“الست“ هكذا عرفنا أم كلثوم في بيوت أفندية الطبقة الوسطى الصاعدة عبر التعليم والوظيفة في جيش الدولة الجرار من الموظفين.
كانت أم كلثوم هي “المرأة” أو “الأنثى الكبيرة” بتعريف الألف واللام، ويدللها نفس الجمهور “ثومة“، وتتراقص هي على المسرح بين الوقار والسلطنة لتثير بالصوت والأداء، قبل الكلمة واللحن مشاعر التجول الحر بين قوة مسيطرة وحس يلهث وراء نشوته.
المستبدة؛ تصحبك إلى النشوة أو تقودك إليها، هذا سر أم كلثوم مع جمهورها كما شعرت به عندما شرح أبي لي قصيدة “الأطلال“، وعندما وصلنا إلى مقطع “عدونا فسبقنا ظلنا…“، تخيلت أم كلثوم تطير وتقفز من السعادة. وبعد سنوات اكتشفت أن أحد أسرار أم كلثوم أنها وهي الوقورة المسيطرة لديها من الخفة ما يهز الأجساد الخاملة و يحرك الحواس المتجمدة.
أبي متعته الكبرى والوحيدة الآن سماع صوت الست، أصبحت ملخص عالمه السعيد، وتقريبًا هذا حال من شهد لحظة وضع السلطنة القديمة على مسرح حديث.. كيف ترى ما لا يمكن أن تتخيل وقوعها في العشق وهي تحرك المسرح الجامد من انتقالاتها بين المقامات وبين السيطرة على الموسيقى والامتلاء بها..
هي أم كلثوم من ربات الصوت الكبيرات في العالم… وهي أسطورة بمعنى مختلف عما كانت تمثله منيرة المهدية؛ آخر خيط في مفهوم “السلطنة“ القديم. ومنيرة سميت السلطانة باعتبارها المسيطرة على مكانها المغلق، المحدد في صناعة البهجة والسلطنة. كل منهما “ست“ كبيرة صنعت مكانتها بصوتها الذي لا يزال المهووسون دينيًّا يهتفون بأنه “عورة“!
انتهت الحرب بينهما على عرش “المغنية الأولى“ بصعود أم كلثوم وانسحاب منيرة إلى عوامتها الشهيرة وحيدة مع قطها الأسود.
كانت صورة أم كلثوم في تلك الفترة “فلاحة“ نجحت في اقتناص فرصة الصعود إلى عرش الغناء لتصبح بديلة سلطانة الطرب.. والحرب بينهما وصلت إلى حدود الخوف من القتل. لم يكن القتل بعيدًا عن صراع المطربات على العرش، ولم يكن غريبًا مثلاً أن تنتشر في تلك الفترة شائعة عن أن أم كلثوم هي التى دبرت حادثة موت أسمهان. بل إن منيرة المهدية أوقعت أحد الصحفيين في غرامها لكي يجند مجلته لهدم سمعة وسيرة أم كلثوم.
في حوارها التليفزيوني الوحيد تقول منيرة المهدية “أم كلثوم كانت تعمل ليلة واحدة في الجمعة.. لكن أنا كنت كل ليلة على المسرح“. وتحكي أم كلثوم عن زيارتها لمنيرة في عوامتها “سمعت من القصبجي (محمد) إنها مريضة، فقلت له أن يصحبنى لزيارتها، وهناك حصل منها موقف طريف فقد قدمت لي كازوزة (مشروب مياه غازية) على سبيل الضيافة.. وقبل أن أشرب منه سبقتني وتناولت منه جرعة وهي تقول لى علشان تشربي وتطمني“.
أما منيرة في حوار لها بمجلة “الكواكب“ فتروي الواقعة من وجهة نظر أخرى “أم كلثوم تركت الزجاجة التي أمامها وشربت من الزجاجة التى أمام القصبجي.. وتضايقت أنا من هذا التصرف، وأردت أن ابرهن لها أن الدار أمان.. فأخذت الزجاجة من أمامها وشربت منها“.
منيرة المهدية كما تقول عن نفسها في الحوار مع أماني ناشد” أنا كل فكري وعلامي من دماغي“؛ هربت من المدارس النظامية، وأصبحت أول مصرية مسلمة تقف على خشبة المسرح في حادثة هزت البلد وعروش الرجال وفتحت الطريق أمام خروج المرأة من الحرملك.. بل وأصبحت مقهى “نزهة النفوس“ التي امتلكته في عزها يسمى بين المصريين “هواء الحرية“.
منيرة ربت نفسها لتصبح “زكية حسن منصور” الطفلة المولودة في قرية مهدية التابعة للإبراهيمية بمحافظة الشرقية عام 1885 هي المغنية المشهورة التي تنتج لها “بيضا فون“ أشهر شركات التسجيل وقتها أسطوانات تقول في مطلعها “الله الله يا أسطى منيرة المهدية“.
وعلى عكس أم كلثوم التى حفرت طريقها برعاية أب مسيطر وعائلة تحولت إلى كورس لها في الحفلات الأولى.. على عكسها مات والد منيرة وهي رضيعة، وربتها شقيقتها الكبرى في بيتها بالإسكندرية مع زوجها الذي كان من الملاك الزراعيين؛ وهو جمهور لم تتعوده هى نفسها بين قرى الفلاحين، غير الجمهور الذي اعتاد أن يسمع الطرب والغناء في القاهرة، إنه جمهور السوريين والإفرنج ثم الشباب المثقف من أولاد الاعيان وأثرياء الزراعيين في الريف. وهو في حقيقته جمهور الطبقة الوسطى في المدينة. وهي كما يقول فتحي غانم في كتابه (الفن في حياتنا): “الطبقة التي بدأت تنمو وتتسع مصالحها في مصر. ونحن نعلم اليوم أن الطبقة الوسطى هي التي زاملت أم كلثوم في صعودها الفني، وهي جمهورها المخلص حتى الآن فمنذ جاءت أم كلثوم إلى القاهرة ابتعدت نهائيًّا عن طبقة الفلاحين الأجراء إلا في أغانيها ذات المعاني القومية أو الاشتراكية التي تمس مصالح هؤلاء“.
البداية من الريف والانتهاء بالبرجوازية الصغيرة الصاعدة في العاصمة هو الطريق الذي سار فيه كل أبطال هذا العصر: من طه حسين وعلي عبدالرازق، مرورًا بسعد زغلول وحتى أم كلثوم.. كانت رحلات صعودهم علامات ذاك العصر ومؤشره الفكري في حين ظلت مصانع القيم المتصارعة على هوية مصر بين الشرق القديم والغرب المنتصر؛ تعمل بقوة وعنف.