نبعت فكرة تلك الجلسات من استفسارات الأصدقاء المتكررة عن أماكن تقديم الموسيقى العربية في نيويورك، ورغبات هؤلاء الأصدقاء في مرافقة الموسيقيين في أثناء البروفات. فقرر الثلاثة مؤسسين “تعميم البروفات وإخراجها للعلن” ممثلّة في جلسات المقام، ما يتيح ذلك للموسيقيين فرصة للتمرين والتنويع والتقسيم في جوٍّ حميمي غير متكلّف، كما يشكّل فرصة للتشبيك بين موسيقيي المقام ومستمعيه في مدينة نيويورك ومحيطها.
وبينما توفر تلك الجلسات ملتقى يستمتع به محبّو الموسيقى العربية خصوصًا والشرقية عمومًا، يقول المؤسسون إنها تخلّص الموسيقيين من أعباء التفاوض مع الملاهي والمسارح. ويقول بريان إن حفلات “سيمون شاهين قد تحظى بتغطية مجلة نيويوركر ومارسيل خليفة قد يُكتب عنه تقرير في النيويورك تايمز“، ولكن حظوظ عشرات الموسيقيين الآخرين، غير المعروفين خارج دوائر الموسيقى العربية في نيويورك وخارجها، في التغطية الصحفية ضئيلة إذا لعبوا فرادى، وكبيرة “إذا اتحدوا بشكل منظّم“، وهي الفرصة التي توفرها لهم “جلسات المقام في بروكلين” من وجهة نظره.
لاقت تلك الجلسات استحسانًا جعل تنظيمها مرتين شهريًّا دون انقطاع لسنة كاملة حتى الآن أمرًا ممكنًا، عدا مرّة واحدة في عطلة عيد الميلاد. ويقول ريموند راشد، أو “راي” ضارب الرِقّ، إن مرتادي تلك الجلسات يدركون أن “موسيقى الجام (الجلسات) مثلها في الجودة مثل الحفلات المدفوعة“، ولهذا السبب يواظب ريموند على حضورها والمشاركة في دق الرِقّ والدُفّ والطبلة في بعضيها.
ويستغل موسيقيون في بداية مسيراتهم الفنية تلك الجلسات للتفاعل مع الجمهور واكتساب الثقة مثل محمد علي (غناء/اليمن)، والذي أخبرني وكان قد خلُص لتوِّه من وصلة غنائية في حفل شهر ديسمبر، إنه “لا توجد مثل تلك الجلسات في أيّ مكان آخر في نيويورك“. ويقول بريان إن بعض الموسيقيين المبتدئين اتخذوا “جلسات المقام في بروكلين” منصة انطلاق نحو التخصص في الموسيقى العربية قبل الاتجاه لدراستها مع أساتذتها مثل سيمون شاهين وبسام سابا.
يتفق المؤسسون الثلاثة أن إيريك آلان (تشيلّو)، عازف جاز أمريكي محترف، يُعدُّ “قصة نجاح الجلسات” كونه تعرّف من خلالها على الموسيقى العربية، وما لبث أن واظب على حضورها بل وارتاد ملتقى الموسيقى العربية السنوي في أغسطس لأول مرة. أخبرني إيريك في حفل شهر ديسمبر، وكان قد خلُص لتوّه كذلك من المشاركة بالعزف بينما كان محمد يغني، إنه عهِد منذ صيف عام 2018 أن يتعلّم أغنية عربية واحدة في كل جلسة مقام.
ويقول جوني فراج وهو ضارب إيقاع لبناني فلسطيني شارك في العديد من جلسات المقام وعضو في عدة فرق طربية مثل تخت النغم وذكريات بالإضافة لكونه مهندس برمجيات يعمل في “وول ستريت“، إنه بدأ في لعب الموسيقى العربية بعد رحيله عن لبنان وانتقاله للعيش في نيويورك في عام 1998 بإيعاز من الحنين، وكأن الغُربةَ زيتٌ والطربَ نارٌ.
والمقام، كما يعرّفه جوني، أحد مؤلفَي كتاب “في الموسيقى العربية” مع سامي أبو شميس، على موقعه “عالم المقامات” أنه “نظام من سلالم وجُمل موسيقية معتادة وانتقالات مألوفة وزخارف تقليدية وجماليات مُتّبعة ومُتّفق عليها“، ويسمى التدرج النغمي في سياق المقام بالـ“سير“. وتمتد موسيقي المقام جغرافيًّا من المغرب حتى سنجان شمالي غرب الصين مرورًا بالمنطقة العربية بأكملها واليونان وتركيا وآسيا الوسطى.
ويشبه جوني المقام بالطبخ، فالمطبخ الحلبي، وإن استخدم مكوّنات مشابهة، يختلف عن المطبخ اللبناني أو المصري ولكلٍ ذائقة مختلفة. ويضيف أن المقام يتطور عضويًّا أو بتأثيرات خارجية كالموسيقى الأجنبية وآلاتها مثل البيانو، مُعطيًا مثالًا على عُرَب أم كلثوم الطربية التي “اختلفت في السبعينيات عن نظيراتها في الثلاثينيات” بالنظر إلى لتطوّر المقام.
وينتقد جوني دراسة المقام من منظار الموسيقى الكلاسيكية الغربية، وهي الطريقة السائدة في الدول الغربية ولا سيّما الولايات المتحدة، كونها “مُضرًّة” بالموسيقى العربية، مضيفًا أن مراجعات الموسيقى العربية في الصحف والمجلات الغربية “تعيسة ومحدودة“. ويمزح قائلًا إن كان الغرب يتهم بلادنا العربية بالديكتاتورية، فالغرب ديكتاتوريات موسيقية بامتياز لأن مايسترو واحد يتحكم في أوركسترا كاملة “بشكل فاشيّ“، أمّا في بلادنا العربية فأعضاء الفرقة الموسيقية ما انفكوا يعقدون “مفاوضات خافتة” في أثناء العزف، فيغيّرون الإيقاع أو يطيلون جملة موسيقية معيّنة أو يقصّرون أخرى بإجماع لحظيّ ودون اتفاق مسبّق لبلوغ تسوية طربية. ويضرب مثالًا قائلًا إن “أم كلثوم لم تحضّر قبل صعودها للمسرح إن كانت ستغني مقطع ‘نسيت النوم‘ مرتين أو ثلاث أو حتى سبع مرات“.
وتشكّل جلسات المقام بيئة نموذجية لاستحضار الطرب، وذلك لاعتماد موسيقى المقام على وجود جمهور متحمّس. ويقول جوني إن الموسيقى العربية حلقة يتفاعل فيها المغنّي مع مستمعين يمتلكون من المخزون السماعي ما يؤهلهم للتماهي مع الموسيقى وبلوغ نشوة الطرب. فالطرب ينطوي على خلق توازن بين تراث مقاماتي معروف لدى المستمعين من ناحية، وتجديد وتقسيم وفق اجتهاد لحظيّ من قِبلِ أعضاء الفرقة الموسيقية من ناحية أخري “بناء المقام وفق ذلك التوازن ومن ثمّ ترسيخه تدريجيًّا يخلق حالة التطريب“.