هكتور راؤول كوبر مرمم جثث. لماذا أردنا منه أن يعلم اللاعبين المصريين كيف يعزفون الموسيقى؟ هل كان مطلوبًا من الأرجنتيني العابس أن يغير الكون، ويجعل الجثة التي رممها ترقص الباليه؟ تركزت أهميته في كونه مدربًا محافظًا لا يغامر، ويستوعب قدرات ومهارات لاعبيه ليمنع الانهيار. تسلَّم الأرجنتيني العابس فريقًا محطمًا، تحن جماهيره إلى عصر ذهبي فاز فيه، بقيادة حسن شحاته، بثلاث كؤوس أفريقية متتالية. وكان مطلوبًا منه مهمة لا يبالي بها أحد؛ ولم تكن المهمة هي العودة للفوز، ولا استثمار الحماس العمومي في الملاعب تعويضًا عن فقدان الإنجاز في المجالات الأخرى، ولكن في أن يكون لجيل يلعب الكرة دون جماهير فريقًا وطنيًّا. إنها لحظة غريبة؛ مافيا الكرة تستعيد مكانها بعد وقت مستقطع من الحذر والريبة، في أعقاب شروخ 25 يناير 2011 في جسد للعصابة الحاكمة الواهن. هذا الوهن استُثمر بإفراط في “وطنية الكرة” أقوى منتجات السنوات العشر الأخيرة من عصر مبارك. وبعد الأمريكي برادلي، كان على القادم من قيادة “إنتر ميلان” و “بارما” أن يواجه لعنة فردوس عبد الحميد.
عاش المصريون على حلم العودة إلى المونديال 28 عامًا من الفشل. أساطير كبيرة مثل أبو تريكة تحطمت قبل الوصول إلى الفردوس البعيد، وذلك باللعنة التي منحها الجمهور اسم الممثلة التي كان وجودها هي وبقية وفد النجوم غريبًا في ملعب أم درمان؛ في المباراة/ الموقعة الشهيرة مع الجزائر(2009). المحطة السابقة للمدرب على إدارة المنتخب المصري، كانت فريق العين الإماراتي، لكنها كانت نقطة عابرة في تاريخه الذي ارتبط بشيء ليس هينًا في عالم كرة القدم، وهو النحس! كان يبدأ صادمًا وشجاعًا بتغيير خطة اللعب معتمدًا على لاعبي ارتكاز الوسط، وهو ما يصنع التماسك في الفرق المهلهلة، لكن الحظ يقف ضده في إكمال طريق الإنجاز، حتى إن الحرب الأهلية اشتعلت في جورجيا في منتصف مشواره مع منتخبها الكروي. ليس مثله مدرب يناسب الميلودراما المفرطة عند المصريين، تلك التي جعلت شركة اتصالات تختار تيمة ظهور رجال في الشيخوخة يستغيثون “يا نوصل المرة دي كأس العالم يا ما تلحقوناش“، هذه المبالغة في موضوع يتعلق باللعب، لخصت نزعة النرجسية الجريحة المستسلمة للفشل باعتباره قدرًا. كوبر من عمر جيل “الفرص الضائعة” نفسه، كما يسمه حكماء الواقعية؛ النادمون، المهزومون، المصابون ببلادة “الصفر” الشهير الذي استحقه الملف المصري في تنظيم المونديال سنة 2010. المسؤول التنفيذي عن هذا “الصفر” الأول هو المهندس هاني أبو ريدة نفسه، الذي كان مسؤولًا عن “الصفر الثاني” الذي نالته المشاركة المصرية في مونديال روسيا 2018. هذا الثبات لا يعني فقط استقرار الشبكات الخلفية التي تتحكم في إدارة مجال كرة القدم، ولكن في النظرة إلى اللعبة باعتبارها مجالاً للسيطرة على الجماهير، وتشغيل ماكينة البزنس.
