذهب إلى “الزيتونة”. سبقك إليها “د. شيفرز” لكنك لن تستطيع الذهاب إليها بمفردك، فلا بد أن أكتب إلى المأمور خطاباً ليرسلوا معك خفيرين لأنها منطقة خلف ملاحات ينفون فيها المتمردين والسكاري، وهم في سيوة يشربون شراب “اللبجي” وهو عبارة عن عصارة النخل. يقلمون النخلة من سعفها، ثم يشقون شقا يربطون أسفله وعاء فخاريًّا له فوهة. أنا واثق أنك ستحتفظ به لجماله كفن شعبي يتعدى كل العصور والأماكن. “الليجي” إن شربته في الصباح فائدته عظيمة وطعمه ورائحته لن تنسى، إنه يشبه عصير القصب لكنه دون سكر وبه مزازة وبه رائحة “الجمار” وأكثر كثافة لكن احذر أن تشربه خميرا أو ثاني يوم فهو خمر شديدة إلى أقصى درجة.
في سيوة بالتأكيد قررت أن أذهب إلى “الزيتونة” وهي عبارة عن غابة من أشجار الزيتون والنخيل على ضفاف ملاحات. قال لي المأمور: إن أردت أن تنصت إلى موسيقاهم وأغانيهم فلا بد أن تقضي الليل معهم. فلا يبدأون في الغناء إلا ليلا يسهرونه معربدين يشربون “الليجي” الخمير. ليلتي هناك ليلة لا تنسى، ولا يمكن لأحد أن يتصور وهج النيران المشتعلة والمشاعل منعكسة على صفحة الملاحة الساكنة، لم أكن أتوقعهم وقد صورهم خالي لي شرسين أو متهورين، رأيتهم بالعكس وديعي الخلق دمثي الأخلاق. الموسيقى لديهم تنحصر تقريبًا في آلتين “الناي” ونوع من “الطنبور” أوتاره مشدودة على أربع خشبات. كانت ليلة غريبة. أصواتهم متنوعة وكل فرد يأخذ النغمة من الآخر منوعا إياها بصوت يختلف من حيث الارتفاع والانخفاض أو الصوت الرفيع والأجش –إنه شيء لا يوصف الفجر هناك – الملاحة الرمادية اللامعة، الصمت، و(شوشة النخيل) ترد عليها شجيرات الزيتون الرمادية، وبقايا النيران المنطفئة وسط رجال ثملين وقد التفوا في أحرمتهم الصوفية البيضاء. حين رجعت إلى القاهرة قصصت على خالي شاكرا هذه الزيارة. رد على: سبقك في الإعجاب “د. شيفرز”، ولكنه سجل كل هذا. أصبح “د. شيفرز” عقدتي كلما ذهبت إلى مكان أو أعجبني نغم شارد فالإجابة. سبقك “د. شيفرز”.

التحقت بـ”البريتش كانصل” مع بداية دراستي بكلية الفنون لأحصل على “المتروكليشن”، وحينما وصلت إلى السنة الرابعة كان عليَّ أن اختار مع الأدب الإنجليزي إما الموسيقى أو العمارة أو الرسم ففضلت الموسيقى. مدرسة الموسيقى كانت سيدة بها مسحة من جمال ليست في سن صغيرة ولكنها دائما كانت لا تفيق من الخمر. لا أستطيع القول إني كنت طالب مجد أو دائم الحضور، أضف إلى هذا أنها كانت تتكلم سريعًا جدًا وهي سكرانه مدغمة الكلمات ببعضها. لم أحضر لها من الدروس إلا لماما، واعتمدت على مذكراتها. كان البرنامج ينحصر في موسيقى “الباروك” إلى “ديبوسي” و “رابيل”، ولم يكن أحد يتوقع منا أن الامتحان سيكون في “ديبوسي”، وبما أني لم أكن مذاكرا فقد اعتمدت على ذاكرتي وأخذت أحوم حول الموسيقار ذاكرا أثر الحرب السبعينية على فرنسا و”جمباتا” والفنانين التأثيرين و”رودان” والشاعر “ملارميه”، واختتمت كلامي بأن أهم شيء في موسيقى “ديبوسي” هي “الأرابيسك”، وأهم عزف له هو عزف “د. هيك مان”. ذهبت في موعد أخذ الدرجات، فصرفت لكل التلاميذ الورق إلا أنا، فعلمت أني راسب. نادتني فذهبت إليها قالت لي: من أنت وماذا تعمل؟ قلت لها: إني انتهيت توا من دراستي في كلية الفنون الجميلة. استطردت: لذلك فأنت تعرف كثيرا عن الرسامين التأثيرين، لكن هناك شيئاً أهم وهو ربطهم بالحرب السبعينية، و”جمباتا” وما يحيرني أكثر هو من قال لك عن أحسن من عزف “ديبوسي” هو “د. هيك مان”، فكل الأسطوانات التي تستعيرونها من “البريتش كانصل” هي إنتاج شركة (صود صيدو has master voise) أجبت بشبه ابتسامة: لقد اشتريت الاسطوانات من شركة “دكا” الأسطوانات الكبيرة والصغيرة، فقد أعجبت جدًا يعزف “د. هيك مان”. قالت حقيقة هو أعظم من عزف “ديبوسي”، وأخذ الدكتوراه وكرس حياته فيه، وأحسن من عزف “الأرابيسك”، ولدهشتي فوجئت أني أخذت أفضل درجة.
