في يوم 29 يناير 2011، وبعد جمعة الغضب بساعات قليلة، اتصل حسين سالم بمبارك يستأذنه في السفر. فوجده هادئًا، وصوته مستقر، وهو يؤكد: اطمئنوا… كل شيء على ما يرام… تسافروا وترجعوا بالسلامة“… التقط الثعلب المحنك في الهواء رائحة أخرى غير التي تعودها طول 30 سنة، فصحب عائلته، وحقائب قيل في الأساطير إن بها مليار ونصف المليار دولار (وقيلت أرقام أخرى أقل)، وسافر بطائرته الخاصة إلى دبي، وفي رواية أخرى إلى كندا…
إنه أقدم “محمية سياسية” وأكثر الشخصيات غموضًا في سنوات حكم مبارك. ويمكن أن نمعن في الوصف أيضًا؛ ونذهب إلى أن حسين سالم هو التجسيد الحي لما يمكن تسميته “خلطة” مبارك في الحكم، لم يخترعها، فقد سبقه السادات وعبد الناصر إلى “اختراع” ظل يعمل في الخفاء، ويقوم بالمهام الغامضة، ويتضخم نفوذه إلى درجة تبتلعه هو شخصيًّا، هذه النماذج التراجيدية مثيرة في تاريخ حكم الضباط، ومن قبلهم الملوك، ولعل أشهرهم وأكثرهم تجسيدًا لمعنى الغموض العاشق هو أشرف مروان، الذي لم نعرف قصته حتى الآن بكامل ما فيها من تعقيدات وتشابكات بين الحرب والسلام مع إسرائيل، وبين الخفاء والعلن مع العدو، وبين الوطنية والبزنس .
رجال الخفاء يثيرون مشاعر متناقضة كما حدث مع أشرف مروان؛ الذي نال “جنازة رسمية” حضرها جمال مبارك ونعي من مبارك الأب رئيس الدولة، بينما تتكشف كل يوم رواية عن خروجه عن خط العميل المزدوج، بالضبط كما تكرر الأمر مع حسين سالم؛ المُخلص لموقعه في الظل، ولثروته، ولعالمه الذي نما فيه، ولقدرته على الإفلات، بل إنه وتجسيدًا لخصوصية مباركية شعر إنه “ضحية” واختار الإخوان المسلمين في موضع صانع المؤامرة، وانتظر أن يكرَّم في 30 يونيو 2013، حين سقط حكم الإخوان العابر.
لا يعني هذا أن في شخصية حسين سالم شعور كامن بالكاريزما التي كانت لدى أشرف مروان، ولا أنه ينظر إلى نفسه باعتباره مغامرًا سوبر مان، لكنه مثل موظف ممعن في الإيمان بالبيروقراطية كنمط حياة سيدها مبارك، هذا الموظف شهد النقلة المستريحة الآمنة للموظف الشاطر، واعتبر عالمه مستمرًا وخالدًا ما دام “الرجل المحترم“، كما كان يصف مبارك مستمرًا، هو أو ملامح عالمه السعيد بصعود “الموظفين” إلى عالم المليارديرات القادرين بكل أريحية على تستيف الأوراق. لكن العالم المنسجم لمبارك انهار بالفعل… وكل غادر موقعه إلى حيث المجهول. وفي هذه اللحظات المربكة لم يجد حسين سالم سوى الحزن الهاجع على الرغم من القصور والملايين التي بقيت له بعد التنازل عن مايصفه هو “أكثر من نصف” ثروته. لكن ثروته مثل لعنة، التصقت بصاحبها ولن تغادر سيرتها رغم كل محاولته في ترميم هذه السيرة بالإصرار على عودته إلى القاهرة.
