في مجلتنا الجديدة نشاركك مقالات وأفكار تبحث عن الجمال والحرية، وتفتح مساحات لاكتشاف سرديات جديدة بعيدًا عن القوالب الجاهزة.
يسير عاصي الرحباني ومعه منصور وصبري الشريف والصديق الدكتور النفسي عبد الرحمن اللبّان والكاتب المصري رجاء النقاش.. يكاد الحزن يأكل روح عاصي، والآخرون يواسونه.. إذ فجأة ودون أي مقدمات مات كامل التلمساني..
في 2 مارس 1972 توقف قلب كامل التلمساني، ومات بهدوء في شقته الصغيرة بشارع بدارو، حيث كان يسكن بالقرب من مكتب الأخوين رحباني، إثر أزمة قلبية مفاجأة لم يدر بها أحد.. قبلها بأسبوعين فقط ظهر كامل التلمساني مع فيروز والأخوين رحباني على شاشة تليفزيون لبنان والمشرق وقدم لمسرحية “ناس من ورق” التي كانت ستُعرض على مسرح البيكاديللي خلال أيام.. قال كامل التلمساني بلهجته المصرية مع القليل جدًا من اللكنة اللبنانية:
“الأخوان رحباني بيصرّوا على إنها من لون المنوعات؛ يعني قصة غنائية راقصة مَرحِة.. في رأيي المتواضع، إنها مسرحية أولًا، القصة فيها تنمو إلى أبعاد ممتازة كمسرح درجة أولى، مع أنها مليئة بالأغاني والألحان المنوعة وبالتابلوهات الغنائية وبالاسكتشات، وجميع أنواع الغناء من القديم للحديث المعاصر، ومع ذلك القصة مازالت درجة أولى.. هي قصة فرقة استعراضية، إحدى المطربات المهمات فيها السيدة فيروز، اسمها ماريّا، والفرقة تحمل اسمها بطبيعة الحال؛ فرقة ماريّا.. هذه الفرقة من الفرق الجوّالة، اللي بتقول ع حالها إنها بتشتغل بالساحات.. بتشتغل للناس رأسًا، وين ما كان، وبتنتقل من مطرح لمطرح.. بيصادف حظ الفرقة السيء إنها بتنصب مسرحها المتنقّل في منطقة بتقوم فيها انتخابات، وفيها زعيم قبضاي قوي جدًا، وجد إن هالفرقة بتعمل مهرجان بتخربطلو مهرجانه الانتخابي.. ومن هون بينشأ الصراع الروائي بين الفرقة وبين الزعيم أو المتزعِّم.. الأخوان رحباني وهما بيكتبوا المسرحية وجدوا إن الشخصيات أقوى منهم كمؤلفين، بتاخد الرواية وتركض تجري، فوجدوا في الآخر إن الاسم اللي ينطبق عليها هو اسم الشخصيات اللي خُلِقَت بالقلم على الورق.. أي الشخصيات المسرحية اللي الكاتب بيخلقهم على ورق وبيتجسدوا.. ناس من ورق“.
ارتبط كامل التلمساني في الذاكرة المصرية بأنه أحد أهم أوائل مخرجي الاتجاه الواقعي في السينما المصرية.. وأهم وأشهر أفلامه فيلم “السوق السوداء” الذي أُنتج عام 1945، ليكون ثاني فيلم – بعد فيلم “العزيمة” 1939- يصور الحياة الواقعية للحارة المصرية.. وفي حين نجح فيلم العزيمة لمخرجه كمال سليم وصار أحد أهم علامات السينما المصرية، فشل فيلم السوق السوداء جماهيريًّا فشلًا ذريعًا وقت عرضه، لشدة كآبته وسوداويته.. ومع ذلك يظل فيلما العزيمة والسوق السوداء ضمن قائمة أفضل مئة فيلم مصري، الأول في المركز الأول والثاني في المركز الرابع والثلاثين..
غادر كامل التلمساني مصر بعد عدد قليل من التجارب السينمائية، وعاش فترة في إسبانيا يعمل رسامًا، وله لوحات معروفة باتجاهها السوريالي محفوظة في متحف الفن الحديث بالقاهرة، ثم انتقل إلى لندن حيث عمل في الإذاعة البريطانية، فكتب لها مئات الساعات من التمثيليات الإذاعية، والتي كانت المورد الأساسي لرزقه.. ثم استقر أخيرًا في بيروت أوائل الستينيات، وهناك أعجب المنتج اللبناني طنّوس فرنجية وبقدراته الفذَّة وعقليته المتطورة وثقافته المدهشة، فقدمه للأخوين رحباني، ومن يومها رافقهم التلمساني مستشارًا لأعمالهم الفنية.. وبمساعدته كمستشار فني لأمور السيناريو قدم الأخوان رحباني أول مسلسلاتهم على شاشة التليفزيون “قسمة ونصيب” في 1965 ثم “من يوم ليوم” في 1971.. وأفلامهم السينمائية “بياع الخواتم” 1965 ثم “سفر برلك” 1967 و“بنت الحارس” 1968..

