ليس مصادفة أن يجسد هذا الميدان الشهير تاريخ القاهرة كمدينة حديثة، حيث اجتمعت عوامل شتى جعلت من العتبة الخضراء بالنسبة لسكان القاهرة القديمة المحطة الانتقالية ونقطة العبور نحو وسط البلد أو باريس الشرق كما أراد لها الخديو أن تكون. وفي المخيلة الشعبية، يحمل المسمى ذاته دلالات متعددة لدى المصريين.
من المنظور الرسمي، العتبة هي مركز مصر ومنها تُقاس المسافات وتُصنف المدن ابتعادًا واقترابًا. جغرافيًا، ميدان العتبة هو مركز القاهرة ونقطة ثقله لأكثر من قرن بالتزامن مع حركة التحديث الكبرى الممتدة بين القرنين التاسع عشر والعشرين قبل أن تنمو المدينة وتعبر النهر في اتجاه الغرب أو تمتد ناحية الشرق. تاريخيًا هذا الميدان هو نقطة التقاء التاريخ بالحداثة أو القاهرة القديمة بالحديثة. كل هذه المعطيات جعلت هذا المكان مسرحًا لأحداث فارقة في التاريخ المصري المعاصر.
ومع نهايات القرن التاسع عشر، تهيأت كافة الظروف التي جعلت من هذا الفراغ الحضري أهم عقدة مرورية في القاهرة، ليس فقط باعتباره نقطة التقاء مجموعة من الشوارع المهمة المستحدثة مثل محمد على (القلعة حاليًا) وعبد العزيز وكلوت بك أو القديمة مثل الموسكي والعتبة الخضراء (يوسف نجيب حاليًا)، التي تربط المدينة شمالاً بجنوب وشرقًا بغرب. ولكن بالنظر إلى المشهد الجديد الذي جسده هذا الميدان ومحيطه للقاهرة كمدينة حديثة، متضمنًا مبنى المحكمة المختلطة (هُدمت وتشغل حديقة العتبة موقعها الآن)، وسوق القاهرة للخضر والفاكهة (على غرار سوق باريس)، وأوبرا القاهرة (على غرار أوبرا ألاسكالا بميلانو – يشغل موقعها الآن جراج الأوبرا)، وحديقة الأزبكية (على غرار بارك منسو بباريس)، فضلاً عن مجموعة من الأبنية والمنشآت المنتقاة بعناية والتي عكست الطابع الأوروبي وقدمت مجموعة من الأنشطة والخدمات الحديثة التي لم يشاهدها أو يألفها سكان المدينة من قبل.
وفي أغسطس من العام 1896 أُعلنت العتبة الخضراء محطة مركزية لترام القاهرة، بعد امتياز منحته الحكومة المصرية لشركة بلجيكية حملت المسمى ترامواي القاهرة، لتنطلق خطوط الترام الأولى في اتجاه مركز الحكم القديم بالقلعة (ميدان محمد على سابقًا – قراميدان قديمًا)، وبولاق حيث قلعة المدينة الصناعية ومرفأها على النهر. ثم توالت الخطوط واحدًا بعد الآخر، ومع منتصف القرن العشرين كان الترام وسيلة التنقل الرئيسية بالمدينة وباتت القاهرة واحدة من المدن التي شكلتها القضبان.
