أنت مرهق. ترهقك الحياة والظروف المحيطة بك، تثقلك حتى لا تدع لك متسعًا من
الوقت كي تزيد من ثقافتك الفنية، أو تتتبع النشاط الفني. وإذ بك تفاجأ بإنتاج فني
يبتعد عن حسك وتذوقك. وإذ بك تقرأ صفحات عن الفن التشكيلي أو نقد لأعمال فنية
ومعارض فلا تفهم منها سطرًا. أنت في هذه الحالة إما أن تثور على نفسك، أو
تخجل منها لعجزك عن فهم هذه الطلاسم.
لكنك في الحقيقة تحب رسوم (جمال كامل) أو كاريكاتير (صلاح جاهين) أو
(الليثي)، قلها ولا تخف، فأنا مثلك أفضلهم، هم وغيرهم من رسامي الجرائد
والمجلات الصرحاء مع أنفسهم. أفضلهم من معظم الفنانين التشكيليين الذين يدعون
أنهم فنانين حداث، فقد أصبحت مدارس الفن الحديثة المتنوعة هي الشماعة التي
يعلق عليها مدعي الفن فشلهم وعجزهم. وأنا مثلك عاجز عن فهم معظم ما يكتب
لدينا أو يقال عن الفن التشكيلي، لا تخجل من هذا أبدًا، ولنكن في زمرة البسطاء
أفضل من أن نكون في زمرة المتحذلقين الكذابين.
تعال معي لدردشة بسيطة عن شئ يسمى الفن، شئ كالحب والحياة، عجز الفلاسفة
كلهم عن إيجاد تعريف كامل أو شامل له.
ظلت مشكلة تعريف الفن موضع جدل ونقاش الفلاسفة لأن كلهم هدفوا إلى ربط الفن
بالجمال. طبعًا من السذاجة أن نهدر ما وصل إليه الفلاسفة من تعريفات للفن تربطه
بالجمال أو تحدد علاقته به، لكن في استطاعتنا كذلك أن نقول إنه لا تعريف من تلك
التعريفات هو تعريف صحيح أو تعريف شامل.
منهم من قال أن الفن اليوناني دون غيره هو الفن الحقيقي أو الجمال الحقيقي، طبعًا
هذه نظرة سطحية، لا شك في ذلك، لأن الرجل الأفريقي مثلاً كانت له فكرة أخرى
عن الجمال.
ومنهم من حاول ربط الفن والجمال بالعاطفة، وهذه بدورها محاولة ساذجة، والواقع
أن محاولات الفلاسفة خلال القرون الماضية لوضع تعريف للفن وقعت كلها فريسة
لمثل هذه الأخطاء، كذلك لأن الفيلسوف بمحاولته إيجاد تفسير لكل شئ وفي نظرته
العامة الشاملة للكون، كأن يضع نظرية أخلاقية واجتماعية ثم يحاول أن يلبس الفن
هذه النظرية. يحاول أن يطبق مفاهيمه الفلسفية على نظرته للفن، وأن يخضع الفن
لهذه المفاهيم، لكننا سرعان ما نكتشف عجزه.
كذلك أخطأ الفيلسوف بربط الفن بمفهوم الجمال، إن أي تعريف يجب أن يستمد قوته
من وجهة نظر عامة، ومقياس ثابت، والجمال نسبي كما قلت، والشئ النسبي لا
يمكن أن يبنى عليه تعريف ثابت للفن، الجمال شئ حقيقي ملموس في حياتنا، لكنه
حقيقة تخضع لظروف البيئة والمجتمع واحتياجات الإنسان، وهذه كلها مرت
بمراحل متعاقبة من التطور والتغير.
