نشرت هذه الترجمة (وهي الأولى) لقصة ألبير قصيري “قتل الحلَّاق امرأته“ في العدد الأول من مجلة “التطور“ في يناير 1940، وترجمها عن الفرنسية علي كامل.
تنتمي قصة “قتل الحلَّاق امرأته“ إلى المدرسة الواقعية من أعمال قصيري، الذي يجسد في كل أعماله الكسل فلسفة تمردية لكل الطبقات الهامشية التي يزدريها المجتمع؛ من المتسولين وصغار اللصوص والمحتالين والفنانين المنعزلين ومدمني المخدرات والجنس والعاهرات قسريًّا. وجوهر شخصياته لا يحمل الإيمان الصوفي بانتصار الثورة، بل يحمل تشاؤمًا راديكاليًّا ذا قوة تحريضية ضد الطغاة والأثرياء؛ حتى إن الإفراط في تصوير انخراط شخصياته في العبودية هو وسيلة للسخرية من الأقوياء. فهم محبطون ويائسون مثله، يتمردون عبر الكسل مثله؛ كما أنهم لا ينتحبون لمصيرهم، بل يضحكون ضحكة المأساوية تسخر من جميع السلطات والإكراهات، إنه اليأس الغاضب بابتسامة مارقة والاستهتار الذاتي الذي يمثل المرحلة العليا من السخرية والصراخ المكتوم.
الكسل عند ألبير قصيري هروب من كارثية العالم. وهو يبرر كتابته “أكتب كي لا يذهب الناس الذين يقرأون لي إلى العمل في اليوم التالي“.
والمنسيون من الأرض والسماء في عالم قصيري قابعون في أحيائهم المعزولة عن باقي الشعب، وعن الحكومة، ولا يفكروا أبدًا في مغادرتها أو الاندماج في عوالم خارجها، يمرون دائمًا بجانب أضواء المدينة، وكأنهم أشباح
عابرة، وسرعان ما يعودون إلى عوالمهم المتسخة بالبؤس؛ فالحلم عند شخصيات قصيري وسيلة لجلب المخاطر. إن واقعية ألبير قصيري فريدة واستثنائية؛ فلم يقترب أحد بهذا الحس الساخر المأساوي من حضيض القاهرة مثله، وهو يختار أسماء شخصياته بشكل غرائبي؛ وكمتلقٍ ستندهش من اختياره لأسماء غير متوائمة مع السياق المكاني والزماني، في دلالة ساخرة فتشعر أنها أسماء بلا جنسية، لا تنتمي لموطن..
حتى حين قدمته مجلة التطور التي كانت تصدرها جماعة الفن والحرية السوريالية، لم تقدمه كاتبًا سورياليًّا أو عبثيًّا أو فوق واقعي، بل قدمته كاتبًا واقعيًّا مصريًّا، يكتب بالفرنسية ويعبر في كتاباته عن روح الشعب والطبقات الفقيرة، وذكرت المجلة إنها نشرت ترجمة قصصه الثلاث مثالاً على الاتجاه الحديث في القصة المصرية. وقد نُشرت هذه القصة “قتل الحلَّاق امرأته“ في
مجموعته القصصية الأولى والأخيرة بالفرنسية بعنوان “بشر نسيهم الله“ عام 1941، وهي مجموعة من القصص المجمعة كان هنري ميللر قد شجعه على نشرها بعد لقائهما في أمريكا، وكتبها قصيري متفرقة في مجلات تصدر بالفرنسية، كمجلة الأسبوع المصري التي كانت تصدر في القاهرة.. وقد نشرت التطور قصتين أخريين لألبير قصيري من المجموعة نفسها هما “مدرسة الشحاذين، ورجل البريد رجل مثقف“.. ومؤخراً نشرت دار الهلال ترجمة جديدة لمجموعة“بشر نسيهم الله“(2015) بترجمة :لطفي السيد، وليس من الصعب ملاحظة إختلاف واضح في العناوين والكلمات والألفاظ بين الترجمة الأخيرة و الترجمات التي نشرتها التطور و ننشر منها اليوم هذه القصة.
..
- الأقواس من اختيار وتقديم : محسن البلاسي
قوس واحد فقط: قتل الحلَّاق امرأته
كان ذلك في (الحارة المظلمة). في ذلك المساء ترك شختور الحداد عمله الذي كان يقوم به في حانوته وهو إصلاح إبريق للتواليت، تركه لحظة كيما يختلي إلى نفسه ويفكر بهدوء في حياته التعسة التي لا تنتهي، لكنه لم يذهب بعيدًا في أفكاره الحزينة، ذلك أن حياته كلها كانت هناك بجانبه، وكان في استطاعته أن يلمسها بيديه، كانت حياته على أعظم جانب من القذارة؛ لا يرطبها بصيص من الحلم، كان متضايقًا منها إلى حد أنه ابتدأ يفكر في شيء آخر.
حاول في البداية أن يدرك ما فعله سعدي الحلَّاق المتجول كي يَسُمَّ امرأته، في ذلك الوقت كانت المسألة هي أكبر ما يشغل سكان الحارة، لكنه كان يجهل تفاصيل هذه الجريمة الغامضة، وكان مضطرًا إلى أن يترك التفكير فيها. كانت هذه المسألة غامضة إلى حد أنه كان من الخير ألا يشترك فيها ولو بفكره. ألم يكن الناس يتحدثون أن البوليس قد ألقى القبض على عدد من زبائن سعدي البائس ليسألهم ويحدد مسؤوليتهم المعنوية حسب درجة الصلة التي كانت تربطهم بالحلَّاق، وأن كلام حاروسي بائع الطعام قد اعتبر ممتلئًا بالتحريضات؟ ذلك أنه ذات يوم قال ذلك البائع المسكين إلى الحلَّاق المتجول
(سعدي يا ولدي إن الرجل الذي يستطيع أن يتخلص من أمرأته سيدخل الجنة ولا شك)،
ولقد فسر الحلَّاق هذا الكلام واسع الحكمة تفسيرًا خاطئًا، وعلى كل حال فلم تكن أي جنة ترغب فيه في تلك اللحظة، لذلك رأى البوليس نفسه مضطرًا إلى أن يحجزه في سجن ما، تمامًا كما يحجز قاتلًا بشعًا.
