الفوتوغرافيا ما قبل السوريالية
“ها نحن هنا في مصر في أرض الفراعنة، أرض البطالمة، مملكة كليوباترا. ها نحن هنا؛ نلتزم، ونحلق رؤوسنا نظيفة مثل ركبتك، ونُدخن أنابيب طويلة ونشرب قهوتنا مستلقين. ماذا الذي أستطيع قوله؟ كيف يمكنني أن أكتب لك عن ذلك؟ لقد تعافيت بالكاد من دهشتي الأولية… منظر أبو الهول “أبو الخوف” والرمل والأهرامات، كل ذلك رمادي، والسماوات زرقاء زاهية، النسور تدور ببطء في دوائر حول قمم الأهرام. نتوقف أمام تمثال أبي الهول، وهو يثبت نظرته الشريرة إلينا. يتحول مكسيم إلى اللون الأبيض كملاءة، وأخشى أن تدركني الدوخة، وأنا أحاول استعادة ملكاتي في التحديق بهدوء”
“جوستاف فلوبير 1850، عن رحلته وزميله الصحفي والمصور الفوتوغرافي مكسيم دو كام إلى مصر“.
في 1849، بدأ الروائي جوستاف فلوبير وصديقه الصحفي والمصور الفوتوغرافي مكسيم دو كام رحلتهما الاستكشافية إلى الشرق، واستغرقت هذه الرحلة عامين من توثيق الثقافات القديمة في بيئتها الطبيعية، جوستاف بالقلم ومكسيم بالكاميرا الشمسية؛ وهي بداية حقيقية لتصوير الرحلات بالتزامن مع موجة الرومانسيين في أوروبا في تطوير أدب الرحلات، إذ بدأ التصوير الفوتوغرافي قبلها بعشرين عامًا فقط، وقد التقط مكسيم دو كام نحو 60 صورة في مصر فقط. وقتها كانت عيون كل فناني وكتَّاب الحركة الرومانسية في أوروبا تتحول إلى الشرق سعيًا إلى ترك الحدود التي بنتها النظم الإقطاعية في القارة العجوز. وكانت الصور التي التقطتها مكسيم دو كام لمصر وأرسلها فلوبير إلى والدته وابنة أخيه وعدة أصدقاء من القاهرة بداية مسيرة التصوير الفوتوغرافي في مصر.
منذ بدئها في منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين كانت مصر المصورة في مركزية حركة تطور التصوير الفوتوغرافي في العالم، فتاريخ الفوتوغرافيا في مصر في حد ذاته يوثق توثيقًا مهمًا لبداية تاريخ الفوتوغرافيا العالمية في خط متوازٍ لا ينفصل. منذ البداية تخطى التصوير في مصر حدود الصورة إلى التوثيق الفني والتاريخي والاجتماعي للعلاقة بين الشرق والغرب، وقد وصل الأمر إلى حد كون مصر من أكثر الأماكن المصورة فوتوغرافيًّا في القرن التاسع عشر، وتمتلئ متاحف العالم بالأعمال الفوتوغرافية التي صورت فيها في القرنين 19 و20. هذا بشأن بداية الفوتوغرافيا؛ أما السورياليون فقد كان لهم رأي آخر، وتوجهات فنية غير تقليدية؛ فقد ضم المشهد الفني السوريالي في مصر فوتوغرافيين– معظمهم من أصول غير مصرية– منهم من بقى ذكره، ومنهم من توارى، وهنا؛ في أرشيف مدينة نرصدهم ونتعرف إليهم…
الفوتوغرافيا السوريالية
آيدا كار
“أولئك الذين يعيشون على الكاميرا سيموتون بواسطة الكاميرا“…
كان من بين جماعة الفن والحرية السوريالية المصرية أو من عاصروها واحتكوا بها في مصر في الثلاثينيات والأربعينيات مجموعة من المصورين الفوتوغرافيين السورياليين الذين لم يُسلط الضوء على إنتاجهم أو وجودهم
في مصر زمن الشتات الذي خلفته الحرب العالمية الثانية، ومن بينهم آيدا كار.
