القاهرة كانت أحد أسرار غضب حسن سليمان. عاش في قاهرة غريبة، بعيدة عن القاهرة التي عاشها. هذه الغربة كشفت عن صراع كلاسيكي يعيد فيه الفنان بناء مدينة ذاكرته مع كل لوحة. التكرار وإعادة الاقتراب من الشوارع وناسها ومشاهدها وحركة الضوء فيها، كان من أجل الإمساك بالمستحيل. الزمن الهارب. المدينة الذاهبة إلى لعنتها. الناس الذين تتكور أجسامهم في اللوحات لتعكس دبة المدينة الحائرة وسط خراب مصنوع بإرادة لاهية ومقصودة في الوقت ذاته. أين مدينتي؟ سأل حسن سليمان في مقاله بمجلة “الهلال ” عدد نوفمبر 1999، بكل الشجن الذي تصنعه مفارقة مباشرة يقارن فيها بين لندن والقاهرة. بين الحضور والاختفاء شبه التام. المقال عن مطاردته لأشباح المدينة الغارقة في غبار حرقته الشمس.
حدث ذات صيف أن كان حظي أنا وأسرتي طيبًا، إذ قطنا بحي (ريتون سكوير) بلندن، أو حي القصور البيضاء كما يسمونه، حي قصوره كلها بيضاء، وأسواره الحديدية على ارتفاع واحد، وأبوابه ضيقة، ذات حجم وارتفاع واحد، تصعد إليها بدرجتين، وقليلة جدًا الحوانيت والمطاعم به- تكاد تكون أقل من أصابع اليد، والأسوار الحديدية، والأبواب كلها مدهونة باللون الأسود اللامع الذي لا يضاهيه في لمعانه سوى حذاء الرجل الإنجليزي. وهذا يعطى للطرقات مع الأشجار هدوءًا وسكينة، ويفرض على خطواتك إيقاعًا منسجمًا مع سكون الطريق. إذ من النادر أن تمر سيارة أو رجل أو سيدة. وإن مرت السيارة فهي تسير ببطء، وبسرعة لا تزيد عن عشرين كيلو مترًا في الساعة. ولم يحدث أن رأيت شيئًا من أية نافذة إذ أن الستائر الثقيلة دائمًا مسدلة على النوافذ الزجاجية المغلقة.
حدث أن أشترى أحد الأمراء العرب قصرًا من تلك القصور. حاول أن يغير فيه شيئًا طفيفًا، فإذ به يمنع نهائيًّا من إحداث أي تغييرات من الداخل أو الخارج. فترك القصر مغلقًا إلى الآن. على كلٍ الفرصة التي سنحت لي كانت أن أقطن فوق حانوت حلاق متخصص للسيدات كبار السن، يملك البناية الصغيرة كلها. أعطاني الطابقين اللذين فوق حانوته بعقد يسمى عقد صداقة. إذ معناه أنني ضيفه، ولا ورقة مكتوبة بيني وبينه. أخذ المفتاح وأدفع له كيفما شئت ومتى شئت، لأن القانون يمنع أي تأجير في هذا الحي، كنت أنا الوحيد الذي يرفع زجاج النافذة، وأطل برأسي. استثارتني السيارات الفخمة التي تنزل منها السيدات “الأرستقراطيات” الإنجليزيات خصوصًا وهن خارجات من محل الحلاق. إذ أعجب من تفتن ذلك الحلاق في إعطاء ظلال باهتة على الشعر الأبيض المتبقي على رؤوسهن، فتارة يدعه يميل إلى الاصفرار وأخرى رماديًّا يميل إلى الزرقة أو إلى البنفسجي. المهم أنه كان يتفنن في كيفية أن يعطى للسيدة العجوز وقارًا يؤكد جمالاً غابرًا. في مواجهتي مطعم وحانوت لبيع الجبن والنبيذ، المطعم شككت أنه مغلق نهائيًّا فمن حين لآخر يضغط على الجرس أحد الإنجليز ويدخل ثم يغلق الباب خلفه. حتى كانت الضجة التي أثيرت أمامي من ملاحقة المصورين الصحفيين للأميرة “ديانا” الراحلة وهي تدخل مع بعض أصدقائها هذا المطعم، وذلك قبل تصريحها الشهير بالتليفزيون الإنجليزي، مناشدة الصحفيين أن يتركوها وشأنها.