كان شختور يقول لنفسه (أيها المسكين سعدي لقد كنت تحلق لي ذقني جيدًا مقابل قطعة من الخبز أعطيها لك. فما الذي سيحدث لنا لو ذهب كل أمثالك إلى السجن؟).
لم يكن شختور قد سجن مرة واحدة في حياته. ولذا فكر في نظام السجن. في الآلام التي يعانيها المسجونون وخصوصًا في عزلتهم الجسدية. ولكن في هذه المسألة أيضًا لم يكن يعرف أي شيء فتوقف عند استنتاجاته الخيالية لينظر إلى الحارة.
في وجه الحانوت كان يوجد مصباح النور رقم 329 الذي كان ينشر ضوءه الرسمي في كل أرجاء الحارة. وكان يقف أحيانا عابر سبيل ذو وجه حزين في منطقة النور كيما يتحقق من حالته قبل أن يدخل بيته، أو ليفحص للمرة العاشرة على الأقل قطعة من النقود المزيفة التي أعطاها له ساروخ القهوجي، وكانت تجول في الحارة أيضًا كلاب جائعة هزيلة الجسم يغطيها الجرب. كذلك كانت هناك امرأة تسبُّ أطفالها بصوت مرتفع رفيع يسمعه كل سكان الحارة، وكي يعرف الناس سيئوا الظن أنها منشغلة بتربية أولادها، وأخيرًا كانت القاذورات متراكمة في كل مكان دون استثناء.
يا لتعاسة الفقير الذي لديه وقت فراغ.
كان شختور قد بدأ يشتغل عندما رأى أبنه. وكان هذا الأخير واقفًا بباب الحانوت حاملًا تحت ذراعه حزمة البرسيم التي اشتراها من السوق، كان ينظر إلى والده نظرة لوم بعينيه الحزينتين وكأنه يريد أن يذكِّره بشيء خطير غائب عن فكره.
–ما الذي تحمله في يدك يا ولدي؟
– إنه من أجل الخروف يا والدي.
– أي خروف؟
كيف لم يفهم الرجل إذن ما يريد الطفل قوله؟ كان الطفل على وشك البكاء، لكنه حبس دموعه وشرح كل شيء لذلك الوالد الذي شوهت التعاسة ذهنه. لذلك العبد لقدرية خشنة قاسية.
–خروف العيد يا والدي، لقد أحضرت أنا البرسيم ولم يبق عليك إلا شراء الخروف.
كان الطفل قذرًا ولكنه كان جميلًا… كان عاريًا تحت ردائه الملون بلون الأرض، كان يحمل حزنه في كل جوانب جسمه. نظر شختور إلى ابنه بدهشة وشفقة، ولم يلفظ بكلمة واحدة، لم يكن في ذهنه المعذب مكان ما لهمٍّ جديد. كان يحس بنفسه محطمًا مهزومًا أمام ولده؛ لأنه فهم في تلك اللحظة أن في هذا الطفل –لحمه ودمه– يتركز بؤس واع وحقيقي لم يكن لاحظه إلى ذلك الوقت؛ بؤس سيبقى منذ تلك اللحظة مرتبطًا به أشد ارتباط، ولكن لكم من الزمن؟
سيكبر الطفل وسيكبر معه بؤسه حتى يأتي اليوم الذي يكون فيه عاجزًا عن احتمال الآلام. ذلك أن رجلًا بمفرده يستطيع أن يتحمل التعاسة –فيكون قد كوَّن ابنا يشاركه عبء الحياة، إن عزاء الفقير الوحيد هو أنه يترك بعده طفلًا مبذرًا فالفقر الذي يتركه لذريته لا ينضب.
قال الرجل: إن العيد ليس لنا يا ولدي، فنحن فقراء، فبكى الطفل، بكى بحرارة وقال
–وما الذي يهمني.. أنا أريد خروفًا.
فكرر شختور: إننا فقراء.
قال الطفل: ولم نحن فقراء؟
وفكر الرجل قبل أن يجيب، فهو نفسه بعد سنين طويلة من الفقر المدقع العنيد لم يكن يعرف لمَ كانوا فقراء، كانت مسألة بعيدة إلى حد أن شختور لم يستطع أن يتذكر كيف بدأ ذلك، كان يقول لنفسه إن تعاسته لم يكن لها تاريخ بداية. كانت تعاسة تمتد إلى ما فوق طاقة الرجال ودون الاهتمام برضاهم أو عدمه، لقد احتضنته قبل ولادته ولذا لم يعجب من نشوئه في هذه التعاسة. بل لم يحاول أن يصد شيطانها عنه مادام قد حكم عليه بمعاناتها قبل أن يولد وهو ما يزال في بطن أمه، كان الطفل ينتظر دائمًا أن يوضح له أحد لم نشأوا فقراء. كان قد توقف عن البكاء ولكنه كان يحمل في نفسه دموعًا كثيرة، كل دموع الأطفال البائسين الذين غدرت الحياة بأحلامهم.
–اسمع يا ولدي، اذهب واجلس في ركن ودعني أشتغل، إذا كنا فقراء فذلك لأن الله نسينا.
–ولكن متى سيتذكرنا الله يا أبي؟
–عندما ينسى الله إنسانًا ينساه إلى الأبد يا ولدي.
–لكني سأحتفظ بالبرسيم على كل حال.
حمل الطفل حزمة البرسيم ووضعها في ركن من أركان الحانوت ثم جلس القرفصاء عليها، وشرع يبكي لأنه كان صغيرًا، وكان البكاء طريقته في الثورة على ظلم هذا العالم. لقد أدرك الطفل فجأة أنه وحيد في الحياة، أدرك ما كان غامضًا عليه من جوانبها التعسة، من التعاسة الإنسانية التي يرثى لها.
وابتدأ الرجل يشتغل، لقد آلمه منظر وجه الطفل الذي أرهقته الدموع، كان يتعذب بشكل مروع جديد لم يألفه. ولكن ما الذي يهم من ذلك؟ كان إدراكه لهذه الحقيقة الكبرى يزداد شيئًا فشيئًا. الطفل! من ذا الذي سيهتم بإنقاذ الطفل؟ كان الرجل يفكر في الموت دائمًا في أثناء عمله على اعتبار أنه الوسيلة الوحيدة الممكنة للخلاص، كان يتمناه لنفسه ولطفله ولزوجته ولكل سكان الحارة.