في 1908 ولدت آيدا كار لعائلة أرمينية تقيم في تامبوف، روسيا، وحين بلغت الثامنة انتقلت العائلة إلى إيران وأقامت فيها خمس سنوات، قبل أن ينتقل ملكون وأناهيت كاراميان وابنتهما آيدا كار إلى الإسكندرية، حيث عمل
ملكون في التدريس ودرست آيدا في مدارس الليسيه الفرنسية. كان ملكون كاراميان مصممًا على أن ابنته الوحيدة يجب أن تكون لها مهنة، وفي عام 1928، شجعها على السفر إلى باريس، لتتلقى دراسات في الطب والكيمياء. لكن أي نوع من الأطباء قد تكونه آيدا كار! وطبعًا سرعان ما تخلت عن دراستها لتتفرغ لدروس مكثفة في الغناء والكمان.
وفي 1933 عادت المصورة إلى عائلتها في مصر بعد رحلة تسكع بوهيمية ودراسات في باريس بدأتها في 1928، وفيها اقتربت من الأوساط الثقافية والأدبية والفنية في باريس، وتأثرت بالتيارات الطليعية الفنية السائدة. وسرعان ما ارتبطت بصداقات مع ريف جوش وبيت موندريان، وتعرفت على سوزان ديمسنيل، وهي امرأة تقدمية وموسيقية ماهرة أصبحت فيما بعد زوجة لصمويل بيكيت.
كما اقتربت من الشيوعيين الفرنسيين والحركة السوريالية في باريس، وعملت مساعد مصور في استوديو المصور هاينريش هايدرزبيرج، بعدها أصبحا حبيبين يتقاسمان شقة في شارع بيرييه في مونتروج. وحضرت العرض الأول الخاص لفيلم لويس بونويل وسلفادور دالي (كلب أندلسي) في ستوديو 20 في شارع دو شاتو.
لا شك في أن اهتمام آيدا بالفوتوغرافيا حفزته سنواتها الأولى في فرنسا، وقد أعطتها زياراتها المتكررة للمعارض الفنية والمكتبات والسينما رؤى مهمة حول المبادرات الثقافية الأوروبية.
بعد عودتها إلى مصر رفضت آيدا نمط الحياة البرجوازي لعائلتها وأصدقائها، ولكنها لم تتمكن من تحديد الاتجاه الذي ينبغي أن تسلكه. وقد حالت المشكلات الحادة التي أصابت صوتها دون مواصلة حياتها المهنية الغنائية، ومرت بقصص حب فاشلة جعلتها يائسة من استعادة السعادة التي عثرت عليها في باريس. وبعد الحرية التي عاشتها فرنسا، واجهت القيود الأخلاقية للمجتمع الأرمني من الطبقة المتوسطة في مصر.
من منزل والديها كتبت في عام 1934 “هذا الوجود هزمني تمامًا؛ لقد كان صوتي في حاجة إلى رعاية خاصة، لكنني لم أكن أملك القلب الكافي لرعايتي. لقد عانيت من الاشمئزاز العميق من الحياة. وإذا بقيت في هذا البلد الرجيم، ربما لن أحب مرة أخرى… حياتي حزينة جدًا، وأنا أقضي أفضل سنوات حياتي مثل خادمة قديمة“.
بعدها قررت آيدا الاتجاه مجددًا للتصوير الفوتوغرافي، فاندمجت في الأوساط الثقافية والفنية في الإسكندرية، وفي نهاية الثلاثينيات تعرفت إلى المصور إدموند بلالي وقررا أن يفتحا معًا ستوديو باسم “آيدابل“، وذلك قبل أن تربطهما قصة حب انتهت بزواجهما وانتقالهما إلى القاهرة وإقامتهما في الستوديو. وإدموند بلالي مصور هاوٍ شديد الحماسة ومسؤول حكومي مصري. ووفقًا لروايات آيدا عن استوديو آيدابل، فإن الاستوديو كان فنيًّا خالصًا، إذ أعيد التقاط الصور التقليدية برؤية مختلفة، وزيِّن الستوديو على الطراز الحديث، ووضعت آيدا زهرة واحدة طويلة في مزهرية أنيقة في مدخله.