ترام القاهرة والنمو المستدام للمدينة
على مدار تاريخها الممتد، تداخلت مجموعة من العوامل السياسية والطبيعية والاجتماعية في تكوين القاهرة وتوجيه نموها العمراني، ومع بدايات القرن التاسع عشر بدأ محمد علي مشروعه الحداثي، وكانت القاهرة نموذجًا للمدن التي نمت بالتدريج وتشكلت أحياؤها طبقًا لقواعد النمو التراكمي عبر الزمن، وخلال تلك الحقبة تكونت المدينة من هيكل عمراني مجتزأ نسبيًا، متضمنًا مجموعة من الأحياء والأنوية العمرانية المتصلة أحيانًا بدروب وطرقات المدينة القديمة والمنعزلة كثيرًا بالأراضي الخلاء والبرك والقنوات المائية والمساحات المنزرعة. قرب نهاية القرن التاسع عشر كان مشروع الخديوي إسماعيل الضخم قد أحدث تغييرًا جذريًّا في بنية المدينة وأعاد تشكيل مظهرها الحضاري وبات للقاهرة هيكل عمراني واضح اتصلت فيه المدينة القديمة بالحديثة، وكونا معًا مركزًا حضريًّا متصلًا بضواحي القاهرة شمالًا وجنوبًا من خلال خطوط السكك الحديدية التي بدأ إنشاؤها في عهد عباس حلمي الأول، وبهذا تكوَّن للقاهرة نموذج عمراني يضم قلب المدينة ومركزها الحضري الرئيسي (القاهرة القديمة والحديثة) تتصل به الضواحي السكنية (المطرية شمالًا – حلوان جنوبًا) من خلال سكك حديد مصر، وبينهما تقع مجموعة من الأنوية العمرانية المتفرقة (العباسية شرقًا – إمبابة غربًا – شبرا شمالًا – مصر العتيقة جنوبًا).
مع بدء تشغيل خطوط الترام الأولى بالقاهرة، حدثت تغيرات كبيرة في ثقافة الحركة وأنماط الانتقال عبر المدينة، من بينها تراجع وسائل التنقل غير المميكنة (الدواب – العربات التي تجرها الخيول) التي اعتمد عليها سكان القاهرة لقرون طويلة، ومع مرور الوقت وتحديدًا في عام 1914 امتدت شبكة ترام القاهرة لتغطى المدينة بإجمالي أطوال وصل إلى ما يقرب من 65 كم، وعدد ركاب اقترب من 55 مليون راكب سنويًّا. وبالرجوع إلى عدد سكان القاهرة الذي لم يصل إلى 800 ألف نسمة في هذا التوقيت، يتضح أن الترام كان وسيلة التنقل الرئيسية بالمدينة، وفى نهاية عام 1918 وصل عدد مستخدمي الترام إلى أكثر من 75 مليون راكب سنويًّا (وفقًا للمعلومات والإحصاءات المتوافرة)، ومع بداية الثلاثينات كانت آخر الخطوط التي مُدت بطول شارع الأزهر في الاتجاهين ليصل إجمالي خطوط شبكة ترامواي القاهرة لـ30 خطًا متضمنة الخطوط الأصلية والإضافات التي تمت لاحقًا على هذه الخطوط (نقلًا عن جانيت أبو لغد وأندريه ريمون)، وفي ذلك التوقيت كانت خطوط الترام توفر الانتقال لسكان القاهرة عبر شبكة مترابطة تمتد من شبرا شمالاً إلى الإمام الشافعي جنوبًا، ومن العباسية شرقًا إلى الأهرامات غربًا، ولم تتجاوز أقصي رحلة يقطعها الترام من محطته المركزية بالعتبة وحتى أطراف المدينة أكثر من ساعة، وبمعايير تلك الفترة لم تكن هذه المدة الزمنية طويلة و بالأخص أن مواعيد التقاطر على طول الشبكة تراوحت بين ثلاث لـست دقائق على مدار تسعة عشر ساعة متصلة يوميًّا.