وفي تلك اللحظة مر الشاويش جحلوش؛ متغطرسًا متكبرًا كعادته دائمًا، فهو رمز السلطة التي يغمرها الله برعايته في هذا العالم. ووقف الشاويش أمام الحانوت وألقى نظرة ساخطة على الرجل وطفله، كان الشاويش جحلوش مستبدًا بطبيعته، كانت في نظرته وحشية مفترسة، كان يقف في مكانه مرتديًا معطفه الصوفي الأسود أشبه ما يكون بحيوان مفترس قوي، كان الجو باردًا والطفل قد توقف عن البكاء، كان خائفًا، كان يخيفه ذلك الشاويش الذي ظهر كليل آخر وسط الليل، كان الطفل يحس بالاختناق وفكر في أمه، كان يشعر بالحاجة إلى الدفء، وأغمض عينيه معتقدًا أنه يستطيع بذلك الإفلات من القدر الأسود الذي يهدده من الخارج. كانت حزمة البرسيم تتسطح بهدوء تحت جسمه الهزيل، وفجأة مرت بخياله صورة خروف جميل وبدين ليس له صاحب. خروف حر كهذه الكلاب والقطط التي تروح وتجئ في الحارة.
كان شختور يلتزم صمتًا خفيًّا، ويبدو كأنه يجهل وجود رجل البوليس، كان يشغل نفسه ثانية بقصة الحلَّاق الذي قتل أمرأته. (لمَ قتل سعدي امرأته؟) كانت هذه المسألة تشغله بشكل قاسٍ كما لو كانت أساس كل آلامه، لقد علمته جريمة الحلَّاق إلى أي مدى تستطيع أن تصل يد الإنسان. إن ما يستطيع أن يفعله الإنسان خارق عجيب؛ ها هو ذا الرجل يقتل امرأته لكن لمَ؟ لا بد أن سعدي يعرف السبب، سأذهب يومًا لزيارته في السجن وسيشرح لي الأمر، في تلك اللحظة لم يكن الرجل يفكر في شيء آخر، كان ينتظر، وكان الشاويش جحلوش ينتظر، ولكن أحدًا لم يكن يعرف سبب ذلك. وفي ركن الحانوت كان الطفل الجالس على حزمة البرسيم يبدو كما لو كان ميتًا. ومر فأر بسرعة بجانب الحائط، كان رجل البوليس يريد التكلم ولكنه شعر فجأة بضعف، كما لو كان قد شم رائحة كريهة، كان هذا الضعف بسبب ذلك الحزن الذي كان يسود الحانوت والذي كان فوق طاقة البشر، وفي أثناء كل ذلك كان المصباح رقم 329 ينشر ضوءه دون التفكير فيما يتكلف ذلك من نفقات.
وتمالك الشاويش جحلوش نفسه سريعًا. ذلك أنه لم يكن رجلًا رقيق الحس، لقد نسب ضعفه إلى ما عاناه من تعب في اليوم السابق. إذ في مساء ذلك اليوم قاوم جماعة من كناسي الشوارع كان كل ما يطلبوه ألا يموتوا جوعًا، وقد كان موقفه في هذه المسألة داعيًا لانهيال كل مظاهر الإعجاب عليه من السلطات العليا، ألم يُسقط بمفرده وبضربات عصاه عددًا يذكر من أولئك الكناسين الملعونين؟ لم يكن له أن يرجو أكثر من ذلك. كان الجندي يسير في طريق الترقية. فلم إذا كان يضايقه منظر ذلك الحانوت إلى هذا الحد؟ لم يكن يعرف سر ذلك. ولهذا تملكته الشراسة والخبث، كان نظره يدور في كل مكان وفي أثناء ذلك وقع على حزمة البرسيم، وعندئذ ابتسم ابتسامة كأنها صدى لبصقة احتقار واستهزاء.
قال:
–إذن قد اشتريت يا شختور حزمة البرسيم لتجذب الخروف، هل تظن إذن أن هذا الخروف سينجذب كالفأر بهذه الطريقة؟ أقسم لك أنك أصبحت سخيفًا.
أزعج الرجل بصوته الصراصير التي كانت في الحانوت، ولم يكن الحانوت مضاءً إلا بمصباح النور الذي كان مواجهًا له، وكان رجل البوليس واقفًا أمام باب الحانوت، لذا كان يصد هذا الضوء الوحيد الذي كان يتحطم فوق ظهره. كان شختور صامتًا لا يتكلم، لم يكن يريد أن يدخل في حديث مع رجل البوليس المخيف الذي يعرف خبثه، كل ما هنالك أن هذا الظلام الاضطراري كان يمنعه عن العمل، كان يريد أن يصلح بأسرع وقت ممكن إبريق التواليت ليعود إلى المنزل، كان البرد شديدًا في الحانوت، وخصوصًا بالنسبة للطفل الذي كان عاريًا إلا من جلبابه. كان كل ذلك يبدو لشختور أمرا مرعبًا لا يمكن التغلب عليه، لم يكن لديه أي شجاعة لعمل شيء ما، كان يحس بنفسه في ذلك المساء مسحوقًا تحت عبء حياته كلها، كانت قصة البرسيم والخروف هي الحد الأخير لما كان يستطيع احتماله، كان الرجل يفكر على الأخص في الطفل، كان يرى أن العيد لا معنى له، يتكلم الناس عن العيد لكن الواقع أنه ليس هناك عيد ما. لمَ سمَّ سعدي امرأته؟ هذا هو الأمر الذي يجب أن يفكر فيه الناس. لن يكون هناك عيد طالما لا يستطيع المرء أن يعرف لمَ سمَّ سعدي امرأته، ابتدأ يفكر من جديد في جريمة الحلَّاق المتجول. كان الرجل وهو في قمة تعاسته يريد إدراك سر هذه المسألة.
قال رجل البوليس:
– أيها الخنزير ألا تريد أن تجيبني؟
وأحس الحداد بضرورة أن يكون على وفاق مع هذا الشيطان المستبد، إذ كان لديه ما يكفي من مضايقات، فنظر إلى رجل البوليس لحظة نظرة المتوسل، ثم قال بلهجة تفيض بالاحترام
– نحن خُدامك يا شاويش جحلوش، اسمح لي أن أقول إن وجودك الكريم قد شرَّف هذا الحانوت المتواضع.
