1
“للذكرى الخالدة“..
كم من شخص كتب هذه العبارة بالقلم، أو حفرها بآلة حادة على مقعد في وسيلة مواصلات، أو باب حمام عمومي، أو ورقة مالية أو حتى مقعد دراسة. إنها رسالة تطلب الخلود، تعبر الزمن، على الرغم من أن صاحبها عابر، وهي في الوقت نفسه إعلان نهاية للعلاقة المؤقتة بين راغب الخلود، والمكان. ونحن.. جمهور هذه الرسالة، ننتمي إلى لحظة أخرى، نرى فيها الزمن ممزقًا، بهذه الرسالة من الماضي (قريبًا أو بعيدًا)، وربما لا نفكر إلا في هذا الثقب الحاد الذي خلَّفه شخص عابر، في المكان والزمان.
في سياق مختلف، ربما نذهب بأنفسنا إلى دكاكين بيع الصور القديمة، ونشترى صورة من ماض آخر، يلبي عاطفة الحنين إلى لحظة، نغادر بها بؤس وجحيم اللحظة الراهنة. الصورة القديمة رسالة أكثر انتظامًا من ماض منسجم في ذاكرتنا، وخالد بقدر نجاح واستقرار العاطفة المتطلعة إلى ماض تختصره الصورة..
هي علاقة معقدة، يجسدها عنف “حفر اسمه” و “كمكمة” دراويش “الزمن الجميل”.. فحياتنا لا تخلو من “عنف” و “كمكمة”، لكنهما اختيار بائس في محاولة التعامل مع أسئلة وجودية، عن عبورنا المؤقت، ماذا نريد من الزمن؟ ولماذا نعيش؟ وهل يكتمل العمر بالأثر الذي نتركه خلفنا؟ وأيضًا: هل نعيش كأن العالم ولد معنا؟ هل نقتل الماضي، كما نقتل الأب، لنبدأ رحلتنا الشخصية؟ وماذا لو كان الحاضر مجرد فجوة زمنية كبيرة، كما هي هذه الأيام بما منحته ثورة الديجيتال من مشاعر بأن العالم كان قبلها صحراء مقفرة، أو بما فعلته ثورات أو انتفاضات قامت ضد تحكم الماضي وسلطويته، ولم يرحل الماضي.. ماذا نفعل في الفجوة؟
2
جامع النفايات اقترب من مقعدي على المقهى حذراً: هل تهتم بهذه الأشياء ..؟
لم يكن يحمل شيئاً في يده، لكنه أشار إلى كابينة السيارة التي يجمع فيها نفايات الحي الراقي الذي أسكنه.
لم يكن يحمل شيئًا في يده، لكنه أشار إلى كابينة السيارة التي يجمع فيها نفايات الحي الراقي الذي أسكنه. لم أفكر طبعًا في أنه يسأل عن مدى اهتمامي بالنفايات، وحدث بيننا تواطؤ لحظي جعلني أفهم أنه يقصد “شيئًا ما” يعتقد أنه ثمين، وأنني “زبون” متوقع.. لم ينتظر إجابتي الكاملة؛ تحرك إلى السيارة وعاد حاملاً في يده كتالوج معرض فني من دولة ألبانيا، ثم وهو يمد يده به “وعندي كتب مهمة، من جامعة الملك فؤاد، وطوابع، ولوحات“.. قلبت في “الشيء”، ولم أركز في تفاصيل اللوحات، كنت أفكر “لماذا يبدو “القديم” المهمل مهمًا الآن؟ وكيف تلقى “أشياء ثمينة” في النفايات، هل يتيح التخلص من “كراكيب الماضي” فرصة للحاضر أن ينتعش؟
3
قديمًا؛ عندما بدأ الإغريق في كتابة التاريخ فعلوا ذلك في مواجهة سلطة الآلهة، أصحاب السطوة الكبرى، لذلك كان عليهم مقاومة هذه السطوة بتدوين حياتهم والتحكم فيها، معتقدين أن التدوين سيحميهم من القوى الخارجية، فالصراع القديم بين الآلهة والإنسان طالما ارتبط بالدليل المادي، بالعلامات، بالآثار.. لكن ما الذي يجعل الإنسان المعاصر لا يزال مهتمًا بالتأريخ والأرشفة واستحضار الماضي للواجهة؟
4
“وكان هذا هو الاكتشاف المدهش”..