وبينهما شرم الشيخ
1
هرب مبارك قبل إعلان التنحي إلى شرم الشيخ ؛عاصمته الخلفية. اختار منفاه داخل مصر وخارجها في الوقت نفسه. إنها شرم الشيخ؛ مدينة لم يفكر سكانها القلائل يومًا قبل تلك السنوات الأولى من ثمانينيات القرن العشرين في أنها ستتحول إلى دولة خلفية… منتجع للرئاسة… وبقعة اقتطعها مبارك من الخريطة المصرية، وبنى حولها أسوارًا أمنية عالية، لتصبح أمام العالم هي “مصر“. مدينة مصنوعة بالكامل، محروسة بقوات أمن جبارة، لا يفهم معظمهم لماذا يحمون هنا الحرية التي يحاصروها ويقتلونها في القاهرة؟
هرب البطريرك الطاعن في العمر من القاهرة، بعد أن فقد قدرته على التحكم، دخل دائرة عدم السيطرة، والقيادة عن بعد. بدا مبارك شاردًا أغلب أوقات الأزمة، يرد على التليفونات الواردة من الخارج بإجابة مطمئنة “كل
شيء تحت السيطرة“. لم يكن مبارك يسمع مساعديه في الأيام الاخيرة، وبالتأكيد لم يسمع هدير الملايين في تظاهرات كشفت عن “مجتمع مصري آخر” غير الذي تحوَّل في عصره إلى كائنات عدوانية تكاد تنفجر بالاحتكاك… هدير الملايين اختلط فيه الغضب بالفكاهة والسياسة بالروح المنجذبة إلى الحرية بقوة كسرت في ساعات قليلة، جيش حماية الديكتاتور المعزول في قصره.
لم يسمع مبارك أصوات الثورة، ولم ير وجوهًا اكتشفت نفسها يوم ثارت عليه وانتصرت يوم خرجت لتطالب بسقوط نظامه. هذه القوى الهشة تفجرت طاقتها بكل ما في العفوية من قدرات خارقة وخطر كامن… لم يكن مبارك يسمع، إلا أصوات داخله، تعيد عليه روايات وحكايات من محطات قديمة في التاريخ. فوجئ القريبون منه، أنه لا ينظر إليهم، ولا إلى الملفات التي يحملونها، يلتفت لهم ليروي حكايات عن انتصار السادات على خصومه من موظفي عبد الناصر (أسمتهم الصحافة مراكز القوى.. وأسمت انتصار السادات: ثورة تصحيح).. حكي أيضًا عن هزيمة يونيو 1967، وهي لحظة اكتشاف قدرات مبارك حيث أخفي سربًا كاملًا من الدفاع الجوي في السودان كي لا تضربه إسرائيل.
الإخفاء، سر قوته العسكرية؛ يطير تحت الرادار، هذه موهبته التي أكمل بها 30 سنة، تمساح يخفي دولته تحت الماء.. كما أخفى دولته على بعد أكثر من 500 كم من العاصمة الحقيقية: القاهرة.
وفي الخفاء؛ في شرم الشيخ، التقى مبارك بظله المرح: حسين سالم.
2
الدائرة المرسومة في مطار ألماظة كادت تبتلع مبارك كما لو كانت متاهة؛ خطا خارج سيارته الزرقاء، ليُحشر على سلم مروحية لونها كاكي (كما يسمون في مصر لون الملابس والمركبات العسكرية). مبارك أدرك بشكل ما أن هذه الدائرة آخر ما سيراه في القاهرة وهو رئيس، وأن عليه أن يحمل حقائبه وعائلته إلى حيث أخفى دولته. التمساح ترك في القاهرة مصاصي دماء يظهرون في الليل، ليمتصوا من دماء الثورة ويعيدوا رسم صورته بحبر سري مجرب في كل الثورات المضادة.
قصر مبارك على أطراف منتجع جولي فيل Jolie Ville؛ أول موقع انطلقت منه حركة بناء مدينة مساحتها 24 كم مربع، لكنها تصلح لتتحول إلى دولة خلفية، يجدد فيها مبارك الشيخ خلاياه، ويشعر معها أنه حاكم جمهورية خيالية، كل سكانها يلمعون، لا طلبات لهم إلا المتعة، يتداولون نميمة من نوع فاخر، مثل أنواع الاطعمة التي تصل ساخنة بالطائرات من باريس وسويسرا ولندن.
روت الصحافة الامريكية أساطير عن مطبخ مبارك في منفاه. القصر مفتوح على النميمة… والمشتريات لم تتغير؛ كافيار وشيكولاته سويسرية. هذا ما يحبه الرئيس الذي انشغل في أيامه الأخيرة بتجديد شبابه، وإخفاء سنوات عمره.
في الخطاب الأخير انشغل برابطة العنق ودقة صبغة الشعر؛ قرر التمساح أن يواجه شعبه في جولة لم يعرف، حتى وجد نفسه في شرم الشيخ أنها ستكون الأخيرة.
