1
أي جسم يحتوي على بطن، أي مدينة أيضًا تحتوي على بطن، لكن الإسكندرية مدينة بجسم يحتوي على عدة بطون. سنسمي هذه البطون “أسواق”. لكل بطن بطبيعة الحال سرة تربط أمعائها وسنسميها “ميادين”. المشي داخل البطون غير المشي على الأذرع الممدودة على شكل بحر، أو حتى الأقدام التي تتخذ شكل مسارات الترام الزرقاء. ذلك أنها -البطن- يمكن أن تحتوي على كل شيء، ويمكن أن تلفظ أي شيء أيضًا. شبه رحم لكن بدفء أقل. أسأل نفسي دائمًا، ما الذي يمكن أن تخبرني به بطون المدن؟
2
سأبدأ بالمشي داخل أقدم البطون، الموجودة في منطقة المنشية؛ من السرة حيث ميدان القناصل سابقًا، حاليًا ميدان التحرير، عند تمثال محمد علي. سنعطي للتمثال ظهرنا وندخل شارع السبع بنات. هناك عدد من الحكايات غزلت على المقاهي وداخل البيوت حول سر اسم الشارع، أشهرها هي الحكاية التي تقول: كان هناك سبع راهبات يشعلن اللمبات الموجودة في الشارع في أثناء الحرب. الآن هناك عدد كبير من محلات الأدوات الكهربائية، التي ورثت شكل الرزق من الخمارات القديمة التي كانت في مكانها، حيث لكل محل زبونه الذي يفضل شراء نجفته من خمارته المفضلة.
وإذا اتجهنا ناحية يمين داخل شارع السبع بنات، سنجد سوق الحقانية. استمد السوق اسمه من “سراي الحقانية” الملاصق للسوق. أشعر في الاسم بمفارقة مضحكة، فكل من له تجربة مع هذا السوق يعرف أنه ليس له علاقة بالحق من أي جهة. حيث إن خيارات التنقية والفصال شبه معدومة. بالإضافة إلى أنه من الطبيعي أن تعود للمنزل وتكتشف أن كيلو الطماطم الذي اشتريته نصفه مدود. وتنتشر في السوق عدة فرشات لبيع الحلويات المستوردة، التي تتميز بقدرتها على مسح تاريخ الصلاحية من على المنتج وطبع تاريخ مختلف. ستكتشف إذا عدت للمنزل -مرة أخرى- أن النوتيلا التي اشتريتها منتهية الصلاحية قبل أن تولد، ستعرف ذلك من انفصال الكاكاو عن الزيت في البرطمان.
بالإضافة إلى كل ذلك فالأسعار في السوق مرتفعة مقارنة مع نظيرتها في سوق الميدان الذي يمكن أن نصل إليه عبر المشي لآخر سوق الحقانية لنجد أنفسنا في الشارع الذي كسل أهله بعد سفلتته تسميته بشيء سوى “شارع السكة الجديدة”، وبالخروج من السكة الجديدة ستقابلنا سرة جديدة على شكل ميدان بشارع النصر به عمود روماني. إذا أعطينا ظهرنا لهذه السرة سندخل بطنًا آخر للمدينة، طويلة وقديمة تمتد من المنشية حتى بحري يسمى “سوق الميدان”، لكن أهل بحري يسمونه السوق الكبير، لأن “الميدان” لا يخصهم، لكن لا يوجد مفر من الاعتراف بحجم السوق حيث إن المسافة من بداية السوق وصولاً إلى بحري تحتاج لخمس وأربعين دقيقة مشى بخطى سريعة.
لاحظت الوفرة في الخضار والفاكهة والطيور واللحوم والسمك الذي يأخذ حيز كبيرا من السوق: السردين والماكريل وسمكة السافوليا – سمكة موسى- وسمك الشراغيش وبلح البحر والجمبري والكابوريا المبطرخة بأحجام مختلفة. هنا لا يوجد مكان لسمك المزارع، لكن في المقابل هناك سمك تخرج منه رائحة الجاز، ربما تم اصطياده من منطقة بها شركة للبترول، أو بطرق غير قانونية للصيد.
توجد أسماك ليست من إنتاج اليوم، تخبرنا وضعية السمكة المرتخية أنها باتت في معدة المحل لبضع ليال. على عكس السمك الموجود في حلقة السمك أو المكس سنجد السردين هناك يلمع وسمك البطاطا في حالة اعوجاج إثر خروجه من الماء وصعود روحه وهو في حالة من الاختناق منذ عدة ساعات فقط.