ذات صباح وجدت النقاشين يعملون في واجهة حانوت الجبن.. أتأملهم وأتأمل مهارتهم في العمل. وفي تبطين أخشاب الواجهة والباب، وهذا شيء افتقدناه في مصر، بعد أيام من خدمة الخشب، بدأوا يدهنون لونًا في منتهى الأناقة لكنني فوجئت ثاني يوم بعد جفافه، أنه كان أرضية للون آخر كي يقلل من حدة لون لا أستطيع أن أحدد هل هو بنفسجي أكثر أم رمادي، خدم هذا اللون الواجهة، كما خدم ألوان زجاجات النبيذ والجبن المعروضة في الواجهة الزجاجية، وقبل أن ينتهي النقاشون من عملهم فوجئت بجمهرة تقف على باب المحل. ثم بدأ النقاشون ثانية في تبطين الواجهة باللون الأبيض أعادوا نفس المراحل الأولى لكن رجوعًا للون الذي كان عليه المحل من قبل، وهو اللون الأخضر القاتم، المشهور به الإنجليز من القرن السابع عشر. دفعني الفضول كي أعرف السبب فقررت أن أدخل لأشتري أية قطعة جبن رغم فداحة ثمنها، لأسأل عن سبب تغير اللون. لدهشتي قيل لي إن الجمهرة التي وقفت أمام المحل هم مفتشون من الحي، أصروا على أن يرجع لون المحل لسابق عهده. فهو أقيم من بداية القرن الماضي ويجب أن يترك كما هو.
أما أنا قاطن وسط المدينة في قاهرة وفي الشوارع التي أنشأها إسماعيل باشا فأكاد ألا أتعرف على نوعية المحل الذي كان موجودًا الشهر الماضي، من كثرة التعديات والتغييرات، وبالكاد أستطيع أن أسير على رصيف من خروج واجهات المحلات.
أريد أن أتعرف على مدينتي. أتألف معها وأكون جزءًا من إيقاعها. إقامتي في “إيتون سكوير” أعطتني راحة نفسية واستجمامًا، وقابلية كي أقرأ وأفكر دون المعاناة التي أعانيها الآن في القاهرة، على الرغم من ذلك افتقدت شيئًا مهما ألا وهو الحنو الإنساني، وذلك الجو الذي كانت القاهرة في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات تمنحني إياه. وهو حنو الإنسان على الآخر بصرف النظر عن أية أهمية لغنى الفرد أو فقره.
.
مدينتي القاهرة أين هي الآن؟!
في صباي كنت جزءًا منها. أشعر أنني جزء من الزقاق والرصيف ومن المطعم. أشعر بمعنى الانتماء ومعنى أن نقول الشعب المصري. لكنى الآن أصبحت غريبًا عن كل مكان وعن كل شيء، وأصبحت أشعر أننا كمجموع لا يمكن أن نطلق على أنفسنا لفظ شعب. لأننا لا نملك مقومات معنى كلمة شعب، بل الكلمة التي يمكن أن تطلق علينا هي سكان القاهرة.
حنيني الدائم كان عند باب المزينين بالأزهر. وهو الباب الرئيسي الآن. كان يطلق عليه باب المزينين، لأن الحلاقين يجلسون على امتداد الجدار القرفصاء. يضعون طاسة له نحاسية بها تجويف يدخل في استدارة الرقبة، يمسكها الزبون، ويأتي الحلاق ويغرق شعر الزبون بالصابون، ثم يجردها به بالموسى كلية. هذه هي الحلقة السائدة تحت اللبدة أو الطاقية أو العمامة، ولو قبلت في أوراقي لوجدت صورة لسيد القع كان حلاقًا، لكنه كان بدينًا جدا كتمثال لبوذا. كانت أمه تنقله إلى باب المزينين على عربة يد، فمن سمنته لا يستطيع السير، تستعد له أمه في جلسته بجانب الحائط وتضع غذاءه إلى جواره. وذات مرة أتى إليها فران برغيف خبز ثمنًا للحلاقة. ولا يزال يتمازح العوام على من حلق حديثا بقولهم “هل خبزتم في منزلكم؟”