الإخفاء لعبته، واختراع خطوط موازية لكل الأبنية التقليدية في الدولة المصرية، إنه عصر الاقتصاد الموازي (السري) والسياسة الموازية (معارضته جماعة محظورة)، والمجتمع المنفلت من قيوده الحديدية (الزواج العرفي.. وما شابهه)، كل هذه الأشياء هي تجسيد لدولة مبارك الخلفية. هناك بدا سحر مبارك وموهبته؛ لا في تهريب سرب طيران، بل في تهريب دولة كاملة… قامت وعاشت تحت رعايته في شرم الشيخ… دولة هرب إليها بينما كانت أسواره تسقط عن القاهرة؛ العاصمة الثقيلة بجيوش البيروقراطية، وتركيبة سكانية وجغرافيا لم يقترب منها مبارك طوال 30 سنة إلا بالحصار وإطلاق جيوش موظفيه لامتصاص الشعب.
القاهرة ثقيلة، تبدو لمن يفهم أطلال مدينة. نهضة، لكنها تحت احتلال بلا خيال ولا ذوق. عاشت القاهرة في عصر مبارك تحت سطوة لحظة انحطاط ممتدة، يقودها تمساح لا يشعر بأهمية المدينة التي يحكمها، حاصرها، وحاصرها، ولم يفهم إلا اناقة المنتجعات، تركها ورحل، ليصنع مدينته ودولته، بضربة أولى من شريكه في الصفقات السرية.
مبارك بعد 25 يناير وصل إلى شرم الشيخ، لكن هذه المرة لم يكن من الممكن أن ينادي على حسين سالم.
3
حسين سالم أول هارب بعد الثورة.
قال مفسرًا “كان لديَّ موعد مع الطبيب في زيورخ“، وقالت الحكايات والوقائع إنها كانت عملية “إخلاء” عائلي كامل، وانتقال إلى بلده الثاني إسبانيا؛ التي يعمل بها ويقيم منذ 1983 (بعد مغادرته أمريكا، وفيها أسس شركة مقاولات اسمها ميلسم، كلفها المشير أبو غزالة ببناء مسكن لضباط الجيش)، وحصل على جنسيتها عام 2008 تقريبًا. وهي عادة من عادات الرجال الغامضين، إذ تتحرك الغريزة بالبحث عن بلد أخرى، تصلح لأن تكون ملاذًا في الأوقات الصعبة.
سأله المذيع “لماذا هربت؟ هروبك كان إشارة إلى مشاعر الخوف من المحاكمة“.
رد “أنا لم أهرب“.
أصر المذيع “لكنك هنا؛ في إسبانيا… ولم تعد إلى القاهرة لتواجه المحكمة“.
ابتسم حسين سالم وهو يقول “أنا إسباني“.
تكررت عبارة “أنا إسباني” عدة مرات سجلتها الكاميرات، أكثرها إثارة كانت حين طارده صحفي من قناة “الجزيرة” الإنجليزية، وهو يتمشى في ضاحيته الإسبانية، يومها ظل يدور في مكانه كما لو كان في مصيدة، يردد كلمات كأنها تعويذة “لن أرد عليك… سأطلب البوليس“، لم تتغير الجملة طول المطاردة، إلا حين سأله ولماذا لا تعود وتواجه الناس في مصر… فقالها كأنها خاتم البراءة “أنا إسباني“… وكان أكثر هدوءًا وعملية في قاعة المحاكمة بمدريد، حين ناقشت السلطات الإسبانية تسليمه لمصر معتمدة على أن جنسيته الإسبانية جنسية ثانية؛ لا يستعملها إلا للإقامة، فأكد “أنا إسباني“، لكن خاتم النجاة واجهته معلومات أنه على عكس أقواله يستخدم جواز سفره المصري، ومثبت أنه في الفترة السابقة على المحاكمة استخدمه 51 مرة.