ومن الناحية العمرانية أحدثت شبكة ترامواي القاهرة تغييرًا كبيرًا في هيكل المدينة، حيث ساهمت في تكثيف العمران على طول مسارات المناطق والأحياء التي يعبرها الترام، ونتيجة لذلك، تواصلت الأحياء القديمة بالحديثة وأُعيد تشكيل القاهرة كمدينة تنمو بشكل مستمر ولكن في تواصل وارتباط بهيكلها القائم وفقًا لجان لوك أرنو. كما ساهم تقارب المحطات في تعزيز اتصالية النسيج العمراني لملائمة الانتقال والوصول لتلك المحطات بكل سهولة، بالإضافة إلى الفراغات والميادين العامة التي حولها الترام إلى نقاط تجمع رئيسية ومناطق للتنزه والتسوق والترفيه، ومع مرور الوقت بات للقاهرة مجموعة من الساحات والفراغات الشبيهة بالمدن الأوروبية؛ حيث تتواجد محطة رئيسية للترام وتلتف حولها الأبنية الأنيقة ومشهد متميز يحمل الكثير من الحيوية والثراء،وعلى الرغم أن الكثير من هذه الأمكنة تم استحداثها على حساب نسيج المدينة التاريخي وثقافة القاهرة التقليدية، إلا أن فنون العمارة في تلك الحقبة اتسمت بالكثير من القيم التشكيلية والجمالية المهمة، مما انعكس بشكل إيجابي على إرث العمارة المصرية وأضاف مشهد كوزموبوليتاني للقاهرة. كما أن المساحة الممتدة لشبكة الترام عبر المدينة وارتباطها بشبكة السكك الحديدية من خلال محطات الترام الرئيسية بميدان باب الحديد (رمسيس حاليًا) وميدان باب اللوق (الفلكي حاليًا)، ساهمت في الحفاظ على طابع وهوية ضواحي القاهرة مثل حلوان والمعادي جنوبًا، والمرج وعين شمس شمالًا، من خلال سهولة تنقل سكان هذه المناطق عبر مدينة القاهرة، والتي تحققت نتيجة لتكامل مسارات الترام مع خطوط القطار، ويتضح من الخريطة المرفقة كيف تكاملت محطات الترام الرئيسية مع محطات السكك الحديدية وكيف غطت شبكة ترامواي القاهرة الكتلة العمرانية للمدينة أو المناطق الرئيسية لتجمع السكان والأنشطة في تلك الحقبة٠
هليوبوليس والعالم.. الترام وأسباب النجاح
استنادًا إلى نظرية المدن الحدائقية، وتحديدًا في عام 1905 بدأ الحلم يراود البارون إمبان في إنشاء واحتين وسط صحراء القاهرة حيث المناخ الجاف والاسعار الملائمة للأراضي، ونتيجة للظروف الاقتصادية في تلك الفترة استبدلت الواحتان بواحة واحدة. ومع مرور الوقت قدمت تجربة مصر الجديدة (هليوبوليس) نموذج رائد في تخطيط وتنمية المدن الجديدة من خلال توفير منظومة نقل عام سريعة ومريحة، بالتزامن مع إنشاء وتطوير المدينة لتشجيع الناس على الانتقال لهذه المواقع البعيدة نسبيًّا بكل سهولة. وبإجمالي أطوال وصلت لأكثر من 26 كم من الخطوط الحديدية المزدوجة، وعدد ركاب تجاوز المليون ونصف المليون راكب سنويًّا، وفى عام 1914 باتت هليوبوليس واحدة من مدن الترام حول العالم.
