بدأت النقد مع دخول الدولة ملعب السينما.. كيف كنت ترى الأمر وقتها؟
الدولة أنشأت معهد سينما عام 1959 وتخرجت أول دفعة 1963، وبدأت الإنتاج في نفس العام. كنت أرى من الطبيعي أن يعمل الخريجون في إنتاج الدولة، وإذا بها معركة كبرى استمرت نحو عشر سنوات. الدولة تنتج الأفلام، إذن ستكون بمعزل عن مقاييس السوق، وإذا بالدولة تعمل بنفس المقاييس، ليس في كل الأفلام بالطبع، ولكن في أغلبها. قلت لك كانت نظرتي بسيطة.
وماذا فعلت مع سيف المعز وذهبه؟
كان السيف مُسلَّطًا على الجميع، أما الذهب فيما يتعلق بالسينما فكان دعوة النقاد والكتاب والصحفيين لكتابة أفلام أو شراء قصص وروايات منهم، أو دعوتهم للاشتراك في لجان القراءة على الأقل. حتى شركات السينما الأمريكية كانت تدفع لبعض الصحفيين.
كيف؟
أذكر أنني كتبت نقدًا لفيلم (بيكيت)، وفوجئت عند نشره بأن رئيس القسم أضاف في نهاية المقال عبارة “ومن الخير أن يشاهده الناس”، فذعرت وتشاجرت معه. في نفس اليوم اتصل بي مدير شركة بارامونت في شارع سليمان الحلبي بجوار الجمهورية، ودعاني إلى مكتبه وعرض عليّ مكافأة مالية! وقد انزعجت كثيرًا ورفضت فعرض عليّ كشفًا بأسماء نحو عشرين صحفيًّا وقال إنه أمر عادي، لكني رفضت.
لم تتعاون مع القطاع العام..
ولا الخاص.. رفضت تمامًا. قبلت فقط عضوية لجنة السينما بالاتحاد الاشتراكي وكان يرأسها أحمد بدرخان. ولم يكن هناك مقابل مالي لجلساتها. وحضرت اجتماعًا أو اجتماعين احترامًا لاسم الرجل، ولو أنني لم أكن من المعجبين بأفلامه بصفة عامة. وهاجمت كتابه عن السينما الذي أصدره عام 1936 في مقال بمجلة “الطليعة”.
لكنك كنت عضوًا في لجنة الإنتاج بمؤسسة السينما عام 1970…
نعم، كنت شديد التفاؤل بعودة ثروت عكاشة إلى وزارة الثقافة، ولهذا قبلت للمرة الأولى التعاون مع القطاع العام. لكني قدمت استقالتي بعد شهور قليلة، وأرسلت الاستقالة من مكتب بريد العتبة، وأرسلت صورة منها إلى كمال الملاخ ونشرها في الأهرام في اليوم التالي.
لماذا؟
دعك من أن رئيس اللجنة ورئيس المؤسسة عبد الحميد جودة السحار عرض عليّ كتابة سيناريو عن إحدى الروايات مقابل خمسة آلاف جنيه. قلت له: لكني لا أكتب السيناريوهات. قال: الرواية ماشية كده على طول حتفصل الأحداث عن الحوار. إيه المشكلة؟ دعك من هذا العرض الذي رفضته، لكني استقلت، وكما أوضحت للوزير لأن السحار طلب من اللجنة الموافقة على إنتاج فيلم للسيد زيادة لتغطية مصاريف زواج ابنته. وفي نفس الوقت، وكما أوضحت في مقال بـالجمهورية رفضت اللجنة مشروعات مهمة، منها (إخناتون) لشادي عبد السلام!
هل كان من الممكن أن تحسن أوضاعك المالية بعيدًا عن عطايا المؤسسات الرسمية.. أي أن تعيش من عائد الكتابة؟
هذا ما حاولته ونجحت فيه. كان مرتبي 17 جنيهًا، ولم أكن أريد الاستعانة بوالدي، وكنت أسكن في شقة مفروشة كي أكون بجوار بيت العائلة، وكان إيجار الشقة 15 جنيه. ولكن كان المقال في أي مجلة مصرية أو عربية بخمسة جنيهات وعشرة جنيهات إلى جانب الكتب التي نشرتها. وفي تحليل استفتاء “الطليعة” عن جيل الستينيات عام 1969 كتب لطفي الخولي أن سمير فريد صاحب أعلى دخل بين كل أبناء جيله فقد كان من بين الأسئلة سؤال عن الدخل الشهري، وكان دخلي 60 جنيها.