وفي المحاكمة نفسها كان أحد أسباب اعتراض حسين سالم على تسليمه لمصر “أنه سيتعرض هناك لانتهاكات حقوق الإنسان… فهي محاكمة تتم تحت قانون الطوارئ“. وهذه براعة لغوية تجعل الرجل الذي عاش ظلَّا لرئيس له سجلات في انتهاكات حقوق الإنسان، ويصف مهامه السرية بأنها “أدوار وطنية” يستخدم اللغة ليعيد توصيف الحدث؛ فتراه يعترض على وصف “تضخم ثروته” بأنه “نمو، لا تضخم… هل تريدون أن يتوقف نمو الثروة… إذن ألغوا الاستثمار“. وعن تنازله عن أكثر من نصف ثروته في التسوية مع الحكومة المصرية، يعيد التوصيف مصححًا “إنها تبرعات… وليست تنازلاً… التنازل اعتراف بالإجرام وأنا لست مجرمًا“. هذه البراعة اللغوية ليست وليدة الأزمة، لكنها براعة تحديد الموقع في منظومة كاملة عمل بها، وأخلص لها، ولقوانينها السرية مدركًا الفارق بين العلن والخفاء، بين ما يتم في الغرف المعتمة، وما يقال في الشوارع وأمام الناس… هذه المنظومة ترى العالم من وجهة نظرها، وتتوحد مع طقوسها ومفاهيمها لتصبح براعتها وحنكتها وتألقها نتاجًا طبيعيًّا… أو هو “أصل الأشياء” والخارج عنها مؤامرة أو عدم فهم أو خديعة.وأبناء المنظومة طالما هم داخلها فإنهم يكتسبون صفات “سوبر“ فوق العادة ، تمنحهم المنظومة قوة خرافية ، بدونها هم أشخاص متواضعي الإمكانات والقدرات ،وموغلين في البؤس العادي.
حسين سالم لا ينظر لما فعله على أنه جرائم، لكنها “مهام وطنية“، بما في ذلك سيطرته على شرم الشيخ، أو صفقاته بين نقل السلاح وتصدير الغاز لإسرائيل، وما بينهما من تعاون اقتصادي خارج إطار تسمح به القوانين والأعراف والالتزامات المعلنة.
وهو نوع من الإيمان بالمنظومة إلى درجة التفاني والإخلاص، وإلى حدود ربط منفعته الشخصية بالوجود داخل المنظومة، وفي خدمة خلودها. وعلى الرغم من كل هذا التفاني في منظومة صبغها مبارك بصبغته، لم يفكر حسين سالم في الاتصال بـ“الرئيس المخلوع” بعد مكالمة الاستئذان؛ مبررًا ذلك تبريرًا عجيبًا “هو أنا ناقص؟!”.
تأسيس ``اللص الوطني``
1
لم يهبط من الطائرة… انتظر حتى ذهبت الوفود المنتظرة إلى الابن العائد من ولاية ميامي لحضور جنازة أبيه “الرئيس” المقتول. ثم ذهب إلى الرئيس الجديد/المنتظر وقال له “استلم…جمال أنور السادات في القاهرة“… وكانت هذه المرة الأولى التي يقابل فيها حسين سالم وجهًا لوجه حسني مبارك، الذي لعب لاحقًا دور ظله.
هذه مهمة لم تكن معروفة حتى حكاها حسين سالم في حوار تليفزيوني مع قناة دريم، مؤرخًا لبداية العلاقة المباشرة بينه وبين مبارك، والتي كانت محطة جديدة في الثقة، إذ طلب منه أشرف غربال سفير مصر في واشنطن وقتها، نقل جمال السادات على طائرته الخاصة لحضور جنازة أبيه، فلم يكن معروفًا “حدود المؤامرة التي قتل فيها الإخوان المسلمين الرئيس السادات“. استخدم حسين سالم اسم “الإخوان” باعتبارهم منفذي اغتيال السادات في المنصة يوم 6 أكتوبر 1981… الحكايات هنا تداخلت في لعبة من ألعاب الوعي، ليلمِّع صورته أمام جمهور يعتد بأنه مؤثر، وربما أغلبهم هم محيطه الاجتماعي، حيث ما زال يثير خيال البرجوازية المعلقة بين العالي والعادي… وقبل موته بقليل تتردد حكايات عن الفيلا التي اشتراها بـ62 مليون جنيه في منتجع على الطريق الصحراوي بين مصر والإسكندرية وتكلف تركيب الألوميتال فيها ثمن شقة فخمة في منتجع آخر.حدث هذا بينما كانت هذا المجال الإجتماعي يمصمص الشفاه بعد بكائيات حسين سالم وعائلته أمام الكاميرات.
أراد أو لم يقصد فالألعاب التي لعبها حسين سالم في الفصول الأخيرة من حياته، ستثبته أيقونة تشبه أيقونات العصر الملكي التي عاشت وترعرعت سيرتها بعد سقوط الملك، هذه الحكايات تغذي الطموح والنميمة الحاملة له. وتجعل ألف حسين سالم يحلمون بفرصة كالتي نالها موظف خريج كلية تجارة القاهرة شعبة محاسبة في السنة المشحونة 1956، في عز معارك دولة الضباط، لتأسيس قوتها في مواجهة الاستعمار (العدوان الثلاثي)، وتأسيسًا لدولة “التحرر الوطني“، التي كان من بينها دعم الصناعات الرئيسية.