تجربة هليوبوليس كمدينة جديدة ملهمة لأسباب متعددة، ولكن الدور الذي لعبه الترام في نمو وتطور المدينة كان محوريًا، حيث بدأت منشآت المدينة في الظهور مع بدايات عام 1908، بالتزامن مع مد خطي ترام للمدينة، أحدهما لربط الضاحية بالعباسية وعُرف بالترام الأبيض، والآخر لربط الضاحية بوسط القاهرة بدءًا من شارع جلال بوسط البلد (عماد الدين حاليًا – الصورة أعلى المقال في المقدمة). ومع منتصف العام 1910 انطلق من ميدان باب الحديد (رمسيس حاليًا) الترام السريع لتعزيز الوصول إلى المدينة في زمن أقل، والذي عُرف بين سكان القاهرة بمترو مصر الجديدة، ومع الوقت تفرع إلى ثلاثة خطوط رئيسية، حملت أسماء النزهة والميرغنى وعبد العزيز فهمي، وتميز هذا الخط مع بدء إنشائه بسرعته العالية ومواعيده المنتظمة، وعلى الرغم من المسافة الطويلة نسبيًّا في ذلك الوقت بين محطة الانطلاق في وسط المدينة ومحطة منشية البكري والتي تبلغ 10 كم تقريبًا، إلا أن مترو مصر الجديدة كان يقطع هذه المسافة في أقل من خمسة عشر دقيقة (وفقًا لـمرسيدس ﭭوليت). ومع بدء تشغيل الخط كانت هذه المسافة تأخذ زمنًا أقل ثم عُدلت المدة الزمنية للرحلة بعد أحد الحوادث التي نتجت بسبب السرعة المرتفعة، وترجع سرعة هذا الترام إلى تصميم مساره بشكل منعزل ومستقل عن الطريق فضلًا عن تطور عرباته واختلاف مظهرها، لهذا عرف بين القاهريين بالمترو وتفرعت من هذه الخطوط شبكة أخرى من التراموايات غطت شوارع ومناطق المدينة الحديثة، ونتيجة لسرعتها المنخفضة لم يُخصص لها مسارات منفصلة مثل المسارات الرئيسية التي تربط الضاحية بوسط القاهرة، ولكن شغلت حيزًا من الشارع بالتشارك مع وسائل التنقل الأخرى من منظور الشوارع المشتركة Shared Streets التي تدعم وسائل حركة متنوعة وتخلق أنماط متعددة للتنقل، وتُعد هذه الممارسات الجيدة ظهورًا مبكرًا للعديد من الاتجاهات والنظريات المعاصرة في تخطيط النقل المستدام داخل المدن.
تميزت تجربة تنمية هليوبوليس بالتوازن بين متطلبات التنقل عبر المدينة من خلال خط الترام السريع (مترو مصر الجديدة) الذي يربط الضاحية من الخارج بالقاهرة من خلال مسارات منفصلة وأسعار ملائمة ومواعيد منتظمة وبين خطوط الترام الأخرى (الأقل سرعة) التي توفر الانتقال داخل المدينة بسهولة، وبمراجعة الكثير من التجارب العالمية المعاصرة في استخدام وتشغيل الترام، يتضح أن الكثير من مدن العالم، و بالأخص التاريخية منها تحافظ على شبكات الترام وتعمل على تجديدها باستمرار استنادًا إلى أهمية الحفاظ على الموروث التاريخي والصورة الذهنية لتلك المدن مثل مدينة لندن وتونس ولشبونة بالبرتغال والدار البيضاء بالمغرب وسان فرانسيسكو التي تمتلك شبكة ترام أقدم قليلًا من شبكة ترام القاهرة، وهناك محاولات متجددة لكثير من دول العالم في إدخال الترام ضمن منظومة التنقل الخاصة بهذه الدول، باعتباره أحد بدائل الحركة الأكثر استدامة وفاعلية و بالأخص للمدن الصغيرة والمتوسطة.