وشلَّت هذه المجاملة الملقاة بصوت يرثى له الجو الساخط. كان الشاويش جحلوش يمثل أشد أنواع الخبث، ذلك الخبث الذي هو سلاح الأقوياء على الأرض. ذلك الخبث المأجور. نعم لم يكن ذلك الخبث يمت إليه. لقد باعه لأناس أقوى منه استخدموه لاستعباد شعب كامل تعيس. كان عليه أن يوجِّه هذا الخبث وفقًا لعدد من اللوائح لا تختلف من حيث ظلمها عن بعضها كثيرًا.
كان الشاويش جحلوش يسكن الحارة ولكنه كان يقوم بعمله الظالم وسط المدينة الأوروبية. كان ذلك بالنسبة له نوعًا من القتل، كان هذا يضايقه أعظم الضيق، ذلك أن خبث نفسه كان يصطدم بصعوبات جدية في وسط يتردد عليه عادة أوروبيون، لم يكن ذلك الخبث يجد مجالًا للانطلاق، ولهذا كان جحلوش يطلق العنان لحقده ضد كل ما مده العنصر الوطني من عبيد. ضد البائعين والشحاذين وجامعي أعقاب السجائر، ضد المرضى والعميان وكل ذلك القطيع من الصعاليك الذين لم يستطيعوا أن يموتوا لأن الظلمة قد آلوا على أنفسهم أن يقتلوهم تدريجيًّا، كانت هذه الحشرات العديدة قد أتت إلى هناك لتعطي للمدينة الأوروبية طابعها الشرقي الغريب، لتمد عيون السائحين بغذاء طيب، بيد أن الشاويش جحلوش لم يكن هو نفسه سائحًا، ولم يكن يفهم شيئًا في مسألة الدعاية لوطنه.
كان الوقت عند منتصف الليل، كانت المدينة الأوروبية تبدو فريسة ملل حزين لا ينتهي وهو وليد الشك وتفاهة الذات. ذلك رغم عماراتها الحديثة ذات الأدوار الثمانية (ذات المصعد والماء الجاري)، ورغم مقاهيها واسعة الإضاءة وبائعات الحب اللواتي يرحن ويجئن على الأرصفة، كان المرء يحس أن المدينة تريد أن تفعل كل شيء من أجل أن تحيا، لكن نوعًا من الهم الباطني الذي لا يشفق كان يشل حركتها بأضوائها القوية المصطنعة. ونسائها الغبيات ونعيمها الإجرامي. كان يسيطر عليها الخمول التام الذي يغشى وحشًا أشبع جوعه. كانت تلتهم كل شيء. كانت تمتد بجنون لا ينقطع، كان المرء يحس بها قادمة من بعيد، كانت تمتد إلى الصحراء، تمتد إلى أشجار النخيل والجزر الواقعة في الشاطئ الآخر من النهر، كان من المحال إيقافها في طغيانها، كانت أشبه بشجرة كبيرة تتفتق عن عمارات وفيلات فاخرة. ما أعجبها كانت تتفرع في كل اتجاه، توحي لأول نظرة بالدور الذي لعبه المال في حياتها وبأنانيتها، كان الطابع القومي يهرب من أمامها سريعًا وقد تملكه الملل. كانت المدينة تطارده دون رحمة، الطابع القومي الذي نزلت عليه اللعنة فولى الأدبار ليصب همه في أحضان الأحياء الفقيرة، ذلك أن هناك حيث التعاسة فظيعة جدًا كانت المدينة توقف زحفها الانتصاري، كانت لا تحتكر إلا الأراضي الطيبة، كان يمت إليها كل ما يجعل الحياة مريحة وهادئة. كان يمت إليها كل شيء. الهواء النقي والماء الصالح للشرب والضوء الكهربائي، لم تحتقر إلا بضع خرائب، وفي هذه الخرائب تنهار حياة شعب كامل.
ولقد أصبحت المدينة مرعبة على الأخص على امتداد شارعي فؤاد الأول وعماد الدين فالواقع أن هذين الشارعين الرئيسيين يتمتعان بكل ما تمتلكه مدينة متمدنة لإرهاق الناس ومضايقتهم، كانت هناك أماكن للتسلية لا طعم لها، وحانات يكلف المشروب فيها كثيرًا، وكاباريهات ذوات راقصات تافهات، وحوانيت وأماكن لبيع المصوغات وإعلانات كهربائية أيضًا. كان لا ينقص شيء من مظاهر الأعياد السعيدة، كان كل شيء يدفع إلى الضيق والملل، بيد أن المدينة كانت تزدحم بجمع من الناس لا يربطه شيء بهذا الاضطراب وبهذه الأنوار، كانوا يمرون بجانب كل هذه الأنوار كظلال خائفة، كانوا ينظرون إلى كل هذه الأشياء الجميلة بعيون وحوش لا تفهم شيئًا، كانوا يحملون معهم أحيائهم الموحلة وبؤسهم القذر، كانوا أشبه ما يكونوا بالجروح، كانوا يطاردون لكنهم كانوا يصرون على البقاء، كان يجذبهم إلى هذا المكان السحري سبب بسيط ودائم، كان هذا الجوع هو الذي يفهمونه حق الفهم.
كانوا لا عدد لهم حول المطاعم وكل الأماكن التي يمكن أن يأكل فيها المرء، كان تناول الطعام بالنسبة لهم هو كل شيء، كانوا لا يرغبون في شيء آخر، منذ أجيال لم يكن لهم لذات أخرى، كانوا أجسامًا بغيضة لا حياة فيها، كانت المدنية تتعذب بوجودهم، كانوا أشبه بوخزات ضمير متأصلة في أعماق الأرض، ورغم كل ذلك لم يكونوا يريدون الموت، كان استجداء قطعة من الخبز من الذين انتزعوا منهم كل شيء هو بالنسبة لهم فرصة للحياة، وكان يسمى هؤلاء بالشحاذين أو باللصوص على حسب إصرارهم على الحياة.