حسين ابن عائلة من الطبقة الوسطى انتقلت من حلوان إلى مصر الجديدة. وجد وظيفة براتب كبير وقتها؛ 18 جنيهًا، في صندوق دعم صناعة الغزل والمنسوجات؛ وهي هيئة مستقلة أنشأت في عام 1953 ضمن محاولات تأسيس سيطرة للدولة على الاقتصاد بعد الملكية، وهذه كانت محطة الاكتشاف المبكر لمهارات حسين سالم، كما حكاها على حسابه الشخصي بكر هيكل المراقب العام لمجموعة شركات حسين سالم، وكان يبدو من سياقها أنها أقرب إلى الروايات الشفاهية التي يرسخ بها “الأب الروحي” (الأستاذ بكر نفسه يستخدم وصف العرَّاب لمديح حسين سالم) صورته في أذهان ومشاعر موظفيه. من بينها حكاية تأسيسية للموهبة التي وجدت الدولة فيها “رجلها” المناسب، كان ذلك حسب الرواية؛ حين تكدست المصانع المصرية بالأقمشة نتيجة الحرب العالمية الثانية وتعطل طرق التجارة، فتولى مهمة دعم تصدير المنسوجات المصرية لإنقاذ المصانع من الإفلاس؛ إذ كانت أهم صناعة مصرية حينذاك، ثم أوفد للخارج لتسويق المنتجات المصرية، وكان لا يتعدى 24 عامًا، ضمن وفد كبير يضم خيرة العقول النيرة وعباقرة الاقتصاد بتوجيهات الزعيم الخالد عبد الناصر لتأمين منابع النيل بمد أواصر العلاقات واتصالات مصر بكل الدول المحيطة بنهر النيل، وبالفعل سافر إلى شرق أفريقيا؛ الصومال ثم غانا ثم السودان، وعقد صفقات أقمشة بمليوني جنيه، ثم سافر إلى أمريكا، وعقد صفقة أقمشة بـ 4 ملايين جنيه لصالح الدولة المصرية… بعد الاكتشاف نُقل إلى منطقة أعلى في أدوات سيطرة الدولة الناصرية على الاقتصاد“، وما زلنا مع رواية تلميذ العراب؛ الذي يحكي عن التاريخ الفاصل في حياة حسين سالم، إذ نُقل إلى “المؤسسة الاقتصادية، فعمل تحت إدارة المرحوم فريق طيار حسن إبراهيم نائب رئيس الجمهورية، وسافر عبر الشركة العربية للتجارة الخارجية إلى موسكو ونجح أيضًا في بيع صفقه كبري من الأقمشة المصرية للاتحاد السوفيتي، وبقي في هذه الشركة الحكومية على درجته ذاتها، وزيادة مرتبه، إلى أن تقرر افتتاح المراكز التجارية لجمهورية مصر العربية الخارجية“.
تنقل حسين سالم، حسب الرواية نفسها بين المراكز التجارية، حيث يمتزج العمل التجاري بالعمل المخابراتي، وتتم الصفقات في التجارة مع إشراف فوقي من المخابرات، فتنقل بين الدار البيضاء والجزائر وأبي ظبي والعراق التي عمل بها حتى سنة 1967. وهنا تاريخ حاسم يرويه حسين سالم بنفسه، حين يعلن بوضوح في برنامج تليفزيوني “عملت بالمخابرات منذ سبتمبر 1967″.
2
دخول حسين سالم إلى المخابرات أو انتقاله من “الهامش” إلى “المركز” كان في لحظة حاسمة؛ بعد شهور قليلة من هزيمة يونيو، وفي قلب محاكمات معروفة إعلامية بـ“انحراف جهاز المخابرات“. وقد شارك حسين سالم بنفسه في التحقيق مع 4 من ضباط المخابرات بتهمة الفساد الإداري؛ وبتكليف من عبد الناصر (علامة ثقة)، وحسب روايته كتب تقريرًا رُفع إلى حسين الشافعي، نائب رئيس الجمهورية ورئيس المحكمة، تفيد بأن “المشكلة في تكليف ضباط بإدارة شركات تجارية… وهو ليس من اختصاصهم“.