. فالحلقة عند الفقراء كانت برغيف. وضع سيد القع الرغيف بجانب غذائه، وأعطى الفران الطاسة النحاسية البراقة، ليضعها أسفل ذقنه. بدأ يجرد له رأسه بالموسي بعد أن أغرق شعره بالصابون. وفجأة حينما انتهى سيد القع من نصف رأسه بالضبط، أتى كلب، سرق الرغيف وجرى. كف سيد القع عن الحلاقة. صرخ في الفران أن يسعى وراء الكلب. تباطأ الفران. أصر سيد القع على ألا يكمل نصف رأسه. تدخل بعض “العربجية” وأصدقاؤه من الحلاقين، كي يشتروا له رغيفًا آخر. لكن سيد القع أصر على موقفه. صاح وأرغى وأزبد، قائلاً: إنه سأل الرجل عن الذين خبزوا الخبز، وعرف أنهم يجيدون صنع الخبيز. وطيلة الحلاقة كان يحلم بأكلة شهية من هذا الخبز، مع طبق الملوخية الذي تركته له أمه أمس يبيت في الظل على حافة النافذة. سعى كل الموجودين للبحث عن الكلب للعثور على الرغيف، ووجدوا بقايا الرغيف ممزقة، لكن سيد القع رفضه. وضحك العربجية على موقفه. تبرع أحد زملائه لإتمام الحلقة، وفجأة تعاطف الكل مع سيد القع حتى العربجية الذين ضحكوا أولا. وكثيرون أحضروا له خبزًا مختلفًا محاولين أن يسيروا عنه. هل من الممكن أن نجد تعاطفًا بسيطًا بين الناس مثل هذا الآن؟ لم يتركوه سيد القع حتى ابتسم ثانية، وجفت دموعه. أشعروه أنه واحد منهم، وأنهم لن يتركوه في أي محنة مهما كانت بسيطة.
لا أزال أحتفظ بصورة سيد القع في آخر الأربعينيات، ولا أزال أحتفظ بصورة العربات “الكارو” وقد فك العربجية “منها الحمير والبغال”.
إنه شيء يسحر الفنان الشاب المكان وعبقه والتآلف بين الناس جميعًا دون الرغبة في أي مكسب مادي. شيء ما ينقصنا الآن. أذكر أنه كان لي مكان بجانب الدكاكين الملتصقة بجدار مسجد أبو الدهب. ولا أزال أذكر أنني ذات مرة وجدت مجذوبًا بحمل مخلاتين واحدة كبيرة والأخرى صغيرة. وفجأة وقف وأخرج طوبة من المخلة الكبيرة، وأخذ يصيح بعد أن قذف بها إلى السماء “يا الله.. يا الله خذ هذه وأعطني عشائي”، سعيت وراء الرجل محاولاً أن أعطيه نقودًا رفض وغضب، وازداد غضبه صائحًا أني أكلم ربنا، هل أنت ربنا؟ ثم مضى مناديًا “شمع رخو للعربجية” ذلك الشمع كان العربية يفتلون به سياطهم، بعد مدة قصيرة، رجع الرجل حاملاً خبزًا وقرطاسًا به “طعمية” شعرت أنه هزمني وأصررت على معرفته، ذهبت إليه متوددًا لم يعرني انتباها. فتوسلت إلى العربجية أن يكلموه لي حتى أرسمه. تدخلوا وأفهموه أني طالب فنون. فقبل أن أرسمه.
علمني هذا الرجل ذو الملابس الرثة البالية معنى الكرامة والعزة حتى في رفضه أن يأخذ نقودًا مقابل رسمه. ونشأت بيني وبينه صداقة اعتززت بها كثيرًا.