لن نجد في سوق الميدان أي بضاعة مغلفة، حتى الجبن والحلاوة الطحينية في محل “بلبل”، التي تصنع داخل المحل، تعرض مكشوفة رغم أن ديكور المحل يشبه الصيدليات.
يظهر الملمح النسائي في سوق الميدان، حيث تسيطر على هذا المجال النساء الريفيات الهادئات مع وجود بضائعهن من الملوحة والجبن القريش والبيض والسمن البلدي، بجانب الخضروات الجاهزة للطبخ على الفور مثل: ملوخية مفرومة، بطاطس وكوسة مقورة، وخرشوف منقوع في ماء، وخس وطماطم مجهزين للسلطة، للنساء العاملات.. كلما توغلنا في السوق واقتربنا من بحري سنجد أن العنصر النسائي يزداد، لكن بسمات شخصية مختلفة. سيدات في عقدهن الرابع والخامس يبعن خضروات أو يدرن محلاً لشي السمك، حيث يكتفين بالجلوس على الخزنة. وأخريات يجلسن أمام البيوت، يدخن أو يتسامرن، أو يتشمسن بلا هدف محدد.
في أثناء المشي في سوق الميدان شعرت أن باطن قدمي نمى له عيون، ترى اعوجاج الأرض، تغمض وتفتح وترتعش على حسب إيقاع صعود وهبوط الطين المتجلط. تلح علي رغبة أن أخلع حذائي لأحرر هذه العين الرابعة التي استيقظت، استبدل هذه الرغبة بلمس الفواكه والخضراوات، أو لمس كف الموازين النحاسية. الموازين في محلات السمك واللحم والفراخ موازين رقمية حساسة، أما فرشات الخضار والفاكهة تستخدم الميزان التقليدي ذا الكفتين. منحوت عليه نسر. لا أعرف لماذا النسر! مع أنه مكروه اجتماعيًّا لأنه يقتات الجيف على عكس الصقر. لكن ربما لأن ميزته تكمن أن رأسه بلا ريش يأكل الجيف ولا تتسخ، اعتبرها فكرة مناسبة للسوق بشكل ما، وأكمل المشي للعودة مرة أخرى لبداية السوق. هذه المرة انظر إلى أعلى لأقرأ اللافتات. كلها باللغة العربية “أحمد الحلال عليه- عم عبده- تبارك للأسماك-جزارة الرحمة- يارب سترك- الجمل للمصوغات الصينية- أبو نواس للمشويات- الطيبات للدجاج”. وعلى الجدران تتضافر حدوات الحصان والشباشب الصغيرة والأكف المرسومة بالدماء، أو الألوان، لمنع الحسد، مع الآيات مثل “كلوا من طيبات ما رزقناكم”، أو جمل مثل صلوا على رسول الله أو اذكر الله، لجلب الرزق.
3
عدت إلى النقطة التي بدأت منها المشي في الأسواق، دخلت شارع السبع بنات مرة أخرى، ولكن هذه المرة اتجهت يسارًا. المشي فوق قضيب الترام الأصفر يسبب نوعًا من المرح. ومع المشي يتحول قضيب الترام عندما يصل إلى مقام أبي الدرداء إلى أمعاء غليظة نافرة ملتفة حول هذه السرة الصغيرة. إذا أعطينا للمقام ظهرنا واكملت المشي لنهاية الشارع، سنصل لشارع الخديو، هناك سيكون ناحية اليسار “سوق الطيور” الذي يعقد كل يوم جمعة ومخصص للحمام والكلاب والحيوانات النادرة.
في شارع الخديو-سابقا- كلما توغلنا بالمشي بموازاة الكنيسة سنصدم بسوق الكلاب. لاحظت أن معظم الباعة شباب من عمر 15 إلى 25 تغلب عليهم النحافة وطول القامة والصوت العميق وتف البلغم على الأرض وبعض الإمكانات في عوج الشفتين في أثناء التحدث والنظر في كل الاتجاهات في أربع ثواني، ويد يمنى خشنة وأظافر تجد لها مكانًا بين أسنانهم، مقشرة ومقسومة مثل ساندوتش الفلافل، بداخلها خط أسود من التعامل مع الحيوانات وفضلاتها، يحتفظ بعضهم بظفر البنصر وعلبة سجائر “مارلبورو أحمر” يتأكد من ظهورها. يرتدي معظمهم ملابس مقلدة لكن طابعها ينتمي للطبقة الفوق المتوسطة. كل شاب منهم معه أخوه الأصغر، أو قريب، “ليشرِّبه” الصنعة: صنعة تحفيز ولكز الكلاب للقتال. وجدت بعض الجراء تنظر إليَّ طلبا للرحمة من داخل حقائب الظهر أو أقفاص ضيقة جدًا حينها اختفت رغبتي في خلع الحذاء، واختفت عيني الرابعة كلما توغلت في زحام سوق الكلاب.