حكى لي الفنان محي اللباد عن تأثير حسن فؤاد؛ وهو رسام ومصمم وسياسي قاده إلى عالم مدهش من رسوم الصحف ومن الشغف بالعلامات البصرية؛ من تذكرة أتوبيس وإعلان عن ماركة سجائر أو مسرحية.. هذه العلامات تكون من وجهة نظر اللباد “صورة للزمن وتشكل وعي أهل هذا الزمن، ومؤثرة أكثر من اللوحات المعلقة في المعارض؛ وكان “حسن فؤاد يحتفظ بعلامات كثيرة من هذا النوع في دولاب خاص.. اكتشفته بعد رحيله وقلت إنه متحف مدهش“.
5
المدينة أرشيف مخفي.
تحمل علامات ومسارات ورحلات سكانها القدامى، وستحمل آثارنا، نحن سكانها الحاليين. وكما كان يرى والتر بنيامين أن المدينة “تمتلئ وتمر من أمامها الحياة، كما المشاة، بأعداد غفيرة وحيوية لا نظير لها”، بنيامين تمشى كثيرًا في باريس، وقرر أن يحللها بناءً على ممراتها المسقوفة المزينة بالجسور، ورأى في هذه الممرات رمزًا لباريس ذات المظهرين الداخلي والخارجي في الوقت نفسه. لكل المدن مظهران؛ داخلي وخارجي، والمدينة لا تنسى شيئًا، تحتفظ بذاكرتها لتحمي نفسها، خصوصًا في ظل سعي النيوليبرالية (بأشكالها المختلفة) لأن تكون “سمسارًا” يحوِّل الذاكرة إلى إعلان ضخم عن بيع أراضيها بالقطعة، حتى لا يعود هناك صورة كاملة لأي شيء. تحتفظ ذاكرة المدينة بطبقاتها المنسية والمعلنة؛ لكنها قادرة طول الوقت على استعادة أي شيء.
وهي بذلك لا تحمي ماضيها في متاحف، بل تتجنب أن يكون الحاضر مجرد مقبرة مفتوحة للمستقبل.
6
لا نريد من “أرشيف المدينة” أن يكون متحفًا. أو مجرد معرض للماضي. ولا يهمنا تقنية الحفظ التي تضع الأرشيف بعيدًا، للحماية أو لحفظ الأسرار في خزائن تحرسها أجهزة المخابرات، كما يحدث الآن في مؤسسات الذاكرة المصرية. لا يهمنا بقاء قطع الأرشيف إلا بقدر تفاعلها، وقدرتها على حياة أخرى. وكسر الشعور بأننا معزولون في صحراء اللحظة الراهنة. هي محاولة لتجاوز الفجوة / الكارثة.. والماضي جرس إنذار؛ فعندما خرجت أوروبا منهكة من الحرب العالمية الثانية، كان مهمًا أن تظل صورة الفاجعة في الوعي، كي لا تتكرر، لا يمكن أن تدمر المدن مرة ثانية، لا ينبغي أن يموت الملايين مرة ثانية، لا ينبغي للخواء أن يتصدر المشهد.. هنا تراوحت العلاقة بين الإنسان والذاكرة في المنطقة ما بين الرغبة في القطيعة التامة معها، والرغبة في الاستفادة منها لكيلا نشارك في طقوس دفن المستقبل.
على الأقل سنقف بعيدًا لنتقن حكايتنا.
7
والأسى هنا مرفوع، ولو كان حنينًا إلى جمال مفقود؛ فالأرشيف ليس حائط مبكى، ولا انتظار عودة يوتوبيا أصولية.. نحن نقترب أكثر من مفهوم ذكرته سوزان سونتاج في كتابها “فن الفوتوجراف” من أن “الفوتوجرافيا وسيلة للتصديق على التجربة/ اللحظة، لكنها في الوقت نفسه فرصة لنقدها”، التأريخ/ الأرشفة فعل قائم بذاته، بعيدًا عن التورط اللحظي. وهو أحيانًا لحظة يعلن فيها الشخص أن علاقته بهذا الشيء انتهت؛ مثلما تنظر امرأة إلى صورتها القديمة في فستان الزفاف، أو كاتب للحظة تسلمه جائزة كبرى، أو فاتنة لصورة لها في عزها، أو ملك زال عرشه لصورة له بين جماهيره الغفيرة.. الصورة كيان مستقل بشكل أو بآخر عن لحظة الحدث وعن زمانه، ربما تصنع الصورة قيمة مضافة للحظة لا قيمة لها نهائيًّا وربما تخصم من قيمتها السابقة، بالنظر إليها من جديد.