كان مكاني دائمًا على كرسي بجانب الأسطى عاشور الحلاق، لأنه كان ودودًا، وهو رجل فضولي كباقي الحلاقين؛ يريد أن يعرف كل شيء عني وعن عائلتي علق على باب محله “برطمانات” زجاجية بها “علق” يسعى إذا كان “العلق” في ذلك الوقت هو الدواء الوحيد لخفض ضغط الدم. يضعونه على الجبهة حتى يمتلئ بالدماء ويسقط، وفي داخل المحل توجد له سورة زيتية كبيرة وهو في معطفه الأبيض وأمامه صبيه ممسكًا بساق طفل وقد كتب تحت الصورة حلاق مصرح به من وزارة الصحة. يفتخر بها قائلاً إنه يضعها أمام خيمته في مولد الحسين، طوابير الناس يحضرون له أبناء ولم يحدث في مرة واحدة نزيف لأحد. كان يعتز بأن أفندي شابا اختاره ليجلس على بابه ليرسم، وكثيرا ما كان يقول: دعني مرة أحلق لك. أنت تحلق دائما بتدريجة مفرودة. أما أنا فسأحلق لك أرتست واطي، حلقة تتناسب مع مكانتك الفنان الشاب، ولكن الشيء الذي لن أنساه عن الأسطى عاشور أنه كان دائما يقول لي سأصف لك وصفة لا تقل بطارخ أو حمام أو “حلاوة طحينية”. قال “اذهب إلى الجزار واشتر رطل “ليَّه” وتخرط عليها رطل بطاطس وتنساهما على النار، وبعد ذلك لا تقل لى أنك لم تجد النتيجة المرجوة”. وأصر ذات مرة أن يطعمني هذه الأكلة. اعتذرت بأدب، أحاطني بالرعاية وجعل صبيه يطرد عنى الأولاد وأنا أرسم. وفي مرة تساقطت ألوان الصورة الزيتية التي يعتز بها فقلت له دعني أعيد لك رسمها ثانية. حينما أتممت الصورة حملتها إليه ملفوفة، رفض أن يضعها في الإطار القديم، وألا يقبلها حتى اكتب تحتها “هذه الصورة رسم الفنان المبدع حسن سليمان هدية منه للأسطى عاشور الحلاق المرخص”. كنت أعلم أنه رجل رقيق الحال سألني متى سأرجع ثانية، قلت له سأرجع بعد بضعة أيام، ولدهشتي فوجئت أنه أحضر لي حلتين، حلة ممتلئة باللحم وحلة صغيرة للبطاطس واللية”. وقال صائحًا إنه قد وضع في الحلة الصغيرة ست حبات من “جوزة الطيب”. قلت له “ماذا سأفعل بها؟ من سيأكلهما”، قال “افعل ما شئت، ضعها للكلاب لكن لا تطعنني في كرامتي لأني فقير”، فدعوت الموجودين من الحلاقين و”العربجية” وأحضرت خبزًا وجلسنا جميعًا على الأرض وأكلنا ولكن “العربجية” التهموا البطاطس “بالليَّة”.
كانوا يقبلون علىّ يقلبون أوراقي وهم يقولون “هذه صورتي، وهذا حماري أو هذه عربتي”. هل أستطيع الآن أن أجد هذه النماذج المتعاطفة. أعطوني أكثر مما أعطيهم وجعلوا لشبابي الفني معنى وحسنًا إنسانيًّا. أدين لهم بالكثير. أدين لهم بكلمات سلامة موسى عنى: فقد قال “أنه يجد في رسوماتي الدم والطين والعرق”. تغير المكان كلية. هدموا البيوت والدكاكين ووسعوا الميدان، ولكنهم في الحقيقة قضوا على روح الألفة التي كانت تجمع بين الناس، والوحدة التي تربطهم بالكيان المعماري القديم المتآكل، الذي كان له شذى وعراقة القدم حينما تتكئ الجدران على بعضها أين أنا الآن من كل هذه النماذج في مدينة القاهرة؟ أين الحنو الإنساني الذي يجعل فنانًا شابًا يضع يده في يد عجوز فقير ليشعر بالحنو الإنساني، وبأنهما جزء من مجتمع واحد. كما أدين لهم.. ومع ماذا سيتفاعل الجيل الجديد من الفنانين الشبان.