الترام ومستقبل المدينة المصرية
لقاء القاهرة بالحداثة كان مبكرًا ومنقوصًا في ذات الوقت، فقد عرفت المدينة نتيجة لموقعها الجغرافي ودورها البارز في التاريخ كافة وسائل التنقل والحركة عبر التاريخ الحديث، بدءًا بالقطار ثم الترام وبعده الأومنيبوس (الأتوبيس) ثم انتشار الأوتوموبيلات الخاصة (السيارات) وبعدها التروللى باص وانتهاء بمترو الأنفاق وقريبًا المونوريل والأتوبيس الترددي (BRT) والقطار الخفيف (LRT) والقطارات فائقة السرعة، وبمقدار الدور المحوري الذي لعبه نهر النيل في نمو القاهرة، كان للترام دور اَخر في تطور المدينة وإعادة تشكيل مشهدها العمراني. وعلى مدار نصف قرن إلا قليلًا كان للترام نصيب الأسد من حصة التنقل والحركة بالقاهرة، ومع بدء انتشار حافلات النقل الجماعي والسيارات الخاصة بصورة واضحة منذ أربعينات القرن الماضى تراجع نصيب الترام من حصة التنقل لصالح هذه الوسائل الأكثر سرعة ومرونة. وبعد عدة عقود تراجعت حصة الترام كثيراَ بالتزامن مع تراجع دور الدولة إبان فترة التحول الاقتصادي في منتصف السبعينات وانتشار وسائل التنقل الخاصة بشكل ملحوظ. وفي أواخر الثمانينات من القرن العشرين، مع بدايات تشغيل الخط الأول من مترو الأنفاق، كان ترام القاهرة يشغل النسبة الأقل من حصة التنقل في المدينة، وتعانى مرافقه من تدهور وتداعي شديدين، فضلًا عن الخسائر والحوادث المتكررة مما أدى إلى إحالة هذا المرفق التاريخي للتقاعد في النهاية.
الترامواي منظومة تنقل كهربائية تسير ببطء نسبيًّا ولكن بزمن تقاطر سريع وتخدم عدد ركاب أكبر، وتتراوح سرعتها داخل المدن بين 12 إلى 20 كم/ساعة وفقًا للكثير من التجارب والممارسات العالمية، وحتى تعمل بكفاءة من الناحية الاقتصادية، فإنها تتطلب مناطق يغلب عليها الاستعمالات المختلطة والوظائف المتنوعة وأعداد مناسبة من السكان والمستخدمين، مما يجعلها أكثر ملائمة للمدن المدمجة Compact Cities، التي تم تنظيمها عمرانيًا من خلال توفير مجموعة من الوظائف والأنشطة المتعددة علي أصغر مساحة ممكنة مثل تجربة تنمية مصر الجديدة والزمالك ووسط القاهرة. إلا أن تغير السياسات الاقتصادية في منتصف السبعينات، انعكس بشكل واضح على تنمية المدن الجديدة في مصر، التي استندت في معظمها إلى نموذج عمراني يعطى الأولوية لاستخدام السيارات الخاصة بدلًا عن وسائل المواصلات العامة Auto Oriented Model، الأمر الذي يجعل دمج الترام كوسيلة مواصلات داخلية ضمن منظومة التنقل الخاصة بهذه المدن أمر يحتاج إلى تغيرات جذرية في البنية العمرانية والتشريعية لتلك المدن، كما أنه غير ملائم من الناحية الاقتصادية لأغلب المدن المصرية الجديدة في الوقت الحالى، نظرًا لمعدل النمو السكاني المنخفض بتلك المدن، مقارنة بالمستهدف منها (طبقًا للبيانات الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء)، مما يجعل منظومة التنقل باستخدام الأتوبيسات أو الوسائل شبه/غير الرسمية أكثر جدوى من الناحية الاقتصادية في الوقت الراهن. ولكن يمكن الاستفادة من تجربة تنمية ضاحية هليوبوليس والدور الحيوي الذي لعبه السوبر ترام (مترو مصر الجديدة) في زيادة معدلات الجذب والاستيطان السكاني لهذه المدن من خلال التركيز على وسائل التنقل السريعة والملائمة من الناحية الاقتصادية في تعزيز الوصول إلى المدن المصرية الجديدة و بالأخص في مراحل نموها الأولى، بالتوازي مع اختيار وسائل تنقل داخلية أكثر ملائمة من الناحية الاقتصادية لكل مدينة على حدة.
