كانت زيارة فيروز الأولى مع الأخوين رحباني لمصر في فبراير1955؛ بالتحديد بعد ثلاثة أسابيع من زواج فيروز وعاصي الرحباني… والحقيقة أن تاريخ الدعوة التي وجَّهتها إذاعة صوت العرب لفيروز والأخوين للقدوم إلى مصر كان يسبق 23 يناير 1955، وهو تاريخ زفاف فيروز وعاصي.. وعندما وجَّهت صوت العرب الدعوة إلى الثلاثي اضطُر عاصي إلى التعجيل بالزواج –وهو ما كان سيتم على أي حال– إذ لم يكن من المعقول أو المقبول للآنسة الشابّة الخجول المحافظة فيروز أن تقبل بالسفر إلى القاهرة، وتمكث طول هذه المدة (ستة أشهر) دون أن يكون هناك رباط رسمي بينها وبين عاصي الرحباني..
يقول الإذاعي أحمد سعيد، رئيس إذاعة صوت العرب وقتها، إنهم وجَّهوا الدعوة للأخوين وفيروز وانتظروا أن يتم الزواج حتى تتمكن فيروز من المجيء، وهو ما سبب حالة من الترقب في الصحف المصرية…
بعد الزيارة الأولى، عاد الأخوان وفيروز إلى بيتهم في أنطلياس، وجرت مياه كثيرة تحت الجسور؛ وضعت فيروز مولودها الأول زياد في مستهلّ 1956؛ كانت قد حبلت به في القاهرة… وكانت فكرة إعادة توزيع بعض ألحان الشيخ سيد درويش قد ترسخت لدى الأخوين في أثناء وجودهما في القاهرة، فقدما مع فيروز “زوروني كل سنة مرة“ و“طلعت يا محلا نورها“ و“الحلوة دي“ في عام 1957..
فيروز ظهرت على المسرح، وصارت نجمة مهرجانات بعلبك (بدءًا من عام 1957) ثم نجمة معرض دمشق الدولي (بدءًا من عام 1959)… وفي مطلع عام 1960 أسس الأخوان رحباني مع المخرج صبري الشريف الفرقة الشعبية اللبنانية.. وفي الوقت نفسه تأسست فرقة فلكلورية أخرى هي فرقة الأنوار، كانت المنافسة مشتعلة بين فرقتي الرقص الشعبي.. طارت الأنوار تقدم عروضها في قبرص ثم مصر.. فطارت الفرقة الشعبية وبطلتها فيروز إلى أمريكا الجنوبية (البرازيل والأرجنتين 1961) ثم لندن 1962..
وأخيرًا في 1961 تم التعاون بين محمد عبد الوهاب وفيروز، فأعاد الأخوان توزيع “يا جارة الوادي“ و“خايف أقول اللي في قلبي“، ولحَّن عبد الوهاب لفيروز أغنية جديدة من كلمات الأخوين وتوزيعهما هي “سهار“…
ولم يتسع الوقت لتسجيل أغنية “مريت على بيت الحبايب” لعبد الوهاب بصوت فيروز، وتراجع الأخوان عن تقديم أغنية “ضو القناديل” من كلمات عاصي بصوت فيروز ولحن عبد الوهاب، فأُجلت، لتذهب في النهاية إلى عبد الحليم حافظ في العام 1963 بعد تعديل كلمات الأغنية للهجة المصرية لتصبح “ضي القناديل“..
في الأجواء نفسها والتوقيت نفسه– أجواء ألحان عبد الوهاب لفيروز 1961- سجَّلت فيروز أغنية “شط اسكندرية” من كلمات ولحن الأخوين، النابعة من ذكرى رحلة مصر 1955، حيث زار الثلاثي الإسكندرية بترتيب الإذاعة المصرية..
في العام 1962 ظهرت فيروز للمرة الأولى على شاشة تليفزيون لبنان والمشرق، فقدمت أوبريت “حكاية الإسوارة“.. واستمر ظهور فيروز على الشاشة في الأعوام 1963 و1964 في الأعياد والمناسبات..
بحلول 1965 كان المسرح الغنائي الرحباني قد تطور تطورًا كبيرًا.. وأهم ملامح هذا التطور هو اعتماد الأخوين في مسرحهما على “التيمة الموسيقية” وتطوير وتطويع الحوار الغنائي، الذي عزَّز الدراما ووحدة الموضوع في المسرحية.. بدءًا من “الليل القنديل” 1963 حيث صاحبت تيمة مُعذَّبة مثقلة بالألم شخصية “هولو” قاطع الطريق.. مرورًا ببياع الخواتم 1964 وتيمة مخصوصة للشاويش البلدي تُعزَف مع كل دخول له، سريعة فكاهية تناسب منصبه المتواضع، وطابعه المضحك الذي رسمه الأخوان.. وتيمة قوية منذرة بالشر تنبهنا لوصول الإقطاعي فهد العابور ورجاله في “دواليب الهوا” 1965..
في 1965 يقرر الأخوان رحباني أن تدخل فيروز عالم السينما، ويتصلا بالمخرج المصري “يوسف شاهين” الموجود في لبنان آنذاك، ويعرض عليه الأخوان فكرة فيلم “سفر برلك” ولكنه يعتذر عنه لعدم إلمامه بالمرحلة التاريخية وطبيعة الشخصية اللبنانية.. في المقابل يتحمس يوسف شاهين ويرشح للأخوين تحويل مسرحيتهما الغنائية “بياع الخواتم” إلى فيلم سينمائي، تمامًا كما قٌدِّمَت على خشبة المسرح.. يوسف شاهين الذي يستهويه اللون الغنائي الاستعراضي، كان قد شاهد في الفترة نفسها الفيلم الفرنسي الرقيق (مظلات شيربورج Les Parapluies de Cherbourg) وأُعجِب بكمية الألون الموجودة في الفيلم، فقرر نقل تلك الألوان إلى بياع الخواتم، وأرسل مهندس الديكور ومساعديه لمشاهدة الفيلم في السينما نحو خمس مرات، ليلونوا له كل ركن وحائط وباب وشباك في الفيلم.. وصوِّر الفيلم وعُرضَ في أواخر 1965 في المهرجان السينمائي الدولي في لبنان..
طول تلك المدة من 1955 وحتى وسط 1966 لم تزر فيروز مصر مرة ثانية، وعلى الرغم من النجاح المتزايد واللافت الذي حققته فيروز مع فن الأخوين رحباني، إلا أن الإذاعة المصرية بدأت في التقليل من بث أغاني فيروز، حتى كادت تنعدم.. وفي الأوساط المصرية واللبنانية بدأت تنتشر همسات أن أغاني فيروز ممنوعة في مصر، وحين وصلت تلك الهمسات إلى حد التصريح في الصحافة، قدَّم أمين هويدي، وزير الإرشاد القومي، في مايو 1966 دعوة رسمية إلى فيروز والأخوين رحباني لزيارة الجمهورية العربية المتحدة.
وفي منتصف أكتوبر 1966 وصلت إلى مصر فيروز، وهي نجمة للإذاعة والمسرح والتليفزيون والسينما، وذلك بعد 11 عامًا من زيارتها الأولى..