مقدمة لا بد منها
أن تدخل في علاقة مباشرة لأول مرة مع شيء ما، يضعك موضعًا جديدًا عليك، أن تتجسس على إنسان فهذه خسة، فما بالك إن تجسست على كائن يتكلم لغة غير لغتك، وهذا ليس بجديد عليك، فأنت مثل أغلب أبناء جيلك ممن يخبرونه ومن الجائز أنهم قضوا معه ولو سويعات قليلة، بين نائمين ومتيقظين.
دهشة مشاهدته للمرة الأولى، ومفاجأة حجمه وصوته الهادر الحاد وكأنه لا يعرف إلا الصراخ.
حتى أنا أملك كثير من الذكريات معه، فقد رأيته منذ نعومة أظفاري وعرفت صوته وصوت عبوره على كوبري إمبابة، من أوائل اللقطات التي وعتها ذاكرت؛ فقطار الصعيد يلزمه إجباريًّا أن يعبر كوبري إمبابة الحديدي، مارًا بقرية إمبابة “فيما كانت قبل أن تصبح جمهورية على يد الشيخ جابر” في طريقه إلى محطة الجيزة ليحصل على إثبات هويته كقطار الصعيد.
كنت وما أزال زبونًا دائمًا لقطار الصعيد هذا نفسه؛ فجذوري من صعيد أسوان آخر الخط، آخر الصعيد وأول النوبة، أسوان ثغر من ثغور مصر من أول الفتح العربي وإلى أن أسلمت النوبة المصرية. وقطار الصعيد هو وصلة الصعايدة بجذورهم والتي لا تنقطع أبدًا، فأغلب الصعايدة حتى ولو لم يولدوا هناك، فهم يتحدثون دائمًا وكأنهم غرباء، فالصعيدي لا يذهب إلى هناك بل يروِّح، فهو في مكان آخر غير بيته الذي ربما يروَّح له على الأقل مرة في حياته.
وأنا أعرف قطار الصعيد هذا جيدًا، ومثل بقية مواليد أواخر الستينيات حضرت فيما سبق، وقبل أن ينعم علينا ببنَّائي مصر الحديثة الرئيس المبارك ووزير نقله سليمان متولي. ففي عصر المتولي هذا –منتصف الثمانينيات– ازدوج خط قضبان الصعيد بعد أسيوط وكان ما يزال فرادي كما يقول الصعايدة أو single كما يقال اليوم من ساعة ما خلقه ربنا، وكان هذا فتحًا مبينًا. فأنت لا تعرف وابور الساعة اتناشر المجبل على الصعيد، فهو الآخر إجباري كان سينجل، وفي هذه الأزمان كان الأمل والمني والدنيا والأحلام أن تجد موضع قدم في هذا الوابور الوحيد وبالأخص في الإجازات التي كانت موسمنا لكي نروَّح، المشهد هو ما قاله المعلق الراحل محمود بكر عند وصفه كسكندري لمحطة مصر، وقد صدق “تحس إن الناس دي بتعمل بروفة على يوم القيامة!”.
ولأن المصري لا يعدم الحلول أبدًا وجينات العبقرية المصرية في دمه، اخترع الناس حلهم، أن يختاروا من كل قبيلة فتى جلدًا؛ فيجتمعون ويهمون إلى رمسيس في ما يشبه ظلمة الليل إلى مخزن السكة الحديد، وهناك ينقضُّون على عربات القطار فتتفرق كراسيه بين القبائل، هكذا يخرج القطار من مخزنه إلى رصيف الصعيد محتلًا عن بكرة أبيه، فنقفز خفافًا، السيدات أولًا، فالكبار، ثم نحن الصغار ثم القفف “التموين المحمَّل“، ونتبادل الكراسي المحتلة مع شبابنا، ولا تعتقد أن هذا الانتقال يحدث سلميًّا، فوسط هذه العملية التي تتم على جميع المواقع في زمن قياسي، تحدث وبشكل إلى عركة صغيرة أحيانًا وكبيرة أحيانًا أخرى. المعارك تلك هي جزء من ذاكرة الجيل الأكبر، من كانوا شباب القبائل وقتها، أما أنا فقد صرت شابًا في عصر المبارك والمتولي فلله الحمد. لا يزال إخوتي الأكبر يحتفظون بقمصان ممزقة في ذاكرتهم، أو حتى بندوب على جلودهم، وما تزال عيونهم تغرق في دموع الضحك كلما تذكروها، هنا فقط أرغب في أن أهتف “يا ريتني كنت معاهم، يا ريتني كنت معاهم “مثل بطل فيلم الطريق إلى إيلات المصاب بالإنفلونزا“.. وهو فيلم تليفزيوني؛ فجيلي كما تعرفون تربى على سينما الزمن الجميل، وقد شاهدناها في تليفزيون الدولة، وهكذا كانت أكثر جمالًا.