ولكن لدى القاهرة فرصة كبرى بعد انتقال مؤسسات الحكم إلى العاصمة الإدارية الجديدة في إعادة تهيئة القلب التاريخي للمدينة من خلال إعادة إحياء شبكات الترام الكهربائي، ليس فقط باعتباره وسيلة تنقل يومًا ما كانت جزءًا من مشهد المدينة ولعبت دورًا كبيرًا في تطورها التاريخي، ولكن بالنظر إلى الانبعاثات الكربونية ونسب التلوث المرتفعة التي تحتاج القاهرة للحد منهما بشدة وخصوصًا داخل الأجزاء التاريخية المسجلة لدى اليونسكو ممتلكًا للتراث العالمي، ويمكن من خلال وسائل التنقل الصديقة للبيئة كالترام الوصول بمعدلات التلوث المرتفعة بالقاهرة إلى نسب مقبولة. وبمراجعة حدود القاهرة التاريخية المسجلة تراثًا عالميًا، يتضح أن الأجزاء الشرقية من المدينة والتي تمثل النسبة الأعظم من المساحة المسجلة، ينقصها صعوبة الوصول المباشر باستخدام وسائل التنقل الصديقة للبيئة، حيث يمكن الوصول للمدينة التاريخية من خلال محطة العتبة ضمن الخط الثاني لمترو أنفاق القاهرة الكبرى، ومن خلال محطتي باب الشعرية والجيش ضمن الخط الثالث، يلي ذلك استخدام وسائل مواصلات أخرى أغلبها شبه/غير رسمية للتنقل عبر الأجزاء التاريخية من المدينة. ويمكن من خلال الدمج بين المترو والترام تحسين التنقل بالقاهرة التاريخية، حيث يمكن لمحطات الترام المقترحة أن تقوم بدور تبادلي مع محطات المترو القائمة و بالأخص المحطة المركزية بميدان العتبة لإعادة مشهد فُقد عبر الزمن من ذاكرة المدينة، ولا سيما أن الجهاز القومي للتنسيق الحضاري قد طرح منذ سنوات مسابقة دولية كبرى (لم تُنفذ) لإعادة الرونق الحضاري لقلب القاهرة، وقد أوصت جميع المشروعات المتميزة بضرورة إزالة كوبرى الأزهر لتحسين الصورة البصرية للمدينة وتشجيع التنقل المستدام بين القاهرة القديمة والحديثة.
تمثل مشروعات النقل الجماعي فرصة كبرى لأي مدينة، للتحول نحو أنظمة تنقل أكثر استدامة من خلال تنوع الوسائل وتوفير البدائل المتعددة لجميع المستخدمين بشرط تحقيق التكامل والمرونة بين هذه الوسائل المختلفة، استنادًا إلى أهداف المدن المستدامة الصادرة عن الأمم المتحدة في هذا الشأن. وتمثل أنظمة النقل الكهربائي الجاري والمزمع دمجها ضمن منظومة التنقل بالقاهرة وبالأخص الأتوبيسات الكهربائية، منافسًا قويًّا للترام، حيث يظل الأتوبيس أكثر مرونة من الناحية التشغيلية لسهولة تغيير مساراته، بعكس خطوط الترام الثابتة، كما أن تكلفة توطينه منخفضة، مقارنة بتكلفة البنية التحتية للترام المرتفعة نسبيًّا. ولكن من الناحية التشغيلية أيضًا، وحتى تعمل منظومة التنقل باستخدام الأتوبيسات بكفاءة اقتصادية، تتطلب محطات توقف أكثر من الترام مما ينعكس على السرعة والعمر الافتراضي المحدود لهذه المنظومة، بخلاف الترام الذي يتفوق في هذه النقاط كثيرًا، مما ينعكس على التكلفة الإجمالية لمنظومة التنقل باستخدام الترام على المدى البعيد بشكل إيجابي، كما أن منظومة تشغيل الترام في أوقات الذروة أكثر مرونة، حيث يمكن زيادة عدد العربات من خلال الإضافة، بخلاف منظومة تشغيل الأتوبيس التي تتطلب الدفع بوحدات أخرى وما يترتب على ذلك من تكدس وازدحام، ويمكن المقارنة بين الترام والأتوبيس الكهربائي من الناحية الوظيفية أيضًا، حيث يُغطى الأتوبيس مسافات أكبر بسرعة أقل ومحطات توقف أكثر، ويعمل بشكل فعال في مسارات دائرية وحلقية، كما أنه أكثر ملائمة للمناطق ذات الكثافات المنخفضة، نتيجة ظروف التشغيل الموجهة لمثل هذه المعطيات. بخلاف الترام الذي يعمل بكفاءة في مسارات طولية وفي ظروف مختلفة تمامًا، مما يجعل منظومة التنقل باستخدام الأتوبيس الكهربائي أكثر ملائمة للمدن المصرية الجديدة عن الترام ويجعل الترام أكثر ملائمة للأجزاء التاريخية والقديمة من القاهرة.
