في مجلتنا الجديدة نشاركك مقالات وأفكار تبحث عن الجمال والحرية، وتفتح مساحات لاكتشاف سرديات جديدة بعيدًا عن القوالب الجاهزة.
مسرحيات الأخوين رحباني سحرية لا شك، فإن لم يكن سحر القصة ذاتها، كما في “جسر القمر” أو “هالة والملك“، فسحر الكلمة واللحن، والمعنى الشعري الملغّز، الذي يدفعك للتفكير طويلاً بعد مشاهدتها.. من أين أتت وردة؟ (المحطة 1973) من هي إم الأصفر؟ (يعيش يعيش 1970) ما الذي أبكى الحسّون؟ وما قصة إبريق الزيت؟ (ميس الريم 1975) كم لبثت فتاة جسر القمر مرصودةً على الجسر، قبل أن تتجلّى لشيخ المشايخ؟ (جسر القمر 1962). ما المعنى الحقيقي خلف التعبير الرحباني “فرح الرحيل” الذي يغمر الدنيا (أغاني أيلول وجبال الصوان 69). كل هذه التساؤلات، والألحان، هو ما قالت عنه فيروز في وثائقي كانت حكاية “زوّادة للأيام اللي جايي“.
لماذا الحديث عن ناس من ورق بالذات؟ إنها ذروة المنحنى الصاعد للإبداع الرحباني؛ بعدها قدم الرحبانيان مسرحية ناطورة المفاتيح بفكرة محدودة ومقاومة سلبية وانفراج ساذج للأزمة، ثم انفجر دماغ عاصي الرحباني، ومن يومها لم يعد إنتاج الأخوين كما السابق أبدًا، وكأن الأقدار كانت تستعد لذلك الانفجار، فحوت ناس من ورق ذروة كل لون برع فيه الأخوان.
ما الاستثنائي في ناس من ورق؟ قُدّمت المسرحية للمرة الأولى في 1971، في الدورة الثامنة عشرة لمعرض دمشق الدولي، ثم في فبراير 1972 ولدت مسرحية ناس من ورق بنسختها البيروتية في مسرح قصر البيكاديللي، وهي النسخة التجارية التي طُبعت كأسطوانات وصدرت ويعرفها الجمهور..
في سنوات الارتباك والاضمحلال وقلة الابداع الرحباني، ظلّت ناس من ورق حاضرة دائمًا كفكرة جاهزة يسهل تجديدها وتقديمها أكثر من مرة، ثم عاد الحديث أواخر السبعينيات عن مسرحية جديدة بعنوان “ورق بلا ناس“؛ ربما ضمَّ فيها الأخَوان نتاجهم من الأغاني الجديدة المفردة المتفرقة التي أنتجوها في تلك الفترة، ولم تسجل لا وقتها ولا بعد ذلك لاضطراب الأحوال الوطنية، والأحوال الشخصية بين فيروز والأخوين.. وعلى المنوال نفسه تم تقديم مسرحية المؤامرة مستمرة في العام 1980 بعد انفصال فيروز، بل إن برنامج قصيدة حب الذي قدمته فيروز والفرقة الشعبية اللبنانية في بعلبك عام 1973 تم الترويج له في البداية باعتباره جولة جديدة لفرقة ماريا؛ لذلك فهي مسرحية كل المسرحيات.
في العام 1892 قدم ليونكافيللو أوبرا “المهرجين” Pagliacci والتي تحكي قصة فرقة ممثلين جوّالة، يختلط فيها جمهور القرية على المسرح، بجمهور الأوبرا، وتمثيلية داخل تمثيلية، تنتهي بنهاية مأساوية، بالخيانة والقتل، وجملة أخيرة مشهورة “انتهت الملهاة La Commedia è finita” أيضًا تقدم ناس من ورق فرقة شعبية جوّالة، تعرض مشاهد تمثيلية غنائية متنوعة، في إطار درامي محكم.. بين جمهور ساحة المدينة الملتف حول الفرقة بأزيائها الملونة الحلوة، ليشاهد عروضها المبهرة، وبين الجمهور الحقيقي الآتي ليشاهد فيروز والفرقة اللبنانية الشعبية تدور مسرحية ناس من ورق..
في بداية المشهد الأول، من الفصل الأول، من النّص الأصلي الأول للمسرحية، كتب الأخوان رحباني وصف المشهد المسرحي كما يلي:
“الستار مسكّر. بينسمَع أكورديون مع طبلة وبينفَتَح الستار على مهل. صدر المسرح؛ حي من مدينة، على الشبابيك وعلى البلكونات. على جانب المسرح عربية ظاهر نصها. على الجانب التاني عم ينجَمَع بعض المتفرجين. بنت بتياب مهرجة بوسط الساحة، واقفة على طبل أحمر وعم تغني ومعها عازف أكورديون. بوليس عم بينظِّم الناس“.
تدخل المهرجة، وتعرف بنفسها وبالفرقة “وصلت فرقة ماريا“ ويطل المغنون والراقصون، ويهتف أهالي الساحة متسائلين عن النجمة المحبوبة المعروفة “وماريا؟“. كل هذه المقدمة والموسيقى للاحتفاء بالنجمة، وتشريفات دخولها.. تهتف المهرجة: بالفستان الأصفر طلّي يا ماريّا.. تطل ماريّا بالفستان الأصفر.. اختلفت هذه الطلة ثلاث مرات في ثلاث نسخ من المسرحية بين دمشق وأمريكا الشمالية وبيروت.. في هذا الملف بمناسبة عيد ميلاد الست فيروز، نستعرض ملامح من النسخ الثلاث، ونضيء بعض أوجه الاختلافات المجهولة..