وفي تلك اللحظة حدث شيء في أعلى شارع فؤاد الأول بالقرب من حانوت لبيع أحذية السيدات، كان جماعة من كناسي الشوارع يستريحون في ذلك المكان منتظرين زملائهم الذين كان عليهم أن يحرضوهم، كانوا ملتصقين بعضهم ببعض، ولم يكن ذلك كي يستدفئوا بقدر رغبتهم في تقليل مضايقتهم للآخرين وجرح الناس بوجودهم. كان أولئك الكناسون يمثلون أتعس الناس على الأرض، وكان من عادتهم ألا يناموا كثيرًا، ولكن في ذلك المساء كان المرء يحس أنهم يعبرون مرحلة من حياتهم غير معتادة ومؤلمة، كانت عبارة واحدة تهزهم وتدفعهم إلى الكلام بقوة غريبة، كانوا يشبهون الرجال حقًّا، ومع ذلك كان يبدو عليهم أن ما يبدوا منهم لم يكن إلا البداية، كان الأمل كبيرًا في أن يصبحوا رجالًا بمعنى الكلمة، ولقد كانت هذه الرجولة الجديدة فيهم تجعلهم للمرة الأولى يفكرون في حياة جديدة لهم، لم يكونوا يعرفون إلى أين يمكن أن تقودهم هذه الإرادة، كان الطريق الذي عليهم أن يعبروه طويلًا، وكانوا يرتعشون وهم على عتبة هذا الطريق ذلك أن حياتهم الطويلة التي لا يتحركون فيها جعلت سيقانهم رخوة وعيونهم تغشاها الظلمات.
كانوا جالسين هناك ملتصقين بالرصيف كبقايا أهل أمة اكتسحتها المجاعة، كانوا يرتدون ملابس جديدة ولكنها ليست ملابس ذلك الفصل من العام، كانت ملابس من التيل الخفيف الذي صرحت لهم بها المصلحة المعهود إليها بصرف الملابس في أشد أيام شهر ديسمبر، كان بعضهم حافي القدمين يتغلغل البرد إليهم بسهولة، وكانوا يسعلون بالتناوب كل بدوره وأحيانًا كان يشعل أحدهم قطعة من الورق ولكن سرعان ما كانت تنطفئ بعد أن تطلق حولها حرارة تتبدد في الحال، وحول هذا الضوء الضعيف كانت تبدو وجوه أولئك الرجال بمظهرها الحقيقي، كانت لهم وجوه تندلع منها إنسانية مرعبة، كان منظرهم وهم متجمعين هكذا وسط الشارع النظيف المتمدن يحث المرء على الصراخ طالبًا النجدة، بيد أن الإهمال التام الذي كان يحوطهم كان يحطمهم تمامًا، كانوا وحيدين ضد السلطة التي لا تقهر والتي كانت تجعل منهم عبيدًا، لقد أنزلتهم تلك السلطة إلى منزلتهم الحالية بانتزاعهم من دائرة المخلوقات الأدمية، لم يكونوا ينتظرون مساعدة أحد لم يكونوا ينصتون لأي صوت أجنبي لم يكونوا ينصتون إلا لهمس ثورتهم التي لم تكن مع ذلك مؤكدة تمامًا.
كانوا يبدون وكأنهم يتآمرون ضد بعضهم، كان اجتماعهم تغشاه الحيطة والعناء، كانوا يهرشون أجسامهم بحركات مستهجنة، ويبصقون بالقرب منهم بهدوء كأنهم يبصقون أشياء ثمينة، كان الشارع الجميل فؤاد الأول يبدو في هذا المكان مجروحًا في سمعته، كان هذا لجمع من الكناسين يمثل ولا شك منظرًا مرحًا، كان منظرا مثيرًا مغضبًا، كان الشارع يفضل التخلص من هذه القاذورات بأية وسيلة ما، كانت تبدو عليه كل مظاهر الامتعاض، كانت قطارات العسكري تملأ الجو بالضجيج، وقام شجار في أحد المقاهي الواقعة في الجانب الآخر من الشارع، أما بائعة الحب التي كانت تحمل نفسها للمرة السادسة في تلك الليلة قد سقط القلم الأحمر التي تصبغ به شفتيها في مجرى المياه المجاور للرصيف، وكان التلاميذ الصغار في مدرسة الشحاذين ينغصون حياة السائرين على أقدامهم، وكانت سيارات الأوتوبيس تجري بسرعة مدمرة حاملة مخلوقات وأحلام فاسدة، كانت تبدو في الجو حاجة قصوى إلى الهدوء والاسترخاء، كان يجب أن يموت أولئك الرجال. كانت المدينة تطلب موتهم كيفما تستطيع أن تتمتع في سلام بهدوئها المخجل. كان الكناسون لا يحسون بالتغيير الذي يفرضه وجودهم في الشارع، كان لديهم فقط الأمر بكنسه، وكانوا لا يعرفون إلا أنهم خُدَّامه؛ الأمر الذي كان يبدو لهم خطرًا، لم يفكروا يومًا من الأيام في ما يصبح عليه ذلك الشارع دونهم، يوم تغمره القاذورات والتراب، لم يكونوا يعرفون قيمتهم وفضلهم ولا إلى أي حد يدين لهم الشارع بجماله وسموه على غيره من الشوارع، ولكنهم في ذلك المساء كانوا عازمين على فعل كل شيء، كان قرارهم ألا يموتوا من الجوع، لأول مرة في حياتهم تجرأ أولئك الكناسون واعتقدوا أنهم يقومون بعمل فيه مطالبة بحق، كانوا عازمين على المطالبة بحياة أحسن من تلك التي يحيونها، كانت الثلاثة قروش التي تدفع لكل واحد منهم لا تكفيه ليعيش بل ليموت لذا طالبوا بنصف قرش زيادة.
كانوا يعتقدون أنهم بثلاثة قروش ونصف يستطيعون أن يعيشوا خيرًا مما هم عليه، تلك كانت فكرتهم بل كان مثلهم الأعلى وكانوا ينتظرون تحقيق ذلك المثل الأعلى بغير ثقة كبيرة لكن بعزم قاس يلمع في عيونهم ولقد كان وصول المفتش بدراجته هو الذي سيضع حدًّا لقلقهم. كان على ذلك المفتش أن يحمل إليهم الجواب على مطالبهم بعد أن عهدوا إليه بتبليغها لذوي الأمر، ولكن الكناسيين كانوا لا يثقون به لأنه كان يمت بوظيفته كمفتش إلى عالم آخر. هو عالم المستبدين لهذا قرروا في حالة حصولهم على جواب سلبي أن يتركوا لهم الملابس والمكانس والشارع بأكمله. وانتصب أحدهم واقفًا وهو طويل القامة مفتول العضل يبدو ملبسه الغريب كأنه تحد لأناقة سكان المدينة، وقال: سيكنسه بمفرده ذلك الوغد.