والقطار والسينما قصة أخرى، فكم من الذكريات نحتفظ بها عن القطارات عشَّشت في رؤوسنا من أفلام السينما، لاحظنا أم لم نلاحظ. القطار حاضر في السينما؛ سواء كان بطلًا يحمل الفيلم اسمه “سيدة القطار” أو عنصرًا كابوسيًّا في “نهر الحب” أو حتى رمزًا للمدينة والمدنية في فيلم “دعاء الكروان“، أو بطلًا مساعدًا؛ فهو صديق وفيٌّ للبطل الهارب في فيلم “الهروب“، وظهر أيضًا مع الأستاذ عبد الوهاب منشدًا على مقام الرست، له ومنه، يا وابور قل لي.
القطار لا يحب السينما، فقد قيدته في دور الشرير. هل القطار محق في عدم حبه للسينما؟!
طبعا القطار شرير، فهل هناك كائن عنده قلب يستطيع أن يدهس الست فاتن حمامة حتى ولو في الحلم، مش مرة ولا اتنين، ثم عاد في فيلمه سيدة القطار وقلب الست ليلى مراد، وحتى لما ظهر في فيلم كوميدي مع الأستاذ نجيب الريحاني جعل أحد دواوينه مسرحًا لتعريف عبد الفتاح القصري بنجيب الذي سيحوله إلى سارق، والست ميمي شكيب التي تحوِّله بدورها إلى منتحل لشخصية سي عمر.
ولكن هناك مستندًا للدفاع –قد يكون الوحيد الحاضر في ذهني الآن–، القطار مع الأستاذ أحمد زكي كان صديقا وفيًّا؛ فهو الذي حمله هاربًا ومسلمًا نفسه، حمله على سطحه، ألم يفسح له المجال ويعد له الجمهور يلتفون حوله يسمعون حكايته، ألم يتعاطف مع البطل القاتل؟ ها قد اعترفت، البطل القاتل، السلبي، البطل هنا يلعب ضد الطبيعة. فالبطل كما تعلم يجب أن يكون جيدًا، إيجابيًّا، ولما قلبت الأشياء صار قطارك صديقًا، واستكمالًا للسفسطة، في الفيلم نفسه يقتل المترو الضحية الثالثة للبطل، لم يغيِّر عاداته إذن!
هذا المدعو مترو ليس قطارنا، فالقطار مُهاب، جاد، مرعب. في ذاكرتنا الشعبية القطار شرير، حين نريد منه ذلك، كمقولة “كَلك قطر” أو “قطر يلهفك“، وحين تكون مسرعًا وغير مبالٍ يقول “مالك واخد في وشك زي القطر“، فالعامة تقول قطر، هذا من لحن العوام، ويسميه العامة أيضًا وابور أو بابوار، وهي تعني في ضمير العوام الماكينة، أو الشيء الذي يدار بماكينة، منها قولهم: وابور الطحين، ووابور المية، ووابور الزلط، وأيضًا بابوار الجاز؛ فهو ماكينة على إحدى الصور، وعند العوام صورة لا نعرف مصدرها، وهي أن الماكينة شريرة، ولا تبدأ الدوران أحيانًا إلا بالدم.