ربما ما كان يحفظ توازني هو وجود عربة لبيع المكرونة بالصلصة والدقة، وهي الملمح الأنثوي الوحيد في هذا السوق. إذا خرجنا من السوق ومشينا ناحية اليمين سنجد ملمحًا نسائيًّا آخر يفرض نفسه على الأرض، أكثر قسوة من باعة الكلاب، وهن بائعات الطيور الريفيات. سمينات بأياد خشنة وزغب طيور نائم فوق ملابسهن. سيخبرنا لون الملابس عن سيرة ذاتية قصيرة للسيدة؛ إذا كانت ترتدي السواد، وتضع المال في بوك أو حقيبة صغيرة فإنها غالبًا جديدة، مرغمة على العمل بسبب غياب رب الأسرة. أما إذا كانت ترتدي جلابية قطنية فضفاضة بألوان زاهية، أو قاتمة بينما تفسح مجالاً في حمالة صدرها للكيس القماشي كمحفظة للمال، فإنها وجدت نفسها في التغريبة وشيل الأقفاص والحقائب فوق الدماغ. وبجانب كل منهن حقائب قماشية مستطيلة مثل التي نراها في محطة مصر بداخلها كراتين فيها طيور أو أرانب لم تبع بعد.
عندما نظرت للارض انكمشت قدمي أكثر، ووجدت خطوط دماء ثخينة تلتف حولها، فهمت أنه حينما تشتري من أي من البائعات دجاجة أو حمامة أو أرنب تذبحه لك وتضعه بريشه وبدمه وبحركة الفرفرة الأخيرة في كيس بلاستيكي تلفه عدة لفات قبل أن تعطيه لك. وبعضهن يرسلك لسيدة تجلس على رصيف بعيد لتذبح لك ما اخترت وتغسله بالماء، وتضعه في كيس بمقابل مادي ضئيل.
4
سنترك كل هذا الصخب خلفنا ونستمر بالمشي تجاه مينا البصل، مع اقترابنا من “سوق الجمعة” سنجد على يسارنا “نادي الصعيد العام” في مبنى بجانب بنزينة، يقف وحيدا مستأثرًا بكل الرمزيات الممكنة عن الصعايدة والهجرة والتغير الذي يحدث في المدينة.
تصل قدمي إلى “سوق الجمعة”، تحاول عيني الرابعة أن تنفتح، فتكتشف أنها فوق شارع مهتريء لا يوجد فيه سنتميتر واحد لم يتم المشي أو التبول أو التقيؤ وتف البلغم فوقه. الآن، وبما أن تجارة القطن في هذه المنطقة أصبحت حكاية قديمة تقترب من الأسطورة؛ سنجد أجيالاً جديدة، ربما أبناء هؤلاء الصعايدة القدامى الذين عملوا شيالين في “شون” القطن، باعة في “سوق الجمعة” متجاهلين “ميناء البصل” ومبنى بورصة القطن، عارضين عليها كابينات وبواقى الأخشاب، وسيراميك، ودواليب وغرف نوم مستعملة، وصالونات مستعملة لكن مدهونة بدهان ذهبي جديد.
زرت سوق الجمعة سنة 2005، أتذكر كم البضاعة التي كانت بداخله: كتب وأنتيكات والكثير من دواليب المطابخ وسجاجيد وعدد صيانة. لكن الآن، تحتل الملابس أكبر مساحة من السوق، مثل التي تباع في المنشية ملابس بخامات رديئة لكنها جديدة. بالطبع كانت توجد عدد تليفونات وراديوهات قديمة مع بعض العملات النادرة وسكاكين والميزان النحاسي ذو الكفتين وعليه رمز النسر. النسر مرة أخرى، لكن بطريقة أحس أنها غير متسقة مع المكان. سوق الجمعة لا يوجد حوله مساكن مقارنة بكل الأسواق التي مشيت داخلها. والباعة عليهم آثار معارك قديمة؛ جروح غائرة، وصمت العارفين بطرق الملاوعة والتحايل والنط فوق الأسوار.
5
تغمض عيني الرابعة وتروح في النوم مع دخولي البيت، لتتركني مع أسئلتي بعد هذه الرحلة: ما الذي يمكن أن تخبرني به هذه البطون؟ لا أجد إجابة سوى أنني أريد الاستحمام إثر ما لفظته في وجهي.