لم يجد ذلك الكناس لإظهار احتجاجه على خفة ملابسه طريقة خيرًا من الالتحاف بملاية زوجته، وكان قد حصل على نجاح كبير لدى زملاؤه الذين كانوا يصغون إليه إصغائهم لرئيس. والواقع أن هذه الحالة المعنوية للكناسين يعود الفضل فيها بكثير إلى عزم ذلك الرجل الأكيد. كان رجل عمل يحتقر كل نوع من السلطة كما ان البؤس المروع علمه أن ينال حقه بنفسه، كان كل شيء فيه يطالب بحياة أكثر استقرارًا وكان المرء يحس فيه وعيًا أكثر وضوحًا بمستقبله وبمصير رفاقه، كان الوحيد الذي يتحرك بسهولة في المأزق الضيق القاسي لهذا المستقبل، لقد وضع أولئك الرجال المذهولون أمام شخصيته كل أملهم فيه. لأنه كان يبدو كمن يحمل في يديه القويتين القوة التي كان يجب أن تبيد الظالمين.
قال الرجل: ها هو قادم.
وخلع الملاية ولفَّها حول خصره كحزام عريض، كان يريد أن يكون حرًّا في حركاته لأنه كان يحس باقتراب المعركة. كان المفتش ذو الدراجة قد وصل على رأس الفريق الآخر من الكناسين فوقفوا أمام حانوت الأحذية، وعندئذ طلب الرجل ذو الملاية من رفاقه أن يقفوا ليذهبوا لملاقاة المفتش، وبدأ هذا الأخير يصدر أوامره وهو ممسك بيد دراجته وبيده الأخرى عصاة صغيرة غليظة ولكنه أدرك في الحال أن الكناسين لم يعودوا يطيعون أوامره وأنهم كانوا ينتظرون منه شيئًا آخر. ووقف المفتش لا يتحرك برهة فاقترب منه الرجل ذو الملاية. مرتفع القامة أسمر الجسم كموجة بحر غاضب، كان مستعدًا في تلك اللحظة أن يرتكب كل شيء.
قال: ماذا فعلت من أجلنا؟
ولم يجب المفتش، بل أسند ظهره إلى دراجته. وتمهل ليعد جوابًا مختصرًا وحازمًا، لم يكن ينسى أنه يمثل سلطة، وأن قوة لا نظير لها تحميه من كل خطر. وصرخ المفتش في وجوههم قائلًا:
الآن انصتوا جميعًا، ردًّا على طلبكم كلفتني المصلحة أن أذكر لكم أن موقفكم الممتلئ بإنكار الجميل يستحق أشد العقوبات، لأنه منذ شهر فقط أرهقت المصلحة نفسها لترضي رغباتكم في التأنق وذلك بإعطائها إياكم ملابس جديدة، واليوم تجرؤون بطلب رفع أجوركم.
ما حدث بعد هذه الخطبة كان رهيبًا ومرعبًا؛ فأولًا رفع الرجل ذو الملاية المفتش وقذف به نحو وجهة حانوت الأحذية، أما الكناسون فقد وقفوا جامدين في أماكنهم والمكانس في أياديهم تغمرهم الدهشة أمام العمل السريع، أتاه رئيسهم ولم يكن لديهم الوقت للإفاقة من دهشتهم إذ بدا في ذلك الوقت شبح رجل بوليس، هو جحلوش، وفي الحال وصل رجال البوليس قادمين من كل جهة، فاستمرت المعركة ما يقرب من ربع ساعة اهتزت في أثنائها المدينة بالسخط، ولسوء الحظ كان قد جاء وقت خروج دور الملاهي، ما الذي أراد أن يعمله أولئك الكناسون بمطالبهم، كان عدد من المارين الممتلئ البطون المتدفئين في معاطفهم يتولاهم الاشمئزاز والنفور عند رؤيتهم، لقد فقدوا تفاؤلهم على الأقل لبضعة أيام، وأرسل في طلب عربة الإسعاف ليس من أجل الجرحى لكن من أجل سيدة وجيهة كان قد أغمى عليها عندما عرفت بأمر هياج الكناسين، ولقد انتهى كل ذلك لصالح رجل البوليس جحلوش الذي أبدى قسوة متناهية.
كانت الحارة المظلمة على أعظم جانب من الهدوء. كان البؤس يغمرها بشكل جدي وشامل. لم تكن تثور عند احتكاكها برفاهية هازئة مهينة. كان سكانها لا يعرفون الحسد ولا يغارون مطلقًا من بؤس جيرانهم، وكانوا يحاولون أن يحتفظوا بفقرهم ليبقى في المستوى العام، وبدا على الحداد ذات لحظة اهتمام بالشاويش جحلوش وسأله عن أخباره، عندئذ روى له جحلوش قصة الليلة السابقة، وكيف استطاع وحده أن يسقط عددًا من الكناسين لكنه بالغ في قص روايته إلى حد أن جعله غير معقول، ومع ذلك لم يكن هو نفسه يعرف لمَ ضرب الكناسون مفتشهم، ولا لماذا تصرفوا هذا التصرف غير عادي، هم ذو الخلق المتواضع المعتدل، وقال شختور:
– لمَ فعلوا ذلك؟
– لا أستطيع أن أقول لك، إنه سرّ، من الخير لك أن تشغل نفسك بأباريقك المثقوبة، السلام عليكم.
وصرخ شختور:
– يا شاويش جحلوش، أتوسل إليك أن تقول لي لم تصرف الكناسون هذا التصرف..
– بشرفي أنت قد أصبحت قليل العقل، ألم أقل لك من قبل؟ ماذا يهمك من أمر أولئك الكناسين.
وسار الشاويش تاركًا شختور يقع فريسة لأفكاره المرهقة.