وقتها اقتربت آيدا من إقبال حامد العلايلي زوجة جورج حنين وحفيدة الشاعر أحمد شوقي وابنة وكيل مجلس النواب، وكانت إقبال بوابتها إلى الجماعة السوريالية المصرية، وقد اشتركا في معارض سوريالية في القاهرة؛ إذ كان لجورج حنين وإقبال العلايلي (زوجته) محاولات تصوير فوتوغرافية، وربما أشهرها صورة جورج حنين لجولبيري أفلاطون، بالإضافة إلى صورة إقبال العلايلي التي التقطتها لحنين على قضبان القطار، ولعلها من أكثر الصور الفوتوغرافية شهرة في القاهرة. وفي السادسة والثلاثين تطلقت آيدا كار من إدموند بلالي ثم تعرفت إلى فيكتور موسجريف؛ وهو شاب إنجليزي موهوب بشكل استثنائي؛ شاعر وتاجر تحف فنية وناقد محبوب من كل الأوساط الأدبية القاهرية، ويعمل في سلاح الجو الملكي البريطاني، وقد تحابا ثم تزوجا، وأقاما معًا في القاهرة بمنزل ساحر في درب اللبانة حتى نهاية الحرب الثانية عام 1945 قبل أن ينتقلا إلى لندن. كان فيكتور موسجريف – (1919-1984) شاعر وتشكيلي بريطاني رائد– قريبًا من جماعة الفن والحرية ومولعًا بإنتاجها.
المعرض الثاني للفن الحر
أما جماعة الفن والحرية فقد بدأت تتبنى إنتاج مصورين الفوتوغرافيا السورياليين منذ المعرض الثاني للفن الحر الذي أقيم من 10 إلى 25 مارس 1941، في عمارة الإيموبيليا. في ليلة 10 مارس 1941 جاء زوار المعرض الثاني للفن الحر إلى عمارة الإيموبيليا وظلوا يتساءلون في دهشة: هل سيتم الافتتاح هنا في هذا الممر، في ظل هذه التشطيبات وأعمال الطلاء؟ وما هذه الأواني المتناثرة والمطلية بالجير؟ وما تلك الكفوف السوداء التي تلطخ الحائط حديث الطلاء؟
عن هذا المعرض كتب الرسام البريطاني تراكير “كانت اللوحات معلقة على حوائط منتصبة بطريقة مربكة، هنا وهناك علقت شرائط لصق سوداء وبعض الصور علقت بمشابك غسيل على حبل مشنقة، هنا وهناك رأيت خليطًا من صور وصحف مقطعة في تصميمات لا معنى لها على الأقل بالنسبة لمبتدئ مثلي ومثلك، هناك بعض رسوم صبيانية للآنسة شحاتة، على حوائط التيه تدلت أقنعة مضحكة عملها أبو خليل لطفي. ومشاركات
رمسيس يونان عبارة عن مجموعة من أجزاء تشريحية تشبه الهراوات، عندما رأيت قماشًا نظيفًا وقصاصة ورق معلقة في مسمار قلت لمرافقي إن هذا نحت بارز لكلب يطارد حصانًا، وقد أعجبوا بمعقولية هذا العنوان“. وقد شاركت مدام هاسيا في المعرض للمرة الأولى كمصورة فوتوغرافية، ومن أشهر أعمالها: اللعب مع المسخ و“فتاة“، كما صوَّرت كتاب الرسام الفرنسي التكعيبي أندريه لوت عن مصر. وتكمن أهمية المعرض الثاني للفن الحر أن كتالوج المعرض حمل غلافه بيانًا لجماعة الفن والحرية بعنوان الفن الحر في مصر، وهذا نصه…
لكي يقوم الفن الحر برسالته في مصر لا بد له من هذه الأسس الثلاث:
أولًا: الرد على تلك الموجة من التصوير الكلاسيكي المحافظ الذي لا يخجل من سوء مستواه المضمحل، ولا من جماله البشع، ولا من تعريته تلك الطبقة من نسائه المحترمات. ونرى من واجبنا هنا التصريح بأن أقل إعلان جزم أمريكاني يؤثر في الناس أكثر مما تؤثر فيهم كل صور صالون القاهرة السنوي.