في آخر شارع الأزهر مع بداية تلال الدراسة كان يوجد كل أصيل سباق الحمير الحصاوي، وكان بطلا هذا السباق اثنين من الجزارين. لا زال أولادهم وأحفادهم موجودين في محلاتهم. أحدهما وهو الفص أحسن جزار للضأن و”الأوزي” ربع القامة قصير عريض. أما الآخر فكان الفحان وهو جزار لحم العجول و”الكندوز” بالجمالية، حانوت الفص كان في مواجهة خان الخليلي، وكان الاثنان يتباريان حتى في كمية الفضة التي يضعونها حول رقبة الحمار وتسمى “الرشمة”. الفص يثب جاثما على مؤخرة الحمار، أما الفحام لأنه طويل جدًا ورفيع فيمتطى ظهره ولا أتذكر أن أحدا استطاع أن يأخذ منهما هذا السباق قط. كذلك كان يستثيرني صراع الديكة، وأشهر واحد كان العطار بك، ويقال إن جده كان “شهبندر” تجار خان الخليلي أو العطارين لا أذكر. يدخل بعربة الحنطور خان الخليلي ويجري أمام العربة واثنان بملابس مزركشة بالقصب وسراويل منتفخة وعصا طويلة حفاة الأقدام، وطربوش أحمر ذي زر أزرق طويل، واثنان مثلهما يجريان خلف العربة. أما هو فيجلس حاملاً على أصبعه السبابة ديكه وقد برد أظافره وطلاهما بالجملكة وكذا منقاره. لكن الصراع كان في منزل بالباطنية في حجرة متسعة يجلس المراهنون مستندين إلى الحائط، أما وسط الغرفة فهو خال تمامًا. ثم يترك كل من المتبارين ديكه للآخر منذرًا الآخر أن ديكه سيقطع ديك الآخر: إربا بمهمازه أو منقاره. العطار بك لم يعطى فرصة لأحد أن يتغلب على ديكه. إذ كان على استعداد لدفع أي مبلغ ثمنا للديك الأفضل، وأظنها كانت ديوكًا هندية الأصل. كذلك كان لعربات الكارو ذات العجلتين الكبيرتين سباق كل غروب. يبدأ السباق من قبل بوابة الفتوح وينتهي إلى ما بعد بوابة النصر حيث يصعد الطريق إلى المقابر “العربجية” يقودون عرباتهم في سرعة فائقة، وكأنهم فرسان على عرباتهم من الأسرة الوسطى في عهد الفراعنة. ومعظم المتبارين كانوا من حي العطوف وهي المنطقة التي بعد باب النصر آخر الجمالية.
والكرات بفرسها يوجد لها كذلك سباق في رملة بولاق، المتباريون كانوا تجار جملة البقالة وكار اللبانين. استثارتني كثيرًا ملابس تجار جملة البقالة فهي خليط؛ يضعن على رءوسهم الطربوش، ويلبسون القمصان “الشاهي” وفوقه (بالطو) وفي أرجلهم أحذية رقيقة من جلد الغزال، كل ذلك كان بالنسبة لفنان شاب في كلية الفنون ذو التاسعة عشر عالما غريبًا كأنه في ألف ليلة وليلة. وغيره، كان هناك الكثير لأن أستلهمه..أعيشه. لماذا قضى على كل هذا؟ بينما الدول المتحضرة ما تزال تحافظ على مثل هذه الأشياء وتجددها، في فرنسا تركوا حي “مونمارتر” كما هو ومنع كل تجديد فيه. ليتهم تركوا حي الحسين كما هو. في إنجلترا تركوا حي “كومنت جاردن”، “بحواته” وشذاه ومغنيه ومقاهيه. ألمانيا جددت أزقتها القديمة وبأرضيتها المغطاة بالباز حجرًا حجرًا كما كانت قبل الحرب محصن عليها قبل القرون الوسطى. حتى الممرات أعيدت كما كانت بالضبط.
أما أنا قاطن وسط المدينة منذ أربعين عاما أكاد أنكرها ولا أعرفها. أريد أن أعرف هل ضاعت علاقة الفنان الشاب بمدينته كلية أو هو يلعنها كما لعن “أسبورن” لندن، أو كما لعن بودلير مدينته باريس.
سألت فنانًا شابًا فأجاب “لم يعد لي مدينة، الناس يسيرون في الطرقات كارهين أنفسهم”. سألته ثانية “من أين يجد الفنان الشاب الإلهام؟”.
فأجاب “كلا أن كل منا أنكفأ على نفسه بائسًا وحزينًا”.
فقلت له “كيف ستجد نفسك؟”، فأجاب “ربما بقيت الخمر والمخدرات ووهم حب يكتشف المرء بعده أنه مخدوع”.
سألته “وباقي الفنانين؟”
قال “كلهم مشغولون فوجهتهم شطر وزارة الثقافة فهي المعطاءة والمانعة. وهي المتسلطة تمنح بغير حساب وتمنع بغير حساب ودون مقياس أو معيار. أما المدينة فأين هي؟!
هل هي في التعديات التي حدثت وشوهت كل منازلنا وآثارنا وطرقاتنا تبيع بضائع مستهلكة. الله وحده، يعلم من أين تأتي، أم تريدني أن أستلهم تلك السيارات التي تكاد أن تتراكم فوق بعضها على الأرصفة ولا تترك لنا مكانًا نسير فيه”.