مضت الأيام وقابلت ولي الدين سامح، وكان قد دعاني للعشاء، أخبرني أنه لابد أن نذهب أولا لنودع السيدة “د. شيفرز” قبل سفرها من مصر نهائيا. قلت له: إنني أذكرها ولكني غير واثق أنها لا زالت تذكرني كطالب عندها في “البريتش كانصل”، استقبلتنا سكرانة كعادتها والمفاجأة نظرت إلي ولي الدين سامح وقالت: هل تعرفه؟ لقد كتب بحثًا هائلاً عن “ديبوسي” وعزف “هيك مان” له منذ سنوات. علمت في الجلسة أنها زوجة “د. شيفرز” الذي حيرني لتكريسه زهرة عمره لدراسة الموسيقى الشعبية وجذورها لشعب غريب عنه، وهي ستلحق به في برلين.
انصرفنا وعلى مائدة العشاء “بمحل الجمال” حيث كنا نجلس دائما أخبرني ولي الدين سامح بالقصة وهو يعصر الليمون الكثير في المياه قبل أن يشربها – ذكر أنه – ذات أمسية كان على “د. شيفرز” أن يترك مصر نهائيا ربما كان ذاك سنة 1956. ثم استطرد – طلبني “د. شيفرز” بالتليفون وطلب مني الحضور للأهمية القصوى. قال إن عليه الآن الرحيل من مصر ولا يدري لمن سيترك أبحاثه كلها وهل سيحافظ عليها أم لا؟ وهل ستترجم أم لا؟ وخصوصًا أنها ليست بالعربية. لم تدم المناقشة طويلاً وقرر من في الجلسة بالإجماع حفظًا لها أن يأخذها كلها معه في الخارج من شرائط مسجلة ونوت موسيقية ونصوص بالعربية وتحتها ترجمتها. سيحافظ عليها أكثر وربما في مصر سيكون مصيرها العدم. في وقت من الفوضى لا ندري متى سينتهي. مضت السنوات وعلمت أن الموسيقار كمال عبد الرحمن ترجم كتيبًا صغيراً كتبته زوجة “د. شيفرز”، وأكد لي الموسيقار راجح داود أن الدكتورة سمحة الخولي رأت التسجيلات والأبحاث محافظاً عليها كلها في برلين، وهناك من قال إنها في تل أبيب.
أظن أنني لا أستطيع أن أختتم كلامي سوى بكلمة كفى.. كفى! وتتجمع الدموع في عيني. لماذا ضحى “د. شيفرز” بأجمل سنوات حياته من أجل المحافظة على تراثنا الشعبي الموسيقى؟ ولماذا لم يوجد إلى الآن لدينا ذلك الفدائي الذي يشعر أنه لا بد له أن يذهب إلى برلين ليترجم لنا ما ضحى “د. شيفرز” بعمره كي يحققه، خصوصًا وأن معظم بعثات “الكونسرفتوار” إلى النمسا وألمانيا –الحقيقة أننا أصبحنا عقلاء نجرى وراء مصالحنا الذاتية وليس فينا الفدائي المجنون– وللأسف الشديد البشرية والحضارة سطرها مجموعة من الفدائيين والمجانين منذ عهد اليونان.