كيف و أين تختفي في مدينة مثل القاهرة ؟ وإذا كنت وزير داخلية لا تنسى الناس صورته و لا السلطات خط سيره ولا مراقبي التليفونات شبكة علاقاته؟ أين؟ للداخل أم للخارج؟ في منطقة آمنة؟ أم جديدة؟ كل الطرق تؤدي إلى أن هذا النوع من الهروب لا يتم إلا بمشاركة “الدولة “ ورعاية ممثليها حتى أصغر أمين شرطة ..لكن مامصلحة الدولة في فضح عجزها بهروب شخص تنتظر مصر كلها لحظة دخوله الزنزانة؟ ولماذا تنزعج الدولة ؟ أليس من مصلحتها إعلان هذه القدرة الجبارة في أن تقول للشيء “ كن فيكون“ من معي هو على وسائد من ريش نعام، ويتبخر كما الهوآء الخفيف، ومن هو ضدي فسيدفع ليمر…يدفع مالا أو عمراً، والمفارقة أن في قصة هروب حبيب العادلي أنه لم يدفع إلا “فيزيتة ” محاميه فريد الديب، ولم ينل سوي مميزات مجرم معه محامي خبير في ثغرات القانون و الأحكام، .حين يختفي المجرم فى مكان آمن و يظهر مع إقتراب المحكمة لينال ميزة ” حسن النية”، أي أن العادلي بكل هيلمانه الإجرامي يسعي إلى إثبات حسن نيته
لم تحل هذه المعضلة إلا النميمة. وبالتحديد نوع من النميمة الممنهجة، التي تستطيع بالخبرات عرفنا منها قبل الجميع مكان حبيب العادلي . قال لنا الصديق المخضرم: ”…فريد الديب ها يأخده في إيده وهو رايح محكمة النقض”. نظرنا إليه بالمزيج اللذيذ بين الإعجاب و الريبة. كان هناك حضور أقوى لسيناريو أشهي في إثارته ذات الأجواء الهوليوودية، عن أن معركة الملك الصغير محمد سلمان مع الأمراء يديرها حبيب العادلي الذي أعاد هندسة “الأمن“ التابع للصغير، ورتب الإجراءات التي وضع ٢٠٩ من أمراء و أثرياء السعودية في محبس ريتز كارلتون بالرياض.
السيناريو الهوليوودي هو في الحقيقة ذو طبيعة مصرية، أو بالأحري عن نرجسية مصرية لا تجد لها مساحات كافية فتفيض بحثاً عن مجالات مؤهلة لإستعراضات تلك النرجسية التي تجعل مصر محور الكون، مركز العالم، لا شيء يمكنه أن يحدث إلا بالمرور من القاهرة، هكذا كان اللواء عمر سليمان في دمشق وواشنطن في نفس الوقت، مات مرتين، الأولى في تفجير دمشقي مع أهم معاوني بشار، و الثانية بمرض غامض في مستشفيات أمريكية، هذا غير الذين ينتظرون عودته بعد مهمات مستحيلة في مناطق مختلفة من العالم.
سيناريو إدارة أو إستشارة العادلي في حرب بن سلمان على الأمراء، لم تتداوله نميمة المجالس فقط في مصر وربما السعودية، بل وجد من يصدقه في صحف العالم، وهذا طبعا دار دورته وعاد للقاهرة مضافا عليه مصداقية رواية “الأجنبي”.
المدهش أن نميمتنا على المقهى، لم تكن مهتمة بحركة العقل الجمعي اللاواعي، حيث يتقابل الموالي والمعارض للنظام في تصديق السيناريو، تخيلاً أن قدرات “كهنة الأمن“ المصريين لابد من تصديرها لحماية الدول قريبة الشبه مثل سوريا أو قريبة ونسيبة بناة النظام الحالي، هذا التخيل في القدرات الفائقة المعطلة تقول عدة أشياء تقول عدة أشياء، ليس فقط عن النشاط الحاد لمناطق تصديق نظرية المؤامرة في الدماغ، ولكن عن الخيال ذو الطبيعة البلاستيكية الذي يثبت المشاهد و الأشخاص عند لحظة أو تصنيف واحد، بين الخير و الشر، أو بين القدرة الفائقة و الفشل، كأن الزمن أسير صورتنا الثابتة عنه، أو كأن الذين هندسوا “ الإنقضاض“ على الثورات وتحويلها إلى فوَضى وحرب أهلية، يحتاجون مستشارين من كهنة سقط رئيسهم في ١٨ يوماً.