لقد ظل ترام القاهرة يعمل على مدار قرن كامل مارًا بمراحل النشأة والازدهار ثم الانحسار، إلى أن توقف تمامًا وأُزيلت مرافقه علي فترات زمنية متباعدة في العقود الثلاثة الماضية، نتيجة للمفاضلة بينه وبين وسائل التنقل الأخرى من منظور السرعة والمرونة فقط وليس بالاستناد إلى التكلفة الاجمالية للتنقل، متضمنة المعايير البيئية والاجتماعية وأهمية التحول المستدام لمدينة كبرى مثل القاهرة. وعندما تفاضل المدن بين وسائل التنقل استنادًا إلى هذا المنظور فقط، تخسر الترام ومعه فرصة كبرى لتحسين الحركة وتقليل معدلات التلوث من خلال وسائل التنقل الكهربائية الصديقة للبيئة… المدن التي تنتهج سياسات متكاملة للحفاظ على البيئة وخلق خيارات متنوعة، تربح في النهاية. والمدن التي تُفاضل بين الاختيارات من منظور واحد، تخسر أشياء كثيرة بينها الاستدامة. وهذا ما يجب أن تنتبه إليه القاهرة.
……………………………….
-
حصل هذا المقال على جائزة المجلس الأعلى للثقافة لأفضل مقال علمي؛وسبق نشره في المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية
المراجع والقراءات الرئيسية بالعربية
-
كيلاني، محمد، سيد، ترام القاهرة، دراسة اجتماعية، تاريخية، أدبية، وكالة الصحافة العربية.
-
شبكة ترام القاهرة، محاضرة، جمعية المهندسين الملكية المصرية، 1934
-
عبد المنعم، على، محمد، هندسة النقل والمرور، دار الراتب الجامعية، بيروت.
-
ريمون، أندريه، القاهرة، تاريخ حاضرة، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع.
-
ضياء الدين، خالد، ذكريات مصورة عن مصر، المجلس الأعلى للثقافة
-
علام، أحمد، خالد، وآخرون، تجديد الأحياء، مكتبة الأنجلو المصرية.
-
الطرابيلي، عباس، أحياء القاهرة المحروسة، الدار المصرية اللبنانية
-
الصياد، نزار، القاهرة، تواريخ مدينة، المجلس القومي للترجمة.
-
عبد الجواد، جمال، مدينة صنعها الترماي، صحيفة الأهرام.
-
حواس، سهير، القاهرة الخديوية، مركز التصميمات المعمارية.
-
بدوي، جمال، مصر من نافذة التاريخ، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
-
لنرت ولاندروك، مجموعة فوتوغرافية لوسط القاهرة – ألبوم خاص بالكاتب.
-
المكتبة الوطنية بباريس، مجموعة فوتوغرافية للقاهرة – ألبوم خاص بالكاتب
-
علي، عرفة، عبده، القاهرة في عصر إسماعيل، الدار المصرية اللبنانية.
-
سيف، عادل، أماكن منسية في القاهرة الخديوية، مركز إنسان للنشر والتوزيع.
-
فرج، فؤاد، القاهرة، تاريخ المدن القديمة، ودليل المدن الحديثة، دار الكتب والوثائق القومية.
-
التعداد العام للمباني والظروف السكنية، المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، مصر، 2016.