إن العذر الوحيد لمنتجي هذه الصور من الفنانين هو أنهم لا يرسمونها إلا لمجرد تمضية أوقات فراغهم. لن يفهم هؤلاء التعساء وليس لهم أي نصيب من الفهم ليدركوا أن التصوير ما هو إلا طريقة للتفكير وللحب وللبغض وللعيش.
ثانيًا: إثارة التعجب في أذهان الجماهير، ذلك التعجب الذي يقولون إن لا داعي له لأنه كثيرًا ما يكون مقدمة لإثارة الوعي النفسي ولبعض الانقلابات الفردية والاجتماعية.
إن أكثر الناس حتى الآن تسلم بأن مسائل زمنهم الحيوية تحل بطريقة ما دون أن يبدوا أي دهشة لذلك، هل لم يكن في الإمكان أن تعرض طريقة الحل هذه بصورة أخرى غير التي عُرضت بها؟
بين مفاجأة وأخرى يمكن بسهولة إحياء غريزة التعجب الصبيانية التي لا حد لها. ومثال ذلك: ليه الدنيا معمولة كدا؟ ومين اللي عملها؟
ثالثًا: ربط نشاط شباب الفنانين في مصر بتلك الدائرة الكهربائية الواسعة التي يتكون منها الفن الحديث… ذلك الفن العاطفي العاصف الذي لا يخضعه أي أمر مهما كانت صيغته الرسمية أو الدينية أو التجارية… ذلك الفن الذي نحس بنبضاته القوية في نيويورك ولندن والمكسيك، حيث يكافح فنانون أمثال دييجو ريفيرا وولفجانج بالن وإيف تانجي وهنري مور. وفي كل مكان من العالم يكافح رجال لا يتطرق اليأس إلى قلوبهم لتحرير التفكير الإنساني تحريرًا مطلقًا.
الفن والحرية. مارس 1941.
المعرض الخامس والأخير للفن المستقل
قيم المعرض الرابع للفن المستقل في صالة الطعام في مدرسة الليسيه فرانسيز بشارع الحواياتي، القاهرة 12 مايو 1944.
بالنسبة للتصوير الفوتوغرافي اشترك كل من ستوديو آيدابل، ومدام هاسيا، ووديد سري.
أما المعرض الخامس فقد أقيم في 2 شارع يوسف الجندي. باب اللوق… محتضنًا أعمال 44 فنانًا، من بينهم التشكيليين إبراهيم مسعود وسعد الخادم وأندريه نوميكو وكمال يوسف، والمصورين الفوتوغرافيين آيدا كار وهاسيا ووديد سري وإدموند بلالي. تحت رعاية جماعة الفن والحرية أقيم المعرض الأخير للفن المستقل، وجاء كتالوج المعرض تحت عنوان “العرض مستمر“.
لي ميللر.. نيويورك، القاهرة
في 1934 سافر رجل الأعمال عزيز بك علوي إلى نيويورك لشراء معدات لسكك حديد مصر، وهناك التقى بالمصورة الفوتوغرافية السوريالية الأمريكية لي ميللر ودخلا في علاقة عاطفية انتهت باقتناع لي ميللر بالزواج من عزيز بك والعودة معه إلى القاهرة؛ حيث اشترى لها فيلا في الزمالك لتكون منزل الزوجية المزين بالساتان والتحف الفخمة. كانت ميللر دائمة التردد على حانة فندق شبرد وحانات القاهرة الأوروبية، لكنها لم تكن سعيدة، وهذا يظهر في مراسلاتها إلى رولاند بنروز إذ تكتب “يا إلهي، أنا أشعر بالملل هنا، أعتقد أنني سأصبح مجنونة ببطء“، ولهذا فرَّت مرارًا وتكرارًا عبر رحلات طويلة إلى الصحراء في سيناء والبتراء شرق الأردن وفلسطين؛ إذ شعرت أنها مضطرة للبحث عن الصحراء رد فعل على ضجرها من مجتمع الطبقة العليا المصرية، وأرادت بشدة أن تعود إلى أعماق الأشياء كما في باريس، حيث ينشأ فن ثوري ضخم، وبعدما كانت عشيقة وشريكة للديناميت الفني مان راي أصبحت زوجة لرجل ارستقراطي تتسم حياته بالهدوء. شغلتها حاجتها المستمرة إلى الحرية الجنسية والعاطفية، وعلى المستوى الفني اشتاقت إلى خلق الدمار البشري اليومي، وخلق جمال متشنج ومنفجر كما علمها السورياليين الفرنسيين.