المهم أن حبيب العادلي خرج من المخبأ، وقرر تسليم نفسه، لكن الروايات الرسمية من مصادر كل منها “ يتحفظ علي ذكر إسمه”، أي أنها نميمة الدولة،لم تصل إلى “الرواية الموحدة “ هل سلم نفسه؟ أم رصدته عيون الشرطة الساهرة وتوجهت إلى مخبأه؟ بمعنى “قُبض على“ العادلي أم “سلم نفسه” ؟
هناك غالباً خلافات علي التعاطي مع قصة العادلي، هل هي هيبة دولة؟ أم هيبة شرطة؟ هل هي إعلان بأن سادة الدولة لا يهانون؟ أم أن قادة اللحظة الراهنة يريدون الدفاع عن آبائهم، حماية للذات وبأن القانون ينفذ حين يريدون وعلى مّن يريدون؟ القانون أداة سلطة وليس أداة عدل.
هذه رسائل ثقيلة و مربكة، على من تفلت منهم اللحظة، ويعانون من “فوبيا“ بسبب الخروج المفاجيء للناس في يناير ٢٠١١؟ ولذلك تفتقد القصص إلى حبكتها مع سلالة من الرواة، ملأت قصصهم الفراغ النفسي و الذهني للشعب المنتظر، روايات الدولة في الصحافة والراديو (أيام عبد الناصر) والتوك شو (أيام السيسي) ليطمئن على وجود الدولة …المهم وجودها لا كينونتها.
هكذا لم يفكر الحباكون الجدد في رواية موحدة، ولم يتفقوا بعد هروب ٢٣٥ يوما كاملة، على المكان الذي إختبىء فيه وزير داخلية استمر أكثر من ٢٠ عاماً تولى فيهامهام الأمن و الترويض…هل هي فيلا يملكها في منطقة “الشيخ زايد“ أم “بيت ريفي” في “الصف” غربي الجيزة…؟
نميمتنا وصلتها قبل أسابيع قصة “المزرعة“ مؤكدة من محامين يتعاملون مع من يمكن تسميتهم “الحكام السفليين“ لمصر الذين أكدوا لهم “حبيب بيه في الحفظ والصون ف يمزرعة واحد من زهل الثقة..”.
هذا الخط من حكم القاهرة لا نتبين صدقه تماما، لكنه مثل البهارات في طبخة النميمة، خاصة إذا كان موضوع النميمة شخص غامض لا معلومات عنده خارج تلك التي تكون صورة كأشهر “سيكوباتي” مصري معاصر، يتلذذ بقهر خصومه و ضحاياه، حتى وهو خلف الزنزانة، أو هارب من حكم بالحبس سبع سنوات.
…
حكينا عن العادلي في حكايات القاهرة أكثر من مرة، رغم أن المعلومات عنه شحيحة، ولا شيء خارج صعوده الوظيفي، وملف تجاوزات مالية، وبعض التفاصيل عن قصص زواجه، بالإضافة إلى قدرته على صنع عالم كامل من السيكوباتية، هذا ما توقفنا عنده مرتين:
حبيب العادلي ٢٠١٢
العادلي ماركة وحده حتى بين رجال مبارك..أنه نموذج سيدرس في مصحات النفس و المراجع العلمية عن علاقة السلطة بالانسان و كيف يتحول المرض النفسي إلى أداة في حكم الشعوب.