تسقط فترة طويلة دون روايات، حتى تظهر حكايات حسين سالم في أمريكا، والتي كانت جسر الثقة مع مبارك، زمنه السعيد. هنا نعود إلى مهمته بتوصيل جمال السادات من ميامي إلى القاهرة بطائرته الخاصة، وقراره بأن يظل “مستخبي” حتى تغادر الوفود كي لا “ياخد بُنط“، وهذا ليس فقط محبة في الغموض، بل تكنيك الاختباء، الذي مارسه في قضية شهيرة أخرى تضاربت حولها الروايات والتفاصيل، وعنوانها “الأجنحة البيضاء“… يحكي حسين سالم بفخر عن دوره في شحن الأسلحة الأمريكية لمصر بتكليف من الفريق كمال حسن علي، وكان رئيسًا للوزراء، بعد مشوار كان فيه رئيس المخابرات، ثم وزير الدفاع وبعدها وزير الخارجية، وأن التكليف تم “حسب قرار من لجان رسمية” وذلك لتوفير نفقات شحن الأسلحة من أمريكا (بعد كامب ديفيد)؛ لأن الشركات الأمريكية “حرامية” وتحصل على 26.8٪ من ثمن صفقة السلاح، وكان رد الشاطر حسين سالم “دي لو كانت النسبة 8٪ تبقى ثروة كبيرة، واللي ياخدها يعمل فلوس تغنيه طول العمر“. الاتفاق تم بعد مفاوضات طويلة وصلت بالنسبة إلى ما يزيد قليلًا عن 6٪. هذه هي رواية ترى عن دور شركة كان العضو الظاهر فيها هو حسين سالم.
الشركة تأسست في جنيف بعد كامب ديفيد 1979 باسم “ترسام” ثم تغيَّر الاسم إلى “أتيسيكو” حين انتقل التأسيس إلى فيرجينيا 1981، بينما اتخذت اسمها الشهير “الأجنحة البيضاء” مع انتقال أوراقها إلى جزر البهاما .ولا بد من الإشارة هنا إلى أن حسين سالم وصل إلى أمريكا ليرأس المجموعة الاقتصادية المصرية في الأمم المتحدة، خلفًا للدكتور إبراهيم عويس أستاذ الاقتصاد بجامعتي جورج تاون وهارفرد… ولم يكن معروفًا على نطاق واسع، وحين تساءل الوسط الديبلوماسي المصري عن سر الشخصية الغامضة؛ كانت الإجابة حاسمة “مخابرات“.
هل هذا يعني أن الأجنحة البيضاء تشكَّلت وحسين سالم في مهمة ديبلوماسية؟ أم أن الشركة ذراع سرية “محل ثقة” وفي الوقت نفسه مصدر ثروة لأصحاب نصيبها… هؤلاء الذين كانوا محل استجواب برلماني قدمه في 1988 النائب علوي حافظ؛ عن المظروف الأصفر الذي أرسلته وزارة العدل الأمريكية إلى نظيرتها المصرية، بشأن شخصيات مهمة شاركت حسين سالم في الشركة المتهمة بالتلاعب في القروض العسكرية، وغرمتها المحكمة 3 ملايين دولار. الاستجواب كان مشفوعًا بالأسماء، التي استخدمت الصحافة المعارضة وقتها الاسم الكودي “عصابة الأربعة“، قبل أن يفتح الملف بعدها بسنوات، ويتسرب أن هذه الأسماء تتضمن المشير أبو غزالة، ومنير ثابت (شقيق سوزان مبارك وكان وقتها نائب الملحق العسكري في واشنطن)، وحسني مبارك نفسه. حذف الأسماء من الاستجواب كان شرطًا إتمامه، لكن بقي اسم حسين سالم وحده يصعد مع الكشف عن الشركة، وكأنها كانت درجة في سلم الترقية. وقد حكي بنفسه حكاية الشركة، ولم يعتبر نفسه “غطاءً” للشخصيات المختفية، واصفًا القضية بأنها “مؤامرة من الشركات الأمريكية” في مواجهة محاولة توفير نفقات شحن الأسلحة… هنا لا تساند حسين سالم البراعة اللغوية فقط، ولكن النظرة للعالم… فهو ابن هذا العالم الدفين، المشحون بالأسرار، والتوصيفات كلها نابعة منه، يحذف منها المنطق والقانون وكل ما هو متفق عليه، وفي المقابل فإن مفاهيم المنظومة تدر أرباحًا لا حدود لها على المنتمين إليها… وبالنسبة لهم فإن هذا ما يمكن تسميته بالصفقة العادلة.