ويظهر هذا في رسالتها لشقيقها “أجلس طويلًا لقراءة القصص البوليسية المملة، وألعب البوكر كثيرًا، أنا رديئة في التدبير المنزلي، ولا أزعج أحدًا، وعندما يحدث شيء خاطئ، كالعادة، أضحك مثل أي شخص“. كل هذا أدى في النهاية إلى هروبها من مصر مع رولاند بنروز، وهو فنان وشاعر ومؤرخ إنجليزي 1900-1984.
صنعت لي ميللر أعمالًا سوريالية في مصر، لكنها لم تكن كثيرة الاختلاط بالجماعة السوريالية المصرية. صحيح أنها اتصلت بهم، لكنها لم تشاركهم أي فعالية. وعلى عكس المصورين الغربيين الذين تناولوا مصر بعدساتهم وركزوا على الروح الشرقية والآثار والمناظر الطبيعية غير الملوثة، فتحت لي ميللر عيونًا فلسفية جديدة بعدستها السوريالية التي وجهتها إلى جوف مصر في خضم عملية تفكيك واضحة للتصوير. ففي لوحتها بورتريه للفضاء التي التقطتها لنافذة من داخل خيمة في واحة سيوة تغطيها قماشة ممزقة، تعكس فيها التمزقات والخطوط السحابية حالة من الحزن الخافت بينما تتناثر خارج النافذة حجارة مرتبة بشكل مستقيم، ليجلب هذا الخط الحجري نشازًا في المنظر الجميل للصحراء مترامية الأطراف. وقد رأى النقاد المعاصرون للي ميللر في هذا المقصد هجوما حسيًّا على الأيديولوجيات القومية والحدود السياسية التي تكسر كل فراغ شاسع وجميل. وتظهر تشكيلات السحب بشكل ضبابي تشكيلات تقترب من وجه وعيون ودموع وشفاه أعلى التل لمن يطيل النظر. وهنا يظهر تأثر لي ميللر بفوتوغرافيا أستاذها مان راي– فنان أمريكي معاصر (1890-1976) – من حيث الشكل والفلسفة، بالإضافة إلى أنها تضع في جميع لوحاتها دلالات متناقضة تشير إلى حتمية زوال الحضارات والعودة إلى البراح الإنساني.
أما صورة ظل هرم خوفو، فقد تناولها النقاد كمشهد بانورامي يوحي بظلال السلطة الأبوية الاستعمارية التي تخيم على مصر؛ حيث الظل يحجب المشهد الواقعي المصري، والغياب هو بطل المشهد. وفي صورة “القطن يكافح ليهرب من الأكياس ويطير ليصبح سحبًا” تتشابه الأكياس مع الصخور، وهي دلالة واضحة على القيود الجنسية والمكانية والاجتماعية. ويبدو أن غياب البشر في العديد من صورها المصرية يعكس رؤيتها لمصر على أنها “مجرد قبور وأطلال وأجساد مربوطة في أغلالها“.