وهناك خطأ أخرى وقع فيه عدد من أرسوا قواعد الفن وحاولوا وضع تعريف له، إذ
ربطوا الفن بالخير، ثم عرفوا الخير بأنه التعليم والتهذيب، وكأنهم بهذا وصلوا إلى
أن حقيقة الفن هو التعليم والتهذيب، وهذا شئ مضحك. ومرة أخرى نعود لنؤكد أن
هذه الأخطاء التي وقع فيها الفلاسفة لا تعني تجرد أفكارهم ووجهات نظرهم من كل
صواب وحقيقة. فالواقع أن كل محاولاتهم لعبت دورًا في عملية الخلق الفني
وتطوره. لكن لا تعريف واحد من شمولية جوهر الفن وحقيقته. والذي يمكن أن
نضيفه أن أغلب الفلاسفة حاولوا التهرب من مأزق قد يضع نظرياتهم موضع نقد
وقصور، فأغفلوا أن الإنسان والمجتمع الإنساني ذاته يمر بمراحل متعاقبة من
التطور، وإنه أي الإنسان يتغير بما يجري في داخله من متناقضات تظهر جليا في
إبداع الفنان. والإنسان في العشرين من عمره ليس هو بذات الشخص وقت بلوغه
الخمسين، والمجتمع في العشيرة البدائية ليس هو مجتمع الحضارة القائمة على
الإستعباد كالمجتمع اليوناني، وبالتالي فإن مفهوم الجمال والفن قد يختلف باختلاف
مراحل نمو الفرد، ومراحل تطور المجتمع، إذًا لا قيمة لأي تعريف للفن، فقط
تستثيرنا لعبة التدليل على صحة ما يريد الفلاسفة فرضه.
غير أننا نقف من جديد أمام التساؤل الحائر: ما هو الفن؟
إذن تعالى معي، لا تقل إنك مرتبط بالأدب أكثر من الرسم، فالطفل تعرف على
الحياة وولدت مقاييسه قبل أن يستطيع الكلام.
إننا نحاول أن نصف ماحلولنا ونحدد ما نشعر به بالكلمات، لكن أصدقك القول إن
قضية تطابق ما تراه أعيننا مع ما يدركه عقلنا هي قضية لم تحسم بعد، ولن تحسم
بعد. خذ مثلاً، نحن ندرك الآن كلنا حقيقة الشمس وحقيقة القمر، لكننا أمام روعة
الغروب ننسى أن الأرض التي نقف عليها هي التي تبعد عن الشمس في دورانها
حولها، فإذ بنا نخشع بالضبط كما كان الإنسان منذ آلاف السنين مع اختفائها أسفل
الأفق، وطبعًا نعلم أن الإنسان سار على سطح القمر، لكن من منا يتذكر ذلك عندما
يكتمل القمر ويغرق الليل في ضوئه الفضي، بل بالعكس يشده شجن، ويفتقد وجود
الحبيب، إذن فالمعرفة بالشئ هي غير ما تدركه بحسك، وحقيقة واقع الشئ تختلف
عن واقع ما تراه وتحسه. لكن لا ننسى أن حكمنا على نراه يتأثر كثيرًا بما نعلمه عن
الشئ أو ما نؤمن به. من منا لا يخاف النار؟ وإذا اقتربت يده لا يتذكر جهنم؟ حتى
لو كان ذلك في ليلة قارسة البرد، ورغم احتياجنا الضرورى لها.
إذن هناك عامل آخر كذلك وهو أن هناك دلالات مسبقة في عقولنا عما نراه تفرض
نفسها مع رؤيتنا للشئ، قد تختلف تلك الدلالات، وباختلافها تختلف وجهات النظر.
إذن لا تخجل من وجهة نظرك، فأنا أحترمها. وتأكد أن وجهة نظر صادقة وقيلت
بإحساس هي أوقع وأشمل وأكثر عمقًا وارتباطًا بإنسانيتنا معًا يقدمه مدعي كاذب
يخدع نفسه، مهما كانت معارفه ومدركاته.
…
- *المقال عُثر عليه في مسودات “لم تنشر” من أوراق حسن سليمان تحت عنوان: “البسطاء …وغير المتخصصين”