-
الحديدي، فتحي، حافظ، دراسات في التطور العمراني لمدينة القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
-
الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، معرض المشروعات المشاركة في مسابقة اعادة تصميم ميداني الأوبرا والعتبة.
-
إسماعيل، محمد، حسام الدين، وجه مدينة القاهرة، من ولاية محمد على، حتى نهاية حكم إسماعيل، الهيئة العامة للكتاب.
-
عصام، عمرو، المدينة والمواطنة، دراسة حول الهوية المصرية، المجالس القومية المتخصصة.
-
عصام، عمرو، التراث والتحديث، دراسة نقدية للعمارة المصرية في الألفية الثالثة، جائزة مؤسسة فاروق حسني للثقافة والفنون.
-
علم الدين، فاطمة، تطور النقل والمواصلات الداخلية في مصر في عهد الاحتلال البريطاني (1882-1914)، دار الكتب والوثائق القومية.
بالإنجليزية
-
Abu-Lughod, Janet L, Cairo: 1001 Years of the City Victorious, Princeton University Press, 1971
-
Sims, David, Understanding Cairo, the Logic of City out of Control, AUC press, 2011
-
Sims, David, Egypt’s Desert Dreams: Development or Disaster? AUC press, 2015
-
UNESCO World Heritage Centre, Urban Regeneration Project for Historic Cairo, Final Report on the Activities, 2014
-
The Aga Khan Award for Architecture, the Expanding Metropolis: Coping with the Urban Growth of Cairo, International Conference, Cairo, 1985
-
CEDEJ, Greater Cairo Atlas, 2000
-
Dobrowolska, Agnieszka, Heliopolis, Rebirth of the City of the Sun, AUC Press, 2006
-
Elshahed, Mohamed, Cairo since 1900: An Architectural Guide, AUC press, 2020
-
Cromer, Evelyn Baring, Modern Egypt; Volume I, Wentworth Press, 2019
-
Farr, Douglas, Sustainable Urbanism: Urban Design with Nature, Wiley press, 2007
-
Jenks, Mike – Jones, Colin, Dimensions of the Sustainable City, Springer, 2010
-
Newman, Peter – Kenworthy, Jeffrey The End of Automobile Dependence: How Cities are Moving Beyond Car-Based Planning, Island Press, 2015
-
Vuchic, Vukan. R,Urban Transit: Operations, Planning, and Economics, Wiley press, 2008
-
UN-Habitat, The Value of Sustainable Urbanization, 2020
-
Lynch, Kevin, the Image of the City, MIT press, 1960
-
Gehl, Jan Cities for People, Island Press, 2010
-
Huzayyin, Ali.S, Salem, Hindawi, Analysis of Thirty Years Evolution of Urban Growth, Transport Demand and Supply, energy consumption, greenhouse and pollutants emissions in Greater Cairo, Research in Transportation Economics, Science Direct, 2013
-
Duany, Andres, Plater. Zyberk, Elizabeth, Suburban Nation: The Rise of Sprawl and the Decline of the American Dream, North Point Press, 2010
-
Jakes, Aaron.G, Egypt's Occupation, Colonial Economism and the Crises of Capitalism, Stanford University Press, 2020
-
Ceder, Avishai, Public Transit Planning and Operation: Modeling, Practice and Behavior, CRC press, 2016
بالفرنسية
-
Ekadi, Galila, Le Caire: Centre en Mouvement, Institut de recherche pour le développement, 2012
-
Arnaud, Jean-Luc Le Caire: Mise en place d'une ville moderne, 1867-1907 : des intérêts du prince aux sociétés privées, 1998
-
Volait, Mercedes, Memories Heliopolitaines, Institut Francais, Egypte, 2005
الصورة الأولى في المقدمة، ترام القاهرة ماراً بشارع عماد الدين، وسط القاهرة، ثلاثينات القرن العشرين، (المصد: مجموعة لنرت ولاندروك – التلوين والمعالجة بواسطة الكاتب)