في 29 أكتوبر 1929 كان الخميس الأسود للنظام المالي العالمي؛ انهارت سوق الأسهم الأمريكية؛ فانهارت بورصة وول ستريت، وكانت بداية الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي.. نترك كل هذا ونأتي إلى وسط القاهرة قبل انهيار وول ستريت بسنة؛ في 1928 نُقلت بورصة القاهرة من مقرها القديم في شارع عدلي إلى مقر جديد قام بتصميمه جورج بارك في شارع الشريفين في وسط البلد؛ فتحول هذا المربع إلى مركزية تجارية وثقافية وحضارية اختلط فيها عقل الشرق الأوسط بمعدته.. وعلى بعد أمتار قليلة من مبنى البورصة، تصل قدماك إلى 10 شارع علوي؛ تحديدًا إلى بناية يحوي جسدها 402 متر من الذكريات المتراكمة، ويرتفع لثلاثة أدوار، كانت في الأصل أربعة، حتى تم تنكيس الدور الرابع.. بنيت هذه البناية في السنوات الأولى من القرن العشرين؛ وهي مزيج من إيقاعات الفن المعماري اليوناني، كتلة مرهفة من الصفار الشامخ بشحوبه والفراغ المعبأ برشاقة شاهقة، محررة من أي ملمح من ملامح التكبيل. أول الأمر كانت مملوكة للدكتور علي بك اسماعيل عبد الله وزوجته لوزيت بنت لويس إدموند ميكيا الشهيرة بلولي إسماعيل، التي لم تنجب، وتوفيت في 12 مارس 1972، وورثها زوجها، ثم انتقلت ملكية العقار للدكتور محمد عبد المطلب أحمد، ثم آلت للأستاذ محمود الشورى المحامي والأستاذة عبير محروس..
يحكى أن المهندس المعماري الذي قام ببناء العمارة طلب إخضاع كل العمال الذين اشتركوا في بناء العمارة إلى الكشف الطبي النفسي على يد طبيب نفسي؛ للتأكد من صحتهم النفسية قبل بناء البناية التي لها شكل أنثى، عجوز تحمل في جوفها سكون يحكي الكثير، ويحكى عن أقلام قصفت وحاولوا محاصرتها هنا. ويحكى كذلك عن بؤر سوريالية وبراكين فكرية تمت محاصرتها هنا، وإشعاعات فكرية لم تعرف سوى الانحياز المجرد للإنسان وحريته وخلاصه؛ حركة فكرية كانت هنا وامتدت لأكثر من عشرين عامًا، وفككت الهواء وأعادت تشكيله من جديد ليمطر فنًّا وفكرًا يذيب الجمود الفلسفي والفكري والفني والأكاديمي النابع من تيبس كلاسيكي في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، في عصر هيستيريا ما بين الحربين. ويحكي أن المجلة الجديدة كانت هنا..
هنا ولدت مجلة المجلة الجديدة، المطبوعة السياسية والثقافية والأدبية التي بدأ سلامة موسى بإصدارها عام 1929، ولعبت دورًا تنويريًّا وثوريًّا عظيمًا في هذه الفترة، بل وخاضت معارك عديدة ضد النظام الحاكم في هذا الوقت، وضد الرأي العام في أحيان كثيرة. كانت هذه البناية هي المكان الذي انطلق منه كل هذا الضوء، وقد تعرضت المجلة الجديدة للمصادرة أكثر من مرة لاختلافها مع السائد؛
كان ينظر لسلامة موسى من قبل النظام الحاكم على أنه كاتب مشاغب غير قابل للترويض، بل ويمثل خطرًا على النظام وعلى التقاليد والموروثات المحافظة وعلى الدين أحيانًا.. كانت أشهر وقائع مصادرة المجلة عام 1930، حين كان سلامة موسى يصدر مجلتين هما المصري والمجلة الجديدة، ويطبع من المجلة الجديدة 12 ألف نسخة، وقد صودرت لما تحويه من مواد محرضة ضد النظام
العام كما يسمونه دائمًا. بعد المصادرة أقام المحاميان سابا حبشي ومصطفى مرعي دعوى قضائية ضد وزير الداخلية الذي أمر بمصادرة المجلة، وتشير الدعوى إلى أن سلامة موسى تكلف مصروفات باهظة في إعداد المجلة، واضطر إلى شراء مطبعة خاصة ليضمن طباعة المجلة الجديدة والمصري في موعدهما، وتضيف الدعوى أن سلامة موسى انتهج في مجلتيه الدفاع عن الحريات وضرورة إعادة النظام البرلماني؛ وكان جزاؤه أن قامت الحكومة بتعطيل مجلة المصري تعطيلاً نهائيًّا في يونيو 1930، كما قامت حكومة إسماعيل صدقي باشا بتعطيل المجلة الجديدة في أغسطس 1931، بعدما أر سل شيخ الأزهر خطابًا لوزارة المعارف؛ يحذرها مما تنشره المجلة الجديدة، وصدر الأمر بتعطيلها لمدة ثلاثة سنوات؛ بعدما ألغى الدستور واستبدل به دستورًا قمعيًّا؛ إذ كان منطلق الحكومة في مصادرة المجلة الجديدة هو اتهام المجلة بمعاداة الدين ونشر مقالات تعرضت للبحث في السياسة بما يثير الأخطار؛ كان هذا هو نص الاتهام. وقد طالب سلامة موسى بتعويض عن الضرر الذي أصابه من جراء مصادرة المجلة، وتم وضع شرط في قانون النشر الجديد أن من يطلب امتيازًا لجريدة أو مجلة عليه أن يدفع تأمينًا قدره 150 جنيهًا، وقد قام سلامة موسى بدفع التأمين لكنه رُفض، وبعد ثلاثة سنوات في

سلامة موسى
عام 1934 جاءت وزارة عبد الفتاح يحي باشا، وتم فتح المجال العام قليلاً مع المزيد من الحريات الصحفية فأعاد سلامة موسى إصدار المجلة الجديدة بضمان عامل يعمل عنده في المطبعة، ويبرز هنا مدى التباين بين الوزارتين في تلك الحقبة ففي عهد وزارة إسماعيل صدقي باشا تم رفض التأمين النقدي في مقابل تأمين الحكومة من الضوء المضمون الفكري الذي كانت تبثه المجلة الجديدة، وفي وزارة عبدالفتاح يحي باشا تم قبول ضمان عامل المطبعة الذي لا يملك شيئًا. بعد هذا، وفي بداية الحرب العالمية الثانية أنشئت وزارة الشؤون الاجتماعية، وتم استدعاء سلامة موسى ليحرر مجلتها، فاضطر لقبول الاستدعاء على مضض ظنًّا منه أنه يستطيع أن يبث أي روح تنويرية في مجلة تصدرها وزارة الشؤون الاجتماعية، لكنه سرعان ما اكتشف استحالة هذا الظن، واستمر إصدار المجلة الجديدة على مسارها نفسه.