كوبر واقعي؛ أوصله خياله إلى خلطة ترميم الجثث، وكان هذا كنزه الثمين الذي اكتفى به؛ ومثل كل المكتنزين ضاق خياله مكتفيًا، أو خائفًا.. وهنا كان اللقاء بين مدرب البراجماتية الباردة، وبين الخرافة الموجودة من الأصل في عالم كرة القدم باعتبارها مبررًا غير عاقل للهزائم أو الانتصارات، أو أداة تفسير سهلة لمعجزات أو كوارث ذلك الجزء الغامض من الإنسان الذي يسمى الموهبة.
قبل المباراة الحاسمة مع الكونغو كانت التيمات المنتشرة في الإعلانات ترتبط بالتطير والخوف على الفرصة من الحسد. فقد جاءت الفرصة جاءت على يد كوبر الممعن في”الكرة دون جماليات“، وصاحب التاريخ المحيِّر في مصادقة طيور الشؤم كلها. ولأن الميتافيزيقا لها حدود في التفكير أو في الاعتماد عليها، لم يكن أمام كوبر مساحة مناورة كبيرة بعيدة عن إبداعه في ترميم الجثث، كل الظروف ساعدته ليكلل وجوده مع الفريق المصري بكارثة ثقيلة ذات طابع هزلي مأساوي يُفقد النطق.
كوبر ذو الوجه الذي لا يحتمل دون نظارة طبية تؤكد خبراته في أمور يجزع منها الكثيرون. لم يهتم بنوع الفريق المعاون له، وأدرك بالتجربة الأرجنتينية ماذا يعني التصاق المجال الكروي بالسلطة، وبخضوعها، بالكامل، لعلاقات سيطرة الشبكات المافياوية التي لا نرى منها إلا الجانب الاستعراضي للشر الركيك؛ وجوه غارقة في مكياج الموتى، لم يبق منهم سوى رغبة البقاء على الشاشات.
هل أدركها كوبر بالغريزة التي تنمو في أقاليم الديكتاتورية، أم بغريزته كلاعب مقيم في خط الدفاع؟ لا ندري، لكنه لم يفلت منها، أو يسعى للاستفادة من متغير كبير؛ وهو قدرة لاعب فذ مثل محمد صلاح على الهروب من الوحل العمومي، والانتصار على حالة التواطؤ والتورط والسعادة في الحياة بالأفق المصري. وهو أفق عجيب ومقفر وبائس مثل كوكب ليس يه سوى آثار حياة قديمة، لكنه يتميز بالجمهور الكبير والضخم، ملايين يحققون لأي لاعب ذلك السحر المشبع، الذي يكمن وراء افشل أغلب تجارة هجرة اللاعبين المصريين للعب في نوادٍ أوروبية أو أمريكية؛ فالجمهور الموزع بين الأهلي والزمالك يعني للاعب في أول طريقه “نشوة مكتملة“؛ ملايين يعرفونه وملايين تدخل حساباته البنكية، وهذا كافٍ لمن ليس لديه سوى سقف طموح الدخول في عالم يحكمه ملوك الاستعراض التليفزيوني. هرب صلاح بالطموح إلى شيء آخر يراه وحده، خرج من مجال الجاذبية المصرية، منافسًا نجوم وملوك عالمهم أوسع.
صلاح كان القاطرة المعطلة، بعد أن تحول الصعود إلى روسيا من تحدى جديد إلى شهوة في الاستثمار الرخيص المتبادل بين شركات تابعة للمافيا المحلية وبين لاعبين انحصر طموحهم في الظهور على الشاشات لمنافسة نجوم التمثيل، تسيطر وجوههم على لوحات الإعلانات الضخمة، ولا تقول هذه الوجوه شيئًا يذكر ولا حكايات تحكى؛ كأنهم حراس مدينة مهجورة!
وحده محمد صلاح كان في كوكب آخر، وكوبر تائه يتساءل: كيف سترقص الجثة في روسيا؟