عاصي الرحباني وكمال التلمساني

من مذكرات منصور الرحباني
يقول المخرج صبري الشريف عن كامل التلمساني:
“هو أحد ركائز الحركة الفنية التي تبهر عالمنا العربي بفن الرحبانية وصوت فيروز.. كان يحدد مطالبه في أقل القليل، ثم يعمل من أجل الحصول على هذا القليل في صمت ودون جلبة، وبغير أيّة تطلعات“.
عاش الرجل غريبًا ومات غريبًا، ودُفِن في مقبرة الشهداء في بيروت.. وأمام الجنازة وقف عاصي الرحباني ومنصور الرحباني وصبري الشريف يتقبلون العزاء ومعهم المستشار الثقافي للسفارة المصرية عبد الحميد سعد الله.. بينما الشاعر اللبناني جورج جرداق يبكي ويقول إنها المرة الأولى التي يشعر فيها بأهمية أغنية فيروز لسيد درويش “زوروني كل سنة مرة“..
***
في صيف1972 قدّم الأخوان رحباني مع فيروز مسرحية “ناطورة المفاتيح” في مهرجانات بعلبك.. ثم طاروا بالمسرحية لعرضها في الدورة التاسعة عشرة لمعرض دمشق الدولي..
بعد فقد كامل التلمساني، وفي2 مايو 1972، وقبل إصابة عاصي الكبرى التي لم تكن على البال، يكتب رجاء النقاش وينقل الأسئلة الوجودية التي امتلأ بها عقل عاصي الذي لا يهدأ:
“كان موت التلمساني نقطة البداية في أحزان عاصي الرحباني ، وقد أخذ عاصي يعبر عن أحزانه في حديثه معنا وكأنه يكتب قصيدة، أو يعزف قطعة موسيقية.. كان يقول: ما قيمة الحياة إذا كان الموت يقف لنا بالمرصاد، ليأخذ منا ضحكاتنا ويملأ عيوننا بالدموع؟ ما قيمة النجاح الفني في حياة بلا معنى؟ حياة مصيرها العدم والدمار.. ثم ماذا بعد النجاح الفني؟ لقد كتبت ولحَّنت وأحببت وعشت واشتركت في تقديم الأغاني والمسرحيات الناجحة، وحققت كل ما أريد، أو أكثر ما أريد.. ولكن، ماذا بعد هذا كله؟ هل يمكن أن أكتب أفضل مما كتبت؟ هل يمكن أن أنجح أكثر مما نجحت؟ إن الأشياء تفقد معناها الآن بالنسبة لي، والأحزان تحاصرني، والماضي يبدو عائقًا في طريق المستقبل، حيث يلوح الماضي أمامي وكأنني لن أستطيع أن أتجاوزه أو أكرره، أو أقدم أفضل مما قدمت فيه.. والأحزان تتراكم وتتراكم، ليبدو الإنسان في عيني وكأنه داخل مصيدة، لا يمكن الخلاص منها أو الفرار..”.
قبيل انتهاء الفصل الأول من ناطورة المفاتيح، وفي محاورة “أربعة وقفوا معك” بين فيروز ونصري شمس الدين، ترفض زاد الخير “فيروز” الرحيل وتقرر البقاء من أجل أرواح من راحوا.. ومن أجل روح “ديك المي” إحدى شخصيات المسرحية، وقد مات من التعذيب.. ينتفض صوت فيروز وتقول مع الحوار المنغم:
“كِرْمَالهُن.. كِرْمَال ديك الميّي.. هالراح مرّة وما رجع.. هاللي تعذب وانوجع.. تـ هَجّ بالحيطان، وفَلّ من حاله، وبعدو كل يوم بينوجع“.

فيروز و عاصي الرحباني
وكأن الكلام يصف عذابات عاصي التي التهمته بالكامل.. عروض “ناطورة المفاتيح” التي بدأت في 31 أغسطس على خشبة معرض دمشق وكان مقررًا لها عشر ليالي، تم تمديدها لستة عشرة ليلة، لتنتهي في 15 سبتمبر.. وفي 26 سبتمبر 1972 انفجر دماغ عاصي الرحباني في بيروت..