الوابور في أغاني الزمن الجميل، لم يكن جميلًا؛ فوابور الساعة اتناشر قلبه حديد، وهناك وابور آخر حتى لو تسامحنا مع قلة أدبه حين لا يرد سؤال موسيقار الأجيال “رايح على فين؟“، فلن نسامح سلوكه الذي شكاه الأستاذ قائلًا “قرَّبت غريب وبعدت حبيب.”
والقطار جاد، فيمكنه، وسيفعل، أن يتركك وحيدًا وتائهًا لو لم تقابل الحياة بمثل جديته، فيمكن أن يفوتك قطر الزواج، أو قطر النجاح، ولو لم تصغ جيدًا سيفوتك قطر الحياة.
قبل أن ننسى حديث السنيما، لا نستطيع أن نغفل يوسف شاهين، مخرج القطارات. مع أنه يحمل اسم “باب الحديد“، وهو الاسم الحركي للمحطة الأم وبيت كل قطار، إلا أن القطار ممثل رئيسي في الفيلم. شاهين أيضًا هو أول من قدم قطار الغلابة، أو بالأصدق عربة الغلابة “الترسو” وليس أي ترسو بل الصعيدي منه في فيلم “أنت حبيبي“، ولكي يكمل جميله، علاوة على المشهد المسرحي، فريد الأطرش يغني في أقل وصلاته نكدًا، وبلكنة قصد منها أن يمسِّي على الصعايدة وبالمرة الفلاحين “يا مقبل يوم وليلة.. اطوي السكة الطويلة.. وديني بلد المحبوب“. يعطي شاهين هذا المشهد صفه الخلود، ففي قلب قطار الغلابة الصعيدي، ترقص الست هند رستم، وذلك بعد أن نجت من الذبح على يد شاهين نفسه في باب الحديد.
في تحفته “الأرض” لا يفوت شاهين القطار–المشهد لم يكتب في رواية الشرقاوي – فمشهد محمد أفندي يجري وراء البيه الذي يذكره بالفارق الطبقي حالًا فيهشَّه في أدب بلغة بهواتي “اجري الحقلك مكان يا محمد أفندي“. في الأرض يقدم شاهين محطة البندر بعد أن قدم محطة مصر، هذا لو تغاضينا عن أن شاهين نفسه هو من قلب القطار بالست ليلي مراد “فيلم سيدة القطار” لأن شاهين كان لسه شباب وطايش، فوالخلاصة أنه يمكننا أن نتسامح نقول إن يوسف شاهين أحب القطارات… قطارات الركاب طبعًا.
في مصر هناك عائلات وقبائل من القطارات؛ فقطارنا هنا درجات، فهو رُتب، وجنسيات وأسماء شهرة، فعندنا في مصر الڤي أي پيVIP ؛ قطار رجال الأعمال، والعروسة، والشبح، والفراشة على خط الصعيد..
قطارات بالجنسية، الإسباني، الفرنساوي، المجري؛ وهو كنية لاعب الأهلي السابق مصطفى عبده.
ولأننا شعب مثقف فعندنا قطار الصحافة “موزع المطبوعات“، قطار الصحافة هذا كلما تذكرته أسترجع رائحته وإضاءته الكئيبة. أيضًا القشاش والتوريبني وكلاهما فيلما سينما، التوربيني كانت كُنية أشهر قاتل متسلسل ومغتصب أطفال في تاريخ مصر، قبض عليه وأعدم 2007؛ العام نفسه الذي خرج فيه القطار التوربيني من الخدمة. كان التوربيني أنظف قطارات مصر سمعة وأقلها حوادث!
وكانت هناك قطارات ملكية، مثل القطار الذي قاده الملك الفاروق بنفسه. وقطارات جمهورية حيا منها نجيب وعبد الناصر والسادات ومبارك ملايين الشعب التي لا تدق أي كعب، ملطوعة في الشمس، مجموعة بالعصا، ومن قبل بالكرباج أيام الزمن الجميل.