العادلي في خطبته من الزنزانة اثناء محاكمته مع مبارك على “قتل المتظاهرين”، خطبة مارست كانت طقس تعذيب عن بعد، يقترب من ان يكون له نفس أثر التعذيب الجسدي الذي استسلمت له مصر سنوات كاملة…نوع غريب من العنف اللفظي الذي يعتمد على طاقة الشر الكامنة داخل شخص يقتلك ثم يرتدي روب الحمام لا ليقابل عشيقته ولكن ليتلذذ بأن لديه فرصة للحياة بينما أنت المقتول تستسلم تحت رحمته.
السيكوباتي العادي..هو مريض إذا بحثت في التعريفات الجاهزة عنه ستجد أنه :”يجيد تمثيل دور الإنسان العاقل وله قدرة على التاثير على الأخرين والتلاعب بأفكارهم، يتلذذ بالحاق الاذى بمن حوله (وخاصة المقربين…الزوج او الزوجة…أو الموظف الأقرب إليه أو صديق ساعده يوما ما..او زميل صعد هو على اكتافه..“
السيكوباتي..“ عذب الكلام، يعطي وعوداً كثيراً، ولا يفي بأى شيء منها عند مقابلته ربما تنبهر بلطفه وقدرته على إستيعاب من أمامه وبمرونته في التعامل وشهامته الظاهرية المؤقته ووعوده البراقة..“
ولكن “حين تتعامل معه لفترة كافية أو تسأل إحدى المقربين منه عن تاريخه تجد حياته شديدة الإضطراب ومليئة بتجارب الفشل والتخبط والأفعال اللاأخلاقية…لأنه قد يدوس على كل شيء في سبيل تحقيق ما يريد، بما في ذلك القتل، ولا يهمه مصائب الآخرين أبداً ما دام بعيداً عنها، وله ذكاء خاص يتحايل به، وقد ينجح بعض هؤلاء في الوصول إلى بعض المناصب الكبيرة نظراً لانتهازيتهم وذكائهم الذي لا يعبأ بأي خلق ولا يتورع عن أي عمل يوصله لما يريد…“.
العادلي سيكوباتي مصري من صنع عصر مبارك و تربيته النفسية التي مازالت تتحكم بمزاجها في بقايا النظام و قطاعات من المستسلمين لجاذبية السيكوباتي.
نعم..السيكوباتي جذاب..وساحر…ولسانه حلو…ومتخصص في صيد الحيارى…والحالمين الضعفاء…والباحثين عن فرصة اكبر منهم…
وللسيكوباتي خطاب الهذيان الصامت يتكلم ساعات ولايقول شيئا ولايبقى في الذاكرة سوي كلمات ترن في الوعي الحائر: الواقعية..الواقع..الامر الواقع.
بهذه الكلمات اصطاد العادلي ضحاياه…الذين عاشوا معذبين في ايامه الملعونة و رأوه يهرب مهزوماً ليلة 28 يناير واكتشفوا فشله في الحفاظ على راعيه العجوز مبارك…لكنهم ينتظرونه كما تنتظر الجماعات المنقرضة إلهها الغائب..او ديناصورها المدافع عنها رغم موته او نهايته او فقدان فعاليته و حيويته.
العادلي المنتظر الآن من المذعورين لايدركون انه صانع الة الامن والارهاب معا..وهو في سجنه او حيث يختفي في زنزانته يقول :انا مؤامرة…نعم مؤامرة ..لانكم ضحاياي و ضحايا هذا الرجل العجوز الذي ينام على السرير بجانبي..انكم غير قادرين على صنع ثورة..من انتم حتي تثوروا علينا..من انتم حتى تنتصرون على الخوف الذي جعلناه خبز يومكم.
هذه كلمات لم تقل بين سطور تلك الخطبة الشهيرة التي قالها العادلي في المحكمة…محملة في طاقة الشر التي ظل يخطب بها ساعتين او اكثر في القاعة مستمتعا بطقس التعذيب و رافضا نصيحة محاميه…بالتركيز عن الدفاع وتوسل البراءة.
السيكوباتي يقتل اكثر من مرة.