3
الاختباء أو ممارسة الأدوار في الظلام/الخفاء/المنطقة البعيدة عن الضوء هو سر “وجود” حسين سالم، وليس فقط أنه “محل ثقة ومنجز وموش طماع” كما وصف نفسه، مبررًا إسناد المهام الخاصة إليه، حاكيًا أمام الكاميرات عن “طبيعة” العلاقة مع مبارك. وغالبًا لم يقصد وقتها أن يكشف عن طبيعة مشتركة بينهما وهي: محبة الاختباء. ومن هذا الاختباء استمد نفوذه، فلم يكن لسنوات طويلة من الممكن أن يذكر اسمه مباشرة، يشار إليه بصديق الرئيس أو الرجل الغامض… تكونت محميته في الخفاء “بعيدًا عن الأضواء” إلى حد كبير. لعب في البزنس على استحياء. لأن الجمع بين السلطة والبزنس كان ضد القانون، وضد أعراف الدولة الشفافة. لكن مع وصول مبارك للحكم تفككت الحواجز بالتدريج بين السلطة والبزنس. وبدأت برجل في الظل يعمل باسم الرئيس في السلطة. وهذه كانت لحظة ولادة المحميات السياسية. النظام يريد أن يقول للعالم إنه ودع الاشتراكية بغير رجعة، وإنه يفتح الأبواب أمام القطاع الخاص. وفي الوقت نفسه لا يريد أن تنفلت الثروة بعيدًا عن سيطرته. وتقرر أن تتم التقسيمة على “أهل ثقة” من اختيار النظام.
كان هؤلاء الجيل الأول من الديناصورات الذين كبروا وسمنوا في رعاية “الدولة” وتحت جناحها. لم يشكلوا طبقة رأسمالية وطنية تنمو وينمو بها اقتصاد الدولة. لكنهم ظلوا في حدود مزرعة الديناصورات التي تديرها الدولة بالكامل. تضخمت الثروات بقوة الصاروخ. وتحرك الاقتصاد بسرعة السلحفاة. الهدف لم يكن النمو؛ بل توزيع الثروة بشكل يضمن سيطرة النظام عليها. ورجال الأعمال الذين وصلوا إلى المليار لم يصلو لأنهم بنوا بنية صناعية حقيقية لكن لأنهم دخلوا في إطار محمياته.
هذه المحميات ليس لها استقلالية عن النظام. تعمل بأوامره وتتحرك في حدود رغباته. وتتضخم ثرواتها مادامت تدفع النسبة المعروفة لكل من تعدت مشاريعه رقم معين يسمى بلغة البزنس السرية: المنطقة الحمراء. ستدفع النسبة وإلا لن يمر المشروع، وستخرج عليك وحوش البيروقراطية لتذكرك أننا في دولة مش “سايبة“. المحميات تتغير لها القوانين وتمارس نشاطها فوق القانون، بل تشعر بعد فترة أنها القانون. لكنها لا تستطيع الاستمتاع بهذه القوة بشكل مطلق. وتعيش في الخطر. فالغضب ممكن في أي لحظة وعلى أهون سبب. ولن يعرف صاحب المحمية متي وأين؟ لكنه شعور بالخطر يجعله مندفعًا في التكويش.
من هذه التصورات وبالعمل في الظل ولدت محمية حسين سالم، وسط خرافات جعلت منه زميل مبارك في سلاح الطيران؛ في أحد الحوارات ردد جملة غامضة “أعرف الرئيس مبارك عن بعد من زمن… فقد تزاملنا في حرب الاستنزاف“. وتخصبت الخرافات بغموض تحول مبارك من الرئيس المتقشف (يرتدي بدل المحلة) إلى مظهر مليونيرات أوائل الألفية الثالثة؛ فقيل إن حسين سالم أول مدير لأموال مبارك في السر… الأسرار والخرافات صنعت أكثر من نصف نفوذ حسين سالم؛ الذي يعتبر وبالفعل قائد بناة شرم الشيخ، بناها بشكل حقيقي وبشعور المحتكر الأول حتى اتسعت، وفكت الدولة وظلها في البزنس قبضتها قليلاً لتسمح بدخول آخرين. واضطر حسين سالم للقبول بمشاركة الآخرين “دولته” التي بناها بثقة الجهات العليا. الثقة الممنوحة لحسين سالم تجعله يعمل في الملفات السرية لدولة مبارك.