من العائلات الأخرى التي شاهدتها بأم عيني، قطار البضاعة، قطار الصوامع “الغلال“، والقطار الحربي، وقطار الفحم “الحديد والصلب“، وقطار القصب، كل هؤلاء يشاركون قطارنا المسكين أغلب طريقه التاريخي الملتصق بالنيل، وكأن هذا الجبار يخاف أن يفارقه إلا لو اضطر، كم هو كئيب القطار البعيد عن النيل، فارغ وبائس، وقد يكون مثيرًا للأحقاد. ربما تتذكره مع الأستاذ عادل إمام، ويسرا، والمرحوم على الشريف في فيلم “الإنسان يعيش مرة واحدة“، والجملة التي ربما يكون عمرها أطول من الفيلم ذاته “قطيعة تقطع القطارات واللي عايزين يركبوها على الكل كليلة.”
وكأنه ليس هناك مهرب
في صبيحة ذاك اليوم قرأت ما كتبته أمس على زوجتي وابني، وبعد أن بدأت في تدوين بعض الملاحظات، فتحت التليفزيون لأشاهد الأخبار –فلست من زبائن الفضاء الافتراضي– وكانت محطة مصر تحترق، سبعة آلاف لتر من السولار تنفجر في أجساد الناس، لينتقلوا في صدمة قاتلة من جنة الاستقرار والأمان إلى نار الإهمال والفساد والطرمخة، وقبل أن يشعروا أو يتألموا سيكونون في جنات الخلد؛ أحسب ذلك لأنهم من الأبرياء وماتوا غيلة.
لماذا غضبت كل هذا الغضب؟ في المعتاد عند سماعي أي من هذه الأخبار المؤلمة، والتي أصبحت في هذا المكان الذي نحيا فيه شبه يومية أو أقل، وبعد ألم بسيط في معدتي وغصة في حلقي. أرى إيميلاتي، ثم أمسك كتابًا بعد أن أعرف مباريات اليوم لصلاح أو برشلونة، وما إذا كان الحادث فاجعًا وعدد الضحايا كبيرًا بحيث لا يمكن إغفاله، فهذا يعني محادثة إضافية بالكلمات نفسها مصحوبة بمصمصة الشفايف مع ابن طبقتي، الذي لاص بين الألم والجي بي إسGPS، في رحلتي للهروب من الأخبار عبر تطبيق Uber.
عندما سألتني زوجتي: مش هتبعت الكلمتين لوائل، أحسست بارتباك، أضفت إليه نبرة صوت عالية لأقسم أنني فعلًا متألم، هو ده وقته! الناس بتموت وإحنا هنهزر، في داخلي كنت أستعيد المثل الشعبي “هو إحنا في خرا ولا في شم ورد“، وسألت ذاتي أليس هذا الخراء الذي نعوم فيه هو فضلات الورد الذي رفضنا شمه، فأكلناه بعد أن تعفن ودوِّد وريحته طلعت.
هذه الأيام أشعر بغضب مزمن وقلة حيلة –كالعادة–، هناك تعديلات دستورية تجري، وكان أغلب من سمعتهم أو سألتهم، يميلون إلى عدم الاهتمام بهذا الموضوع، وذهبت إلى أن هذا الإحساس يرتكن إلى حجتين، أن ما يحدث سوف يحدث والمكتوب على الجبين لازم تشوفه العين، والثاني أن الجماهير مش مهتمة هأهتم أنا؟ سواء كانت المقدمة أن الله لا يصلح ما بقوم أو أن الحتمية التاريخية مأكدالي.
وفي قلب اللهيب المشتعل، كانت الدولة وأعداؤها الجدد يتقاذفون كرة النار عسى أن يصيب أحدهم الآخر بالنار المشتعلة في قلب محطة مصر، وكان –لا أعرف صراحة ما أسميهم – هؤلاء ضيوف الشاشات، أبطال الساحات الفضائية، لا يمكن أن يُوصفوا إلا بما قاله الأبنودي: أنا المسيس خفيف الظل… أنا الساكت… راقص في قلب العزا… باكي في صبح العيد.