ويعود إلى مكان جريمته ليرتكبها من جديد…ومعه يعود ضحاياه كأنهم قادمين من عالم خرافي يتوسل فيه الضحية بان يعود قاتله.
حبيب العادلي ٢٠١٤
وقتها كانت الوجوه التي شحبت بعد ٢٠١١ تعود إلى حمرة بدون خجل..وقفت لتقول روايتها روايتها أمام منصّة محكمة استعادت حيوية “الشيخوخة القاتلة”… واستعادت ادرينالين السلطة في شراسة محفوظة مع اصحابها في الزنازين…
مثل طائفة من السيكوباتيين (المجرمين بالفطرة) تلاقت وتلاقحت وتناسلت بما تملك من قدرة على فرز النوع وحفظه… هكذا ظهر مبارك (الحريص على صبغته) وعصابته التي لم يخجل دينامو سنواتها الاخيرة حبيب العادلي وزير الداخلية من الاعتراف بأنه كان يتنصّت ويمارس الابتزاز بالتنصّت.
هذه فضيحة/جريمة… لكنهم لا يخجلون منها… ولا من الاعتراف بأنه كان يفعل ذلك بتصاريح تحت الطلب من نيابة امن الدولة العليا.
لا خجل….
إعترافات العادلي ومن تلاه كاشفة… وربما هي الاخطر بعد اعترافات صفوت الشريف في قضية انحرافات جهاز المخابرات سنة 1968.
إعترافات حبيب العادلي تجاوزت صفوت الشريف بفضحها تدني مستوى القائمين على الجهاز المرعب… هل هؤلاء الوحوش المرعبة التي تحمي مصر؟ هل هؤلاء الذين حفظوا أمن كرسي مبارك؟
عند اقتحام مقر جهاز أمن الدولة… كان الأخطر من دخول “عاصمة جهنم” كما كانوا يسمونها… ذلك الدخول الذي كان تحت عين ونظر الشرطة العسكرية (عندما كان الجيش في مرحلة حماية الثورة… والمقر رمز الظلم والإذلال)… كان الأكثر إثارة هو إكتشاف هشاشة “الجهاز”، وأن صانع الرعب الذي تربينا على صورته الخرافية كوحش متعدد الأيادي يصلك أينما كنت ولديه أذن كبيرة وعين اكبر وقدرات فوق العادة لمعرفة دبّة النملة وقدرة الفيل على اللف في منديل…
اكتشفنا بعد يناير واقع الأجهزة التي تترك مهمتها في الأمن والحماية وتتضخم لتحكم او لتبتلع الدولة كلها… اكتشفنا ضعفها وركاكتها وأنها تستمد قوتها من شعورنا بالضعف والهوان والاستسلام للذل والمهانة.
اكتشفنا أن جهاز أمن الدولة ليس قوياً الا بتفاهات من عصور بدائية تكسر الروح بإهانة الذكورة عند رجال يجبرهم الضابط على ارتداء فساتين الرقص الشرقي، و الدوران في ما يشبه حفلات رقص، يردد فيها المعتقل: “أنا مَرا”.
لم يفهم الذين دخلوا مكتب حبيب العادلي في أمن الدولة لماذا عثروا في مكتب الضابط على بدلة الرقص؟
خيالهم ذهب بعيداً متصوراً انها ادوات حفلات متعة تشحن الوحوش من أجل حفلات التعذيب. لم يفهموا أنها أدوات إذلال بالضبط مثل تصوير اللقاءات الجنسية وتسجيل مكالمات غرامية، وهي أدوات حوّلت المخابرات في عهد عبد الناصر إلى “كباريه سياسي” يقوده عقل مهووس بالألعاب الجنسية والمخابرات كانت “جهاز” عبد الناصر كما أن “أمن الدولة” كانت “جهاز” مبارك. وعلى اختلاف .الزعيم عن الموظف، مع تضخم الاحتياج إلى الامن من دون سياسة، انتهى كل جهاز إلى نفس المصير: السقوط المهين