كانت ثورة الكناسين قد انضمت إلى سلسلة مشكلاته، كان من اللازم إيجاد علاقة صلة بين حادثتين مختلفتين يحس هو أن لهما سببًا واحدًا، كان يعتقد أن جريمة سعدي وثورة الكناسين لا يمكن أن يكون لهما إلا سبب واحد.
كان الوقت قد أزف لإغلاق الحانوت، فوقف شختور وسار وهو يهتز قليلًا فوق ساقيه، لم يكن متقدمًا في الشيخوخة؛ كان منحني الظهر ليس بتأثير السن لكن بأعباء استحوذت عليه كليا وأخذت بخناقه كمرض لا يعالج ويحتاج لكثير من العناية، وجمع بضع بقايا من الحديد الأبيض وألقاها في ركن وشرع ينظم قليلًا حانوته. لم يكن متضايقًا من بؤسه، كان بؤسًا كبيرًا فياضًا، وكان يروح ويجئ فيه بحرية كسجن واسع، وكان حرًّا في أن يسير من حائط إلى آخر دون أن يطلب التصريح من إنسان، كان متضايقًا فقط من إحساسه بعظم هذا البؤس. كان بؤسًا غنيًّا، ولم يكن يعرف كيف ينفقه، ونظر إلى الطفل وريث هذه الثروة، كان الطفل ينام فوق حزمة البرسيم، ويبدو عليه أنه يفهم كل مصادر التركة الأبوية. وأيقظ الرجل الطفل الذي كان انكشاف جلبابه مظهرًا للحمه الشاب الذي كان يعضه البرد بلذة.
– هيا بنا يا ولدي قم سنخرج.
وعندما استيقظ الطفل نظر حواليه في الحانوت الضيق وبحث عن موضوع حلمه، كان يظن أنه سيجد خروفًا، فلم يجد إلا وحشة محزنة تغلغلت في قلبه.
قال: يا والدي سأحمل البرسيم معي.
خرج الاثنان إلى الحارة، كان الرجل يسير أمام ولده تدور في رأسه أفكار هائلة، وكان يدهش من إصرارها على عدم مفارقته. كان الطفل يتبع الرجل وهو نصف نائم وحزمة البرسيم تحت ذراعه، وفي تلك الساعة لم تكن الحارة مضاءة إلا ببضعة نجوم صغيرة، كانت تشرف على أسقف المنازل الحقيرة الملتصقة بالأرض القذرة الموحلة، سماء مظلمة مكفهرة، ومن بعيد كانت الحارة تنتهي بأرض موحشة يقوم وسطها كوخا القرداتي والساحر، ودخل شختور والطفل في حارة أخرى تنزل منحنية وتوصل إلى مقهى ساروخ.
ووقف الرجل ونظر داخل المقهى ولقد كانت دهشته عظيمة حين رأى حاروسي الذي كان يظنه في السجن جالسًا في حضرة شخصيات أخرى من الحي، كان بائع المأكولات صامتًا لا يتكلم وهو يدخن جوزته، ويبدو وكأنه يرأس حفل جناز ولم يكن من المستطاع أن يعرف المرء فيم كانوا يفكرون.
كان البوليس قد أخلى سبيل خاروسي، ولا شك أنه فعل ذلك بعد أن عرف أن سعدي لم يسم أمرأته ليذهب إلى الجنة كما نصحه بائع المأكولات، كان هناك إذن سبب آخر. لا بد أنه كان يوجد باعث لجريمة الحلَّاق أكثر عمقًا وربما كان باعثًا بسيطًا جدًا وكانت بساطته هذه سببًا في أن يغيب عن أذهان الجميع، كان شختور يريد أن يعرف هذا الباعث بأي ثمن، يتحرق قلبه التعس لمعرفته، كان يبدو له أن وقوفه على هذا الاكتشاف سيجعله مرتاحًا وسعيدًا، كان يعتقد أن أعوام تعاسته الطويلة ستتبدد بمجرد وصوله إلى هذا الاكتشاف، ونادى شختور حاروسي فخرج بائع المأكولات من المقهى يحمل وجه شيطان.
سأله شختور
– هل لديك وقت الآن؟
– نعم لماذا؟
– تعال وسِر معي قليلًا. أريد أن أتحدث معك.
قال حاروسي
– لكن لا تطلب مني نصائح، لم أعد أعرف أن أتكلم، لقد قطعوا لساني.
–ومن ذا الذي قطع لسانك؟
– لا أستطيع الإجابة على أسئلة. لقد رأيتني الآن جالسًا مع أولئك الرجال، وكنا لا نتكلم، سنتعلم من الآن أن نعيش دون أن نتكلم.
وأدرك شختور أن بائع الطعام لم يعد يريد أن يعرض نفسه للخطر، وأنه سوف لا يقول شيئًا إذا لم يحس أنه في حمى من أن يفشي أحد سره، ولذا أخذه من ذراعه وقاده نحو الأرض الموحشة.
كان الطفل يتبعهما في صمت، كان يسير مفكرًا وحزينًا ممسكًا بذراعه حزمة البرسيم، ومعتقدًا في كل خطوة أنه سيقابل خروف حلمه. بيد أنه لم يصادف إلا كلابًا متوحشة في كل مكان، كانوا كثيرين في هذا المكان يجذبهم تراكم القاذورات، ولقد استطاع القرداتي أن يؤلف عددًا منها ويدربه ليكون مجموعة من الممثلين المشهورين. في هذا المكان الموحش لم يكن الظلام بسبب الليل فقط، كان الليل يسود لكن كان إلى جانب شيء آخر، شيء أسود من الليل. هو نفوس الرجال الحزينة ووقف شختور وبائع المأكولات بمجرد أن شعرا بأن السماء طليقة فوق رأسيهما، وأن الفضاء واسع حولهما، كان المرء يرى وسط هذه الأرض الساحر واقفًا فوق سطح كوخه على وشك الشروع في القيام بأعمال غريبة. كانت الريح تهب بغضب كأنها تريد أن تطرد هذه التعاسة الكريهة المتراكمة هناك منذ أزمان بعيدة. كانت رائحة الحيوانات الميتة القذرة تفوح في كل اتجاه، رائحة شديدة جامحة أقوى من الريح والسنين.