“الأمة، القومية، الهوية، أثبتت جميعًا أنها عصية على التعريف، ناهيك بالتحليل“.
“إن جوهر الأمة يتمثل في وجود الكثير من الأشياء المشتركة بين سائر أفرادها، وفي أن سائر هؤلاء قد نسوا أشياء عديدة“. عن إرنست رينان.
هكذا يقول بندكت أندرسون Anderson, Benedict في كتابه “الجماعات المتخيلة“.
لماذا شعر الكثير منا بهذه النار تحرقهم ولو بشكل غير مباشر؟ هل لأن النار باتت قريبة؟ فمن منا لم يستقل قطارًا من محطة مصر؟ من منا لم ينتظر أو يودع قريبًا أو حبيبًا هناك؟ كثير منا وقفوا على هذا الرصيف الذي انفجر في وجه الأمة.
الآن كلما عبر مواطن من هذا المكان سوف يشعر بخوف؛ وكأنه وهو يعبر من هناك كمن يعبر حقل ألغام. وسيظل هذا الخوف جاثمًا على صدر أي عابر بمحطة مصر لأيام، ستطارده تلك الصور البشعة والتي انتشرت في دقائق على الموبايل. الألم أو التهديد هذه المرة مباشران، فعندما يحترق قطار في أسيوط لن أشعر كأهل أسيوط، لأنني لست في مرمى النيران، فأهل أسيوط ركبوا هذا القطار ورأوا أنفسهم موضع من كانوا هناك، أما أنا فكنت بعيدًا، لكن عندما تحترق محطة مصر فليس هناك أي بعيد، أغلب المصريين أو من عاشوا فيها سنين طوال لهم خبرة مباشرة وتاريخ به محطة مصر، وهم جميعًا في مرمي النيران، والمحطة في طريقهم حين تصبح حقل ألغام جديد يضاف إلى الكثير مما كومنا عبر أزمان. إن هذا الألم ألم أناني.
يمكن أن ندعي أننا نحاول كـأندرسون فهم ما قد يربط هذه الجموع، أنهم الجمع الذين يشعر أفراده أنهم معًا وجميعًا في مرمي النار، وما حدث قد يحدث لي أو لك، ربما تكون هربت منه بفضل المصادفة/الحظ، أو بعلم الاحتمالات، هل شعرت بالخوف كغيري بدافع الأنانية لا أكثر؟
لا تخف، سيظل قانون المصادفة أو علم الاحتمالات وفيًّا لك، ما دمت لا تسير في حقول ألغام، لا تركب عبارة ولا معدية ولا قطار غلابة ولا أتوبيس الشعب، فأنت تعيش داخل إطار مؤمَّن من العلاقات واللغة، وتعرف خريطة حقول الألغام في محيطك المختار، بعيدًا عن أخيك المسكين الذي يعبر يوميًّا عشرات من هذه الحقول. هذا هو غير المهتم، هل يجد الوقت ليرفع رأسه سامعًا لك أو لغيرك، إنه مشغول في عبوره اليومي إلى حقوله، وأحيانًا في تدبير القروش الواجب دفعها عند بوابات الرسوم لبعض الحقول، لكي تنظم الدولة وتضمن عملها.
للأسف في هذه المرة اتسع الحقل، أو ظهر حقل جديد، الحقل الآن قريب يا جحا، وضع نفسه في قلب القاهرة، هي محطة مصر التي حُرق رصيفها؛ شاهد المواطنون فيما يشبه البث الحي، ورأوا بأعينهم تلك الأرصفة التي وقفوا عليها يومًا، الأنفاق التي عبروها، يجري فيها مواطنون –أصابتهم لعنة الاحتمالات – مشتعلون فينجدهم أخوهم المواطن رفيق الحقل.