محمية حسين سالم لها ملمح قديم هو الكتمان والسرية. تخرج أسرارها محاطة بهيبة ورعب… وذلك من قبل أن تتعدد المحميات ومن يحمونها في شرم الشيخ.
كانت نشاطات حسين سالم أقرب إلى التكليفات الغامضة: شراكة مع إسرائيل في شركة بترول. أو تصدير الغاز لإسرائيل. وهي مهام بدأت بالتقارب بين مبارك وإسحق رابين (قابله حسين سالم) ورشح له الشريك الإسرائيلي… وكان عنوان التكليف كما قال حسين سالم: الاستفادة من القوة الاقتصادية لإسرائيل في العالم.
وغالبا لم يكن مفتاح حسين سالم عند مبارك، ولكن عند شخص آخر هو عمر سليمان، والعلاقة بينهما اكتسبت قوة بالمساحة التي أتاحها عمل عبد الحميد حمدي؛ ابن الشهيد أحمد حمدي وزوج إبنة عمر سليمان.
من إذن كان يعلم بنشاط حسين سالم؟
سأله المذيع، فأجاب
*المخابرات.
– وهل كانوا على علم بالصفقات والشخصيات التي تقابلها؟
* لا أستقبل أحدا إلا بعد الاستئذان… وبعد المقابلة أقدم تقريرًا تفصيليًّا؛ أي من نوع قال لي… وقلت له
– تستأذن ممن؟
*الجهاز.
بثبات
هؤلاء الغامضين وعالمهم الحزين
1
متغطرس…
هكذا وصفت المحققة الإسبانية حسين سالم؛ بعد أن شاهدته يدخل المحكمة على كرسي متحرك، وعلى وجهة علامات التعب والإرهاق والانكسار، لكن غطرسته انفجرت عندما بدأت تضيق الخناق عليه بشأن علاقته بمصر وقضية غسيل الأموال التي قضى بسببها 6 أشهر في سجون مدريد.
لماذا كان يشعر حسين سالم في أيامه الأخيرة بالظلم والمرارة؟ بالطبع هناك تأثير لفقدانه النفخة الجبارة التي تعامل بها بسنوات على إنه “إمبراطور” شرم الشيخ، حين تماهت داخل نفسه الأدوار والمواقع ليستدعي كل ما لدى التاريخ البشري من عنجهية أنصاف الآلهة…
لم يكن مفهومًا الهدف من حكايات حسين سالم في حواراته الصحفية والتليفزيونية الأخيرة عن الفقر والبيت الصغير الذي يعيش فيه هو وأولاده… لكنها عمومًا كانت مدعاة لتأمل كيف أصبح عالمه حزين دراميًّا؛ فالإمبراطور الذي لم يكن يذهب إلى الرئيس، لكنه فقط يلبي النداء حين يطلبه… يسمع التعليمات، ويمارس –حسب روايته – دور أقرب إلي النديم الذي يحكي له حكايات من التاريخ عن محمد علي والخديو إسماعيل وسعد زغلول وعرابي، ولا يتكلم معه في السياسة أبدًا،لم تكن علاقة صداقة أو قرب غالباً ، لكنها موهبة لدى حسين سالم في صنع عالم موازي…فانتازيا من الهدايا إلي الحفلات إلي تشبيك علاقات مع أصحاب الثروات من أمراء في الخليج إلى ملوك في البيزنس…كل شيء مباح مادام “ في مصلحة البلد …ومن أجل البيزنس….”
لكن صانع الفانتازيا لم يعد يجد من يسمعه، أو يقدر على إعادته إلى مصر دون عناء، أو يضمن له الحياة المعززة على الرغم من أنه تنازل عن أكثر من نصف ثروته ، حسب تقديراته المعلنة في طلباته للدولة .وهي تقديرات لم تكن مقنعة بالنسبة لعدة أطراف…حتى من الذين طالتهم سعادة غامرة من الوجود ضمن العالم الفانتازي لحسين سالم.
2
وسيظل السؤال النائم، قيل أو أُنكر “ومن أين أتيت بثروتك أصلًا؟ وما الأدوار الوطنية (لو كانت هذه هي الوطنية فعلًا) التي تحول شخص إلى ملياردير عابر للجنسيات؟