فان ليو مروض الظلال
في 1921 جاءت عائلة فان ليو إلى مصر هربًا من الاضطهاد في تركيا… يعود الأمر إلى منطقة هليوبولس في بدايات القرن العشرين؛ حين فتن المراهق الأرميني فان ليو (1920-2002) بالبطاقات البريدية التي تحمل صور نجوم هوليود، وقتها كان قد بدأ يشعر بالملل من دراسته المدرسية، واتجه إلى الرياضة وجمع البطاقات البريدية والصور، وبعد انتهائه من مرحلة الثانوية العامة التحق بالجامعة الأمريكية، وبعد عام واحد فقط مل من الدراسة وانسحب من الجامعة، واشترى له والده كاميرا هدية، والتحق بستوديو فينوس للتدريب على التصوير الفوتوغرافي، إذ كان العمل في التصوير الفوتوغرافي في نهاية الثلاثينات مربحًا، خصوصًا بعد تدفق المهاجرين الأوروبيين إلى مصر في نهاية الثلاثينيات، كان صاحب استوديو فينوس، أركابيل أرتنيان، مصورًا عاديًّا، لا تتجه أعماله للشكل الذي كان يفتن فان ليو؛ حيث اللعب بالظلال والأضواء، وبعد ثلاثة أشهر أيقن فان ليو أن هذا الاتجاه في الفوتوغرافيا لا يناسب طموحاته
، وقد شجعه صديقه بول هاندز الضابط في الجيش البريطاني ليفتتح الستوديو الخاص به، وفي يناير 1941 لجأ فان ليو إلى شقيقه أنجلو ليدعمه ماليًّا، ليفتحا معًا ستوديو تصوير في غرفة المعيشة الخاصة بمنزل العائلة. وتوافد الضباط الأجانب وأبناء الطبقة الأرستقراطية على الستوديو؛ إذ كان فان ليو كان يقدم رؤية جديدة في التصوير. وفي 1947 ولأسباب اقتصادية قرر فان ليو الانفصال عن أخيه، بسبب قلة أعمال الستوديو، لأن المهاجرين الأجانب بدأوا في العودة إلى بلادهم بعد الحرب؛ وشعر فان ليو وقتها أن الفرصة قد حانت للانفصال لترك العمل التجاري والعودة إلى مشاريعه الفنية. كما أنه لم يرض أن يضع أنجلو توقيعه على جميع الصور التي يصورها، خصوصًا صور الفنانين التي كانت تعرض في دار الأوبرا، وبدأت الخلافات بينهم، ليسير فان ليو نحو تأسيس ستوديو خاص به. ومن أهم أعماله في هذه الفترة كان البورتريه الذي صوره للفنان الجنوب أفريقي تيدي لين.
تذكر كاتيا بويادجيان، ابنة أخ فان ليو؛ وهي مصورة تعيش في نورماندي بفرنسا “كان الشقيقان متعارضين في الشخصية، كما يمكن أن يكون أي شخصين… كان أنجلو صاخبًا ومفرطًا ومتهورًا وغير مسؤول ومقامر، بينما كان فان ليو فنانًا هادئًا وأنثويًّا وحيدًا، وكان حذرًا إلى أقصى الحدود“.
ستوديو مترو
7 شارع فؤاد، وسط البلد
في 1947 اشترى فان ليو الستوديو الخاص به في 7 شارع فؤاد، مقابل 450 جنيهًا مصريًّا شاملة المعدات والأثاث. وكان يصور الفنانين الشبان مجانًا في مقابل الدعاية للستوديو الجديد. وحين كان رشدي أباظة ممثلًا شابًا يعمل في شركة التأمين الفرنسية يونيون التي تقع في مبنى ستوديو فان ليو، كان دائم الذهاب إلى ستوديو مترو للتصوير، وكان يستعمل صوره بعدسة فان ليو للتقديم للأدوار الثانوية في السينما، وكذلك هناك صورة شهيرة لطه حسين في هذا الوقت بعدسة فان ليو.
اشتهر فان ليو بين الجنود الأجانب والمسرحيين الذين يعملون في محيط الستوديو، وسرعان ما انتشر بين الأرستقراطيين وراقصات الكباريهات والمغنين والممثلين والمغتربين والمصريين. ومن أهم ما قام به فان ليو في هذه الفترة هو تصوير مجموعة تقترب من 400 بورتريه ذاتي، تقمص فيها شخصيات مثل راسبوتين وسام سبيد، بالإضافة إلى صوره متقمصًا المهن المختلفة في المجتمع؛ لقد أراد تقمص شخصيات الواقع الذي يعيش فيه، وكأنه يكتب روايات فوتوغرافية.