عندما مات كثير من الناس في شدة العادل “الملك العادل الأيوبي“، قام العادل بالتصدق بدفن بعض الموتى على نفقته وكفى، وقد ذكر التاريخ ذلك، وسيذكر أيضًا الثمانين ألف جنيه، ربما لا يذكر التاريخ أو لا يعرف حتى من حَرق، أو كان السبب في حريق محطة مصر، فهو لم يعرف من حرق مصر “القاهرة” من قبل، ولكن الأكيد أن الذي حرق هو الإهمال والطرمخة والفساد، يبدو أن هذا قدر الأماكن التي تتسع فيها الحقول وتنمو حتى تصبح في كل مكان والناس نيام!
تعليق لا بد منه
سكك حديد مصر، سبب حزن مصر، سبب حداد مصر.
من طول ما عذبت سكك حديد مصر المصريين، لجأوا إلى سخريتهم للانتقام من المرفق القديم الذي طالما قتل وأصاب منهم الكثير.
س ح م من أعلى السكك في الحوادث، ولا لوم لو قلنا من أسوء السكك في العالم كخدمة.
النكتة لا تغير من الأمر شيئًا، فلطالما استخدمناها في بلدنا حتى باخت. لما اصطدم قطار أسوان بقطار الإسكندرية في مقابلة وجـًه لوجه، قال أحدهم إن ماتش النهائي في حوادث القطارات سيقام عندما يقابل قطار المحلة قطار الإسماعيلية.
س ح م المشروع الذي ارتاب منه العزيز محمد علي “كما يسميه على باشا مبارك“، أقبل عليه الحاج عباس الخديو، ولسخريه القدر مات عباس، وافتتح سعيد أول السكة الجديدة، ولم تسلم الأسرة العلوية من س ح م؛ فكان أول قتيل شهير للسكة منهم، حفيد العزيز، الأمير أحمد رفعت ابن إبراهيم ابن محمد علي.
بدأ مشروع س ح م برأس مال إنجليزي، نظير الأدوات والمعدات، ونصيب مصر أن تتحمل العمالة، وعندما تقرأ كلمة عمالة في عام 1854 فاجعلها سخرة، 24 ألف عامل “مُسخَّر” أغلبهم كما تقول أكثر المصادر من صعيد مصر، جُلبوا قسرًا من قراهم البعيدة ليمدوا أول خطوط س ح م، في خدمة الرأسمالية الجديدة والإمبراطورية الإنجليزية وطبقه المحتكرين وأصحاب الامتيازات الجدد، في مصر الحديثة تحت سعيدها الخديو المتحمس للأسواق المفتوحة.
الخطوط الأولى للبضائع من قلب الدلتا إلى الإسكندرية وبورسعيد، تنقل قطن الدلتا المعدمة إلى مصانع الإنجليز في العالم الآخر، يقل دورها قليلًا بعد فتح قناة السويس، فيدخلها الفلاحون “المصريون” شيئًا فشيئًا، هكذا بدأت خطوط السكة مع المصريين، بالمرار.
عن القطارات، أسأل نفسي، لماذا لا أجد بمعرفتي المتوسطة للأدب الشعبي، أي أغنية، موال، دور أو حتى مثل شعبي فيما يسمي تراثنا الشعبي إلا القليل جدًا والحزين.
السكة الحديد وصلت إلينا مع بداية ما يسمى تحديث مصر، والسكة على حق كانت وما تزال أهم العلامات على مدى تحديث أي مجتمع، ينضم إليها صغارها المترو والترمواي، وتعد محطات القطارات بأنواعها في القلب من هذه العلامات أو الشواهد على هذا التحديث.
مع المصريين/الفلاحين، هبطت عليهم المحطات، معابد جديدة لعبادة الحداثة الجديدة، زرعت بجوار معابدهم التي بُنيت في بنادرهم وقراهم الكبيرة، على مر التاريخ. مع القطارات جاءت الساعة…. التوقيت الإفرنجي، الزمن الجديد.