قال حاروسي:
– هل ستعترف لي بعد بسبب هذه النزهة؟ ماذا تريد أن تقوله لي؟
–أريد أن أسألك لمَ سَمَّ سعدي أمرأته؟
وصرخ حاروسي
–إذن أتيت بي إلى هنا بلا داعي، تسألني هذا السؤال! هل أنا أبوه؟ أو أمه؟ لقد رأيت ما يكفي من التعاسة. أريد أن يتركني الناس في حالي.
وصمت الرجل ونظر تجاه عينيه فرأى الوحل والأكواخ والحزن الذي يخرج من الأرض والسماء الساقطة التي كانت تمتص كل هذا الحزن، وقال في صوت ضعيف:
– حقًّا لم سمَّها؟ نعم لماذا؟
قال شختور
–أرأيت؟ أنت نفسك الآن تسأل بهمٍّ وحسرة، في القريب سيسأل كل الناس هنا هذا السؤال بهَّمٍ كبير.
وسكت الرجل لحظة وقال:
– أتعرف يا حاروسي أن الكناسين قد ساروا وأنهم قد ضربوا مفتشهم.
– ومتى ذلك؟
– أمس.. لقد قال لي ذلك الشاويش جحلوش.
– ولم يقل لماذا ثاروا؟
– لا.. قال لي إن هذا سرّ، ومن الخير لي أن أشغل نفسي بأعمالي.
لقد تركت لي لأنه رجل حقير ويستطيع أن يسبه يتكلم مضايقات. ولكن كل ذلك يبدو لي غامضًا خفيًّا
–أريد أن أعرف.
–ماذا؟
–صلة الشبه بين جريمة حاروسي وثورة الكناسين.
–هل تعتقد إذن أنه توجد علاقة بين هذين الحادثتين؟
– ليس علاقة بل إرادة واحدة، إرادة بسيطة، بسيطة جدًّا، وأحسَّها حولي أينما حللت لكني لا أستطيع تميزها.
يجب أن نكون كثيرين لتحقيق ذلك نحن جميعًا مع أولادنا. عندئذ ستتغلغل هذه الإرادة في قلوبنا وتصبح مرعبة وتتضخم فينا، وعندما تصبح عظيمة فينا ولا نستطيع احتمالها في قلوبنا سنرتكب نحن أيضًا أعمالًا تبدو لنا الآن غير معقولة. ولكنها في تلك اللحظة ستكون بسيطة وعادلة.
قال حاروسي
– وهل أنت متأكد من ذلك؟
– لم تسألني إذا كنت متأكدًا؟ أنت ترى الآن الطفل هناك ترى حزمة البرسيم. كان الطفل يريد خروفًا للعيد، ولقد قلت له إننا فقراء فبكى، وعندئذ تذكرت أنني وصلت إلى أعماق البؤس وبعد ذلك مرت جريمة سعدي في ذهني؛ كانت هذه الجريمة تعذبني وتتعلق في بجسمي، وفي تلك اللحظة مرَّ الشاويش جحلوش وحكى لي قصة الكناسين ففي البداية لم أفهم شيئًا، ثم حاولت ثم حاولت فمن أعماق بؤس أحسست بثورة يبعثها في عمل أولئك الرجال وكانت شجاعتهم تزودني بالقوة، وأستيقظ في حب الحياة كيف أفسر لك ذلك أني شيخ ومع ذلك فقد استيقظ كل ذلك في هذا المساء فقط.
قال حاروسي:
يا أخي شختور لقد خرجت من السجن متعبًا جدًّا، أؤكد لك ذلك لم أعد افهم أي شيء بيد أنني سأقول شيئًا. لقد أريتني الطفل وحزمة البرسيم كيما تجذبني بالقرب من قلبك المريض.. فانظر بدورك إلى هذا القرداتي الواقف هناك بجانب الكوخ. هل رأيته؟ في كل مرة أراه فيها تثور في نفسي هذه الفكرة: لم لا يوجد أناس يدربون الآدميين بدل أن يدربوا القردة؟ ربما استطاع المرء أن يعرف عندئذ ما يستطيع أن يفهم الآدميون.
قال شختور: أعرف ما يستطيع أن يفعلوه.
– إذن قله لي.
– أعرفه منذ الليلة فقط.
– ومع ذلك قله.
– يستطيع الرجال أن يسمُّوا زوجاتهم يا حاروسي، ويستطيعون أيضًا أن يثوروا ويضربوا مفتشهم.
– ذلك لا يوضح شيئًا.
–ذلك يوضح كل شيء، الآن أرى كل شيء واضحًا، إلى حد أني أحس بالخوف؛ إن الذنب ذنب حزمة البرسيم هذه، كنت أرضى بتعاستي أختنق بها ولا أفكر في طردها كنت لا أفهم الحياة دونها. ولكن لما وصل الطفل بحزمة البرسيم أصبحت تعاستي مرة واحدة لا تحتمل. أني أتعذب كرجل يحرق وهو حي بعد أن انتُزعت منه عيناه كيما لا يستطيع أن ينظر حوله. كانت حزمة البرسيم سببًا في إحساسي بحياة أخرى.
– أية حياة؟
– لا أستطيع أن أقول لك، يوجد في الجو شيء ينبئني أن دمنا لم يبرد تمامًا لا تزال توجد فينا حرارة وحياة وحرارة قادرة على الإتيان بالمعجزات.
– هل ستشتغل بأعمال السحر؟
– لا لست أنا أنظر إلى هذا الطفل الذي يبكي. لا شك أنه يحس بالبرد لأنه عار إلا من جلبابه لم يتناول الطعام منذ الصباح، ولكنه هو الذي يحمل المعجزات. إنه ساحر الغد، كنت أسأل نفسي منذ برهة وأنا محطم الجسم في حانوتي قائلًا:
من ذا الذي سينقذ الطفل…آه سينقذ الطفل نفسه بنفسه. سوف لا يقبل الطفل هذه التركة الثقيلة من تعاستنا، ستكون له ذراعان قويتان ليدافع عن نفسه؛ ذلك ما ينبئ به الهواء الذي يحيط بنا. اسمع يا حاروسي.
كان الصمت يسود ويمتد إلى بعيد إلى أعماق الحارات الموحلة، وكانت الريح قد انقطعت وكان البؤس قد بلغ آخر مراحل مصيره.