المرحلة السوريالية عند فان ليو
قامت أعمال فان ليو السوريالية بشكل رئيسي على اللعب بالمونتاج والضوء والظلال واستنساخ الذات دلالةً على الصراع الداخلي داخل النفس البشرية. فقد كانت الصراعات الوجودية هي ما كان يشغله في أعماله السوريالية، وقد ظهرت كراهيته للنزعات القومية في أعماله السوريالية وغير السوريالية؛ ولعل أشهر صوره كانت بعنوان “لا للهروب من الموت“. لم ينشغل فان ليو الذي كان فنانًا ليبراليًّا بالصراعات الطبقية كأغلب السورياليين، لكنه انشغل دائمًا بكراهية السلطات القومية، ويعود هذا طبعًا لجذوره الأرمينية وما تعرضت له عائلته من اضطهاد.
استخدم فان ليو التقنيات السينمائية للأضواء الصناعية والظل والأفكار الإيحائية لتوليد شخصيات كاريزمية تستحضر روحًا درامية للصور. وبهذه الطريقة مسح فان ليو الخطوط الفاصلة بين الواقع والخيال في عصر وثقافة لم تكن تظهر فيها هذه الأساليب الفنية بعد في الخيال الجمعي. وقد قال ذات مرة “أنا مثل مخرج سينما، العميل لا يعرف ما يجب القيام به“.
في 2001، صنع أكرم زعتري، بدعم من مؤسسة الصورة العربية، فيلمًا قصيرًا عن فان ليو بعنوان “رحلة للمصور الذي صوَّر جدتي عارية” يعرض الفيلم تاريخ فان ليو يحكيه بنفسه. وحصل الفيلم على الجائزة الكبرى في مهرجان الإسماعيلية للأفلام الوثائقية والسينمائية القصيرة في مصر 2002. ويقول زعتري “اختلف عمل فان ليو عن المصورين الآخرين الذين شاهدتهم في المنطقة… ما جذبني في الغالب في هذه الصور كان مقدار الصور الذاتية التي صنعها في الأربعينيات من القرن العشرين، متنكرين في شخصيات مختلفة. بعد أن تأثر كثيرًا بالسينما، لأنه تعلَّم من خلال مجلات الأفلام، وقد ذكرتني صوره الذاتية بسيندي شيرمان“. ويضيف “إن ما يجعل عمله مثيرًا للاهتمام بالنسبة لي هو إمكانية إثارة سؤال أوسع حول تلك التقاليد التي تحتضر لإنتاج الصور“.
إيتيان سيفيد
ولد المجري إيتيان سيفيد في مدينة زيكيس فير فار في المجر 1914. وفي 1930 انضم إلى ورشة عمل ومدرسة فنية في بودابست أسسها المجريون الهاربون من غول النازية، وهي مدرسة أتيلير للفنون والتصميم. وقد اضطر إلى ترك المجر هربًا من هتلر والتنقل عبر البلدان على ظهر صديقه الحمار، وكان يوثق رحلاته وحياة الشعوب عبر الفوتوغرافيا بالإضافة إلى رسوماته الكاريكاتورية الساخرة. وفي 1938عام ميلاد جماعة الفن والحرية وصل إلى مصر، في البداية بدأ بتصوير المعابد الفرعونية على ضفاف النيل ونشر أعماله الفوتوغرافية والكاريكاتورية في الصحف وصور الفنانين المعاصرين له، وصوَّر رسومًا مقطعة للأهرامات ذات أبعادًا سوريالية. بالإضافة إلى تصويره للطبقات الفقيرة، وقد نشر هذه الصور مع نصوص لتريستان تزارا مؤسس الحركة الدادائية في كتاب “مصر وجها لوجه“؛ وقد صوَّر في هذا الكتاب صورًا لوجوه فقراء مصر وما يقابلها من وجوه
التماثيل الفرعونية، وله كتيب آخر مصوَّر كتب مقدمته جان كوكتو بعنوان “معلش” وفيه صوَّر الطبقات الفقيرة في مصر والشرق الأوسط بدلالات مكانية تميل إلى السوريالية. غادر إيتيان مصر عام 1947 إلى فرنسا حيث تابع مسيرته الفنية وتزوج وحصل على الجنسية الفرنسية وأسس دار نشر.