لا أعرف أكانت مصادفة، أو تخطيطًا أو إيهامًا شخصيًّا، أن أجد الميدان الأشهر في كثير من بنادر مصر، هو ميدان الساعة، بعد ميدان المحطة بالطبع. وميدان المحطة هذا جلب معه لوكاندة المحطة، ومطعم المحطة، وأحيانًا البار، وربما فيما مضي بيت الدعارة، وبين الميدانين الحي الإفرنجي بعماراته الحديثة على الطرز الأوربية، وقصور صغيرة لطبقه الملاك الجدد، والموظفين الكبار، والخواجات مديري الفابريقات الجديدة، والمرابين اليونانيين والطليان، والتجار الخواجات؛ كل هؤلاء وتابعيهم. وحوله حزام آخر مكوَّن من الكنائس الجديدة، ومدراسها ومدراس الدولة متجاورة مع مشغليها. كانت هذه الشوارع الجميلة، أو ما تبقى من أطلالها حتى زمان صباي، مثار إعجابي الذي قل لما صدمته معرفتي بكتابين من التاريخ، فقد عرفت أن هذه الأحياء كانت محرمة على الفلاحين أجدادي؛ الدولة تحرسها وتحميها من الحفاة.
لا نستطيع أن نقطع كيف استقبل المصريون السكك الحديد، ولوازمها التي هبطت معها، يمكن مع قليل من التحيز أن نستخدم لحظة من تاريخنا القريب، لحظة أن هاج المصريون في وجه السلطة الحاكمة في مصر. العوام في وقتها أسموها هوجة سعد، ونعرفها نحن خريجي المدراس بثوره 19.
المشهد الغالب المتكرر تقريبًا في كل بر مصر للثورة كان قطع السكة الحديد، أغلب المصادر توثق ما حدث، ويصفه أحد الضباط الإنجليز في أحد التقارير “دُمر كثير من المحطات، وخُلِّعت القضبان ونُهبت محطات السكة الحديد وأُحرقت، وأُحرقت القطارات ونُهبت المخازن“.
ردت الإدارة المحتلّة “الاعدام رميًّا بالرصاص لكل من يقطع السكة الحديد“، لم يرتدع المصريون، فأصدرت القيادة العامة للمحتل قرارًا جديدًا “كل حادث جديد من حوادث تدمير السكة الحديد يعاقب عليه بإحراق القرية التي هي أقرب من غيرها إلى مكان التدمير، وهذا إنذار أخير “. والكثير يذكره عبد الرحمن الرافعي.
محافظة الجيزة، عيدها القومي يوم الثلاثين من مارس كل عام، ذكرى شهداء قرية الشوبك، واحد وعشرين اسمًا مكتوبين بمداد أسود على رخام أبيض، معلق في حوش المحافظة الكائنة بشارع الهرم، شهداء قتلهم المحتل وأعوانه انتقامًا لقطع السكة الحديد بين الشوبك والعياط.
مع الانتقامات والإعدامات وحرق القرى، قررت القيادة الإنجليزية فرض غرامات قدرها “2194963 جنيهًا مصريًّا” على المناطق التي وقعت بها حوادث تدمير المحطات والمباني الحكومية، على أن يدفعها الآهلون وتورَّد إلى خزينة المحتل؛ هذا أيام المحتل.
في أيامنا هذي ما يزال بعض العوام يسمون القطار الغول والعفريت، فالقطارات وساحاتها مكان للشياطين وأوكار المجرمين؛ قطارات الغلابة على الأخص كانت وما تزال ملعبًا مفتوحًا للبلطجة والتحرش وعصابات البائعين الجوالين، ناهيك بعدم آدميتها وحوادثها اليومية.
في القلب من كل هذا، يظل قطار الصعيد بسبب طول رحلته، هو أبو الساحات وصاحب النصيب الأكبر في هذا الشقاء، صاحب النصيب الأكبر في أدبنا المكتوب والمغنى، صاحب الهم وزعيم المكلومين من س ح م.
الدم مش واحد… والعرق مش واحد… والرأي مش واحد… إلا في قطر الصعيد
لو أصبح على صدرك هم… على بعضي ما أقدرش اتلم… وأنا بنقل في بضايع دم… أنا قطر الصعيد.
هكذا يرى فؤاد حداد في قصيدته حته من قطر الصعيد.