عملت بعد ذلك مستشارًا في شركة حسين القلا؛ ألم يؤثر ذلك على عملك كناقد؟
هذا بعد 15 سنة أو نحو ذلك. عام 1983 عملت معه 30 شهرًا بالضبط، واستقلت عام 1985.
لماذا قبلت؟
عرَّفني إليه يوسف شاهين، ووجدت أن مشروع حسين القلا في السينما يحقق كل أحلامي للسينما في مصر. عرض حسين القلا أجرًا قبلت بنصفه فقط، وكان كل العاملين في الشركة يوقعون عقودًا لمدة عشر سنوات، ولكني صُغت عقدي بنفسي، واستبعدت منه هذا البند، وكتبت مكانه أنه في حالة الخلاف يبلغ أي من الطرفين بأنه سيترك العمل قبل شهر دون تعويض. كنت بذلك أريد أن أشجعه وأقنعه عمليًا بأنني لا أفكر فيه مثل أغلب الذين تعاملوا معه ومع كل أصحاب الملايين عمومًا. وقلت له عندما تنجح الشركة سوف أطلب المزيد ولكن دعنا الآن نعمل.
وماذا كان مشروعه؟
ستوديو حديث (ستوديو جلال) في وقت كانت فيه كل الاستوديوهات مدمرة وكأنها قصفت بالقنابل. ودور عرض حديثه (كريم 1، وكريم 2، والجمهورية) في وقت كانت فيه دور العرض قد تحولت إلى أوكار للجريمة. لا صوت ولا صورة ولا معقد ولا تكييف. وشركة إنتاج سينما وتليفزيون. وشركة توزيع سينما وتليفزيون وفيديو. وأفلام مصرية وأفلام أجنبية. ومكتب في باريس. واشتراك نموذجي في سوق مهرجان كان لم يحدث من قبل ولا من بعد. كان شعاره كل يوم فيلم مصري.. كريم 2 أو صالة الـ 100 كرسي من اختراعي؛ كانت في الأصل قاعة أقامها يوسف شاهين لكي يشاهد فيها الأفلام وحده أو مع الأصدقاء. كانت كريم أول قاعة في مصر بها شاشتين. كريم 2 عرضت لأول مرة في تاريخ مصر أسابيع للأفلام التسجيلية بتذاكر. واستوردت الشركة الأفلام الأوروبية واليابانية ولم تقتصر على الأفلام الأمريكية. الشركة فتحت الباب لمخرجي ما أطلقتُ عليه بعد ذلك حركة الواقعية الجديدة في السينما المصرية. أول عقود إنتاج كانت مع محمد خان وعاطف الطيب ورأفت الميهي وخيري بشارة. وبأضعاف الأجور التي كان من الممكن أن يحصلوا عليها من الشركات الأخرى. صلاح أبوسيف لم يكن يعمل، أعلى أجر لمخرج كان 35 ألف جنيه لحسين كمال. قلت لحسين القلا إن صلاح أبوسيف يستحق 50 ألف لأن حسين كمال تلميذه، ووافق وكان فيلم (البداية). قلت له لابد أن ننتج ردًا على “الوداع يا بونابرت”، والرد المناسب “سليمان الحلبي” لألفريد فرج. وافق وكان ألفريد فرج يعيش في لندن، واقترحت عليه أن يدفع له عشرة آلاف جنيه إسترليني، وافق!
لماذا انهار المشروع تمامًا؟
الإجابة من حق حسين القلا، بل ومن واجبه. ولكن رأيي الخاص أنه لم يصمد في مواجهة “أقطاب السوق”. لقد خرج عن الخطوط التي وضعوها ويريدون استمرارها دائمًا. أجر عاطف الطيب عندهم ألفين أو ثلاثة آلاف جنيه فكيف يتعاقد معه القلا بعشرة. أعلى سعر لتذكرة سينما جنيه فكيف يكون سعرها في كريم ثلاثة. هم نتاج “لخبطة الاشتراكية مع الرأسمالية”، ليس لديهم سياسات للحاضر أو المستقبل. مثل البقالين يعيشون يوم بيوم ويتعاملون مع بضاعتهم، وكأن لها مدة صلاحية، بينما صلاحية الفيلم لا تنتهي طالما تمت المحافظة على أصله/النيجاتيف.
ألم تشعر بالخطر كناقد عندما عملت مستشارًا لشركة إنتاج وتوزيع وعرض؟
من حيث المبدأ لا شك أن العمل مع شركة كمستشار أو غير ذلك يهدد استقلال الناقد. لكن كما قلت لك وجدت مشروعي هو مشروعه، والمحك هو ما نشرته في أثناء عملي في الشركة.
كيف يكون المرء ناقدًا لفيلم شارك في صنعه.. كيف يمكن الفصل في هذه الحالة؟
طبعًا مسألة صعبة جدًا، على سبيل المثال مقالتي عن فيلم (الطوق والأسورة)، كنت سأكتبها سواء كان لي دور في صنع الفيلم أم لا. ومن ناحية أخرى الشركة وزعت أفلامًا من تمثيل عادل إمام ونادية الجندي لا تعجبني كناقد، ولم أمتدحها قط لأنني أعمل في الشركة. ومن ناحية ثالثة ساهمت في أفلام كثيرة لأصدقاء من دون أجر في قراءة السيناريو. بل وفي تعديل الفيلم بعد مشاهدة نسخة العمل، ولكن عندما كنت أكتب عن الفيلم كنت أنجح في أن أشاهده وكأنني أفعل ذلك للمرة الأولى. حتى عندما أقرأ عن أي فيلم قبل مشاهدته أراه وكأنني لم أقرأ عنه شيئًا.
ألم تنشر قط أي مقال تحت الضغط. أو دون قناعة؟
حدث مرة واحدة فقط. حين طلب مني يوسف السباعي عام 1978 كتابة مقال لدعوة الجيش إلى شراء تذاكر لفيلم “العمر لحظة”.
ولماذا استجبت؟
بصراحة كان والدي على المعاش في الأهرام، وخشيت أن أرفض طلب يوسف السباعي فيضايقه على أي نحو. ربما أظلم الرجل ولم يكن يفكر في ذلك ولكن هذا ما حدث، فقد أشار إلى والدي في حديثه قائلاً: لقد قلت لوالدك إنك شخص ممتاز وناقد متميز، ولكن لطفي الخولي والشيوعيين يلتفون حولك ويسيئون إليك. سلمت المقال للجمهورية، وسافرت إلى بودابست كي لا أراه منشورًا، وفي فندق رويال في العاصمة المجرية كنت في اللوبي مع أحمد قدري وحمدي الجابري عندما جاء خبر اغتيال يوسف السباعي في قبرص. شعرت باضطراب شديد، وخشيت من نفسي أن تفرح، ولم أفرح فعلاً. خشيت أن أشعر بالشماتة ولم أشمت أبدًا. وعندما عدت إلى القاهرة ووجدت المقال منشورًا قبل أيام معدودة من اغتيال الرجل، وتذكرت شكسبير وأنا شكسبيري متواضع، تذكرت استنكار هوراشيو كيف يصدق هاملت ظهور شبح أبيه ورد هاملت عليه “هناك أشياء كثيرة بين السماء والأرض لا نعرفها يا هوراشيو”.
توجد حكاية مشهورة انتشرت في روز اليوسف عندما كنت أعمل بها، وهي أنه في أثناء تقييم أهم أفلام إحدى السنوات وكنت في لجنة التحكيم اشترطت قبل أن تجلس اختيار فيلم بعينه..
هل تقصد في أثناء عملي مع حسين القلا. كلا لم يحدث ذلك قط، لم أشترك في أي لجان تحكيم من أي نوع طوال عملي معه لمدة 30 شهرًا كما ذكرت. لم يحدث ذلك قط. ثم ما معنى أن يشترط عضو لجنة تحكيم مثل هذا الشرط. وكيف يقبل باقي أعضاء اللجنة. صحيح أنني أدافع عن وجهة نظري بقوة في أي لجنة تحكيم أشترك فيها، ولكن لإقناع الآخرين بوجهة نظري.
أريد أن أعرف أكثر عن فكرة المستشار في السينما.. كيف كنت تراها وكيف مارستها؟
في البداية عرض عليّ القلا أن أكون مديرًا للشركة وهو رئيس مجلس الإدارة. فضلت المستشار، أي الذي يخطط وينصح ويوجه ولا ينفذ. هذا أقرب إليّ وما أقدر عليه أكثر. وكما قلت لك كان يحقق أحلامي عن السينما بعد أن وجدت أنها أحلامه. كنت أحلم بتوزيع أفلام كوروساوا وفيلليني في مصر. وكنت أتمنى أن يصنع خيري بشارة ورأفت الميهي وصلاح أبوسيف وغيرهم ما يريدون من أفلام بحرية. كنت أريد أن أذهب إلى مهرجان كان دون الشعور بالدونية. دون الشعور بأنني قادم من الغابة أتفرج على الأفلام البلجيكية والألمانية. كانت حساباتي دائمًا لا ذاتية ولا مالية. حققت ذاتي مبكرًا، ولم أعاني من قلة الأموال قط والحمد لله. لم أقم بمراجعة أي فلوس في حياتي بعد الحصول عليها.
تتحدث كثيرا عن الأحلام..
سفرتي الأولى إلى أوروبا. إلى مهرجان كان 1967 كانت مهمة جدًا. الطائرة هبطت في باريس قبل أن تواصل الرحلة إلى نيس. عندما شاهدت باريس من الطائرة تذكرت رفاعة الطهطاوي، وتذكرت جدي الأكبر إسماعيل يسري الذي درس الطب الشرعي في السوربون. قلت لنفس يا ليتني أجعل السينما في مصر مثل السينما في فرنسا، والنقد السينمائي في مصر مثل النقد السينمائي في فرنسا. لا أشعر بأن مصر أقل من أي بلد آخر حقق تقدمًا كبيرًا. ولذلك عندما ذهبت إلى مائدة مستديرة في بيروت 1969 وعلمت أن لنقاد السينما اتحادات وكنت أتصور أن الاتحادات للعمال فقط عدت ودعوت إلى اجتماع للنقاد لإقامة اتحاد. وفي نفس العام عندما علمت في المجر أن هناك مهرجانات قومية للسينما كنت أتصور أن المهرجانات دولية فقط عدت ودعوت سعد الدين وهبة، وكان مسئولاً عن قصور الثقافة في الأقاليم لإقامة مهرجان قومي، فكان مهرجان الأفلام التسجيلية والقصيرة عام 1971. ثم مهرجان الأفلام الروائية الطويلة عام 1971. وأقيم في بلطيم وليس في العاصمة لأنني وجدت المهرجان القومي يقام في مدينة بيش الصغيرة وليس في بودابست.
وعندما اقترح كمال الملاخ إقامة مهرجان في الإسكندرية لدول البحر المتوسط عام 1975 عارضت الاقتراح في الجمهورية، ونشرت عدة مقالات لإقامة مهرجان دولي كبير لا لدول البحر المتوسط فقط. وفي القاهرة، وليس في الإسكندرية. وأقيم المهرجان دوليًّا وفي القاهرة عام 1976. شاهدت أنتونيوني عام 1967 في مهرجان كان وتحدثت معه قليلاً بعد عرض (بلوآب) ذلك العام. وربما لهذا لم تعد الأسماء الكبيرة في عالم السينما بالنسبة لي مثل آلهة اليونان القدماء. تحاورت في مهرجان كان مع عدد كبير من كبار مخرجي العالم بعد ذلك، وجمعت هذه الحوارات في كتابي “حوار مع السينما العالمية والعربية”. هل تعلم أن نقد الأفلام الأجنبية في الصحافة قبل الستينيات كان محدودًا جدًا وكأنها فوق النقد!
ألم تكن مستشارا لشركات أخرى؟
…لا
ولا مع ممثلين أو ممثلات؟
مع سعاد حسني فقط، ولكني لم أكن مستشارًا بل صديق، وطبعًا دون أجر. مناقشات واقتراحات في إطار الصداقة. وكذلك مع يوسف شاهين منذ (الاختيار) وحتى (إسكندرية.. نيويورك). شاهدت نسخة العمل واقترحت تعديلات ونفذت ولكن كأصدقاء. لم أتقاض أية أموال إلا من شركة حسين القلا، مقابل أعمال كثيرة وكبيرة وشاقة لا مجرد قراءة سيناريوهات. أنا الذي أشرفت على إتمام العمل في سينما كريم 1 وكريم 2 وإنشاء سينما الجمهورية بأكملها.
متى بدأت علاقة الصداقة مع سعاد حسني.. وكيف كانت العلاقة بين نجمة وناقد؟
تعرفت إلى سعاد حسني في أثناء تصوير فيلم “الزوجة الثانية” عام 1966. ولم تكن علاقة بين نجمة وناقد؛ فعندما كنا نلتقي كانت تنسي أنها نجمة وكنت أنسى أنني ناقد. ومن ناحية أخرى كان لها أصدقاء آخرون وكانت تسألهم رأيهم وتتناقش معهم أيضًا. تحولت العلاقة إلى صداقة شخصية وعائلية؛ فهي الوحيدة من نجوم السينما التي دخلت بيتي وعرفت عائلتي. ولا أنسى وقوفها معنا عندما توفيت أختي يسرية المحامية في الرابعة والعشرين من عمرها عام 1976. وقبل سفر سعاد إلى باريس، في الرحلة التي أصبحت بلا عودة، تجولنا في القاهرة عدة ساعات داخل سيارتها وكان يقودها سائق. وقدمت لي صورة من التقرير الطبي وقالت لي “خليه معاك أحسن يقولوا على باتمارض زي ما قالوا عن عبد الحليم حافظ.. فيه عيب خلقي في العمود الفقري تبدأ آلامه ومشاكله مع تقدم السن”.
وماذا اقترحت عليها؟
كان لي دور كبير في أن تمثل فيلم (الناس والنيل) الثاني الذي أخرجه يوسف شاهين. وقتها قالوا إن سعاد حسني لا تمثل إلا إذا وافق سمير فريد، وهذه مبالغة كبيرة. سعاد حسني موهبة غير عادية وكان من الممكن أن تكون ممثلة عالمية لأنها تثبت للمقارنة مع أعظم ممثلات العالم. والحقيقة أنها كانت تأخذ آراء كثيرة منها رأيي لكن في النهاية تقرر بإحساسها، وإحساسها كان يعادل ألف كتاب؛ مكتبة كاملة.
عاشت سعاد حسني فترات من المعاناة الشديدة على مستويات مختلفة، وفترات من الفرح الغامر بالحياة والحب والجمال.. كانت عبقريتها في قدرتها على استرجاع تلك اللحظات بسهولة وفي أقل من ثانية أمام الكاميرا.. وكانت عبقريتها في هذه العلاقة المذهلة مع الكاميرا مثل كبار ممثلي العالم، وهي ما يمكن أن نطلق عليها علاقة الكاميرا الخفية، كانت تنسى الكاميرا، وتصبح بالنسبة إليها وكأنها كاميرا خفية.
الاضطرابات في حياتها الفنية بل وحياتها الخاصة بدأت بعد النجاح الهائل لفيلم (خللي بالك من زوزو) الجمهور كما قال شابلن وحش له ألف ذراع وبلا عقل. والنجاح الذي لم يكن مسبوقًا في تاريخ السينما أفقدها توازنها. لم تعد تقبل بأقل من نجاح زوزو وكان ذلك مستحيلاً. لقد نسيت تمامًا أنها عندما رأت الفيلم في عرض خاص وكنت معها انزعجت منه بشدة، وكذلك انزعج منه صلاح جاهين وكانا شركاء في الإنتاج، وبلغ انزعاجهما حد أنهما باعا حصتهما إلى شريكهم الثالث تاكفور أنطونيان قبل أن يبدأ عرضه التجاري! قلت لها أكبر دليل على أنه ليس هناك روشتة لعمل فيلم جماهيري تجربتك أنتِ.. كنتِ واثقة أن الفيلم سيفشل ومع ذلك أصبح أكثر أفلامك جماهيرية.. لا يتم التخطيط لمثل هذا النجاح.. عوامل كثيرة تصنعه من المناخ العام والذوق السائد إلى الخبر المنشور صباح يوم العرض الأول في الصحف.
ماذا نشرت عن “خللي بالك من زوزو”؟
مقال بارد. لكن الآن أرى أنه فيلم مهم.
هذا في إطار مراجعة رأيك عن سينما حسن الإمام..
في إطار مراجعة سينما تلك الفترة من 1967 إلى 1973 بين الحربين بصفة عامة. لا بد أن يحترم الناقد النجاح الجماهيري، ويعرف أن هذا ليس من فراغ ولا يستهتر به.
هذا مفهوم معاكس لناقد الستينيات التي تربي (كما تربي المثقف عمومًا المؤمن بفكرة النخبة والطليعة) على أنه يقود الجماهير..
أنا لم أهتم قط بالجمهور. كلما كبرت في السن وعرفت التاريخ السياسي للعالم وتعمقت فيه أشعر باحتقار لفكرة الجماهير. بعد سقوط النظم الشيوعية وحائط برلين 1989، وسقوط القومية العربية بغزو الكويت 1990، وسقوط الاتحاد السوفيتي، 1991 تغيرت 180 درجة. لم أفهم ما معنى أن تقف الجماهير في طوابير سنة 70 لكي ترى جثمان لينين، وفي سنوات معدودة تصبح هوايتها تحطيم تماثيله. أصبحت أقرب إلى فكرة أن الجماهير قطيع. وفي رأيي أن العالم بعد 1989 يحتاج إلى مفكر كبير لتحليله، وأن هذا المفكر لم يظهر حتى الآن.ا
العالم في حاجة إلى دماغ من وزن دماغ كارل ماركس، وليس فوكوياما أو هنتنجتون ليحلل الفترة من جماهير حائط برلين 1989 إلى جماهير بيروت 2005 الشارع يقوم بالتغيير، ولكن هذه الجماهير ليست بالمفهوم الذي كان يتكلم عنه لينين عن 1917، أو دوبريه عن 1968 هنا شيء آخر. جميع الطبقات وجميع الأجيال تتعاون. يتحالفون من أجل هدف مطلق اسمه الحرية. نعم مطلق مثل الحياة والموت، وينجحون. إنه ليس نجاحًا آيديولوجيًّا. الحرية هنا حلم؛ الناس تخرج إلى الشارع لتحقيق حلم، والأقمار الصناعية والكمبيوتر وشبكة الإنترنت تقوم بالأدوار الأساسية. لو لم يكن هناك تليفزيون لما خرج الألمان لتحطيم حائط برلين بهذا الشكل. لا أدعي فهم الجماهير التي تتحرك الآن وكيف تتحرك.
كلمتك عن جمهور (زوزو) فكلمتني عن الجماهير السياسية…
وقتها، عام 1972، لم يكن هناك تفسير لنجاح الفيلم على النحو الذي نجح به إلا أن الناس تريد أن تهرب. كانت هناك ضغوط؛ طوابير على رغيف العيش، وعلى المربى البلغاري وأشياء لم تعشها أنت. هل تعرف المربى البلغاري؟
لا..
إنها مربى جاءت هدية من بلغاريا، ولم يكن يجري وراءها الفقراء أو الطبقة الوسطي فقط، بل الأثرياء أيضًا. لأن الثري إذا أراد أن يأكل مربى أوروبية إما أن يسافر إلى أوروبا أو يقف في طابور أمام الجمعيات التعاونية.
ما علاقة المربى البلغارية بالفيلم؟
أنا أتحدث عن ظروف عرض الفيلم لأننا نناقش نجاحه وليس الفيلم ذاته. الفيلم فعلا كان إلهاءً. وكذلك فيلم “أبي فوق الشجرة”، كلاهما كان إلهاءً. ولا أقصد هنا بالإلهاء أنني أهاجم، بل أصف. ولا شك أن الناس كانت في حاجة إلى الهروب من الكذب والخوف والحزن على الهزيمة. كانت الحالة، وحسب التعبير اللبناني العامي “مشربكة”.
هذا رأيك الآن أم آنذاك؟
هذا رأيي الآن؛ وقتها كنت أطالب بأفلام تصنع الوعي السياسي بالصراع العربي الصهيوني والصراع مع أمريكا الإمبريالية وكيف يتم تجاوز هزيمة يونيو إلى آخر منظومة ما بين الحربين.
كنتَ ناصريًّا..
الناصرية اختُرعت بعد عبد الناصر..
أقصد كنت مع تصورات نظام عبد الناصر..
طبعًا، كنت معها. بعد 5 يونيو كنت مع كل الناس الذين يرون أننا يجب أن نعمل لتجاوز الهزيمة، لكن النظام كان يزيِّن الهزيمة، أو بالأحرى كان الذين هزموا يدافعون عن أنفسهم لأنهم ظلوا يحكمون. كنا على يسار النظام. تظاهرات 1968 وحركة 1968 كلها كانت على يسار النظام. كان النظام يريد أن يعتبر 5 يونيو كارثة تم تجاوزها يوم 9 يونيو، أي أزمة 4 أيام فقط. أرادوا الاستمرار فلم يعترفوا بالهزيمة. فتحي غانم رئيس تحرير الجمهورية قال أمامي مساء 8 يونيو: لقد انتهى دورنا.. انتهى دور أجيالنا.
هل خرجت في تظاهرات التنحي؟
لا.. لم أشترك شخصيًّا في أي تظاهرات إلا في تظاهرات 1968 و1972 بشكل محدود في ميدان التحرير. كمؤازر مع السينمائيين ونقاد السينما الجدد. لم أرفض تظاهرات التنحي ولكني شعرت بالقرف من رقص أعضاء مجلس الشعب على الكراسي عندما قبل عبد الناصر التراجع عن قراره. كانت الكارثة أكبر من أن يبقى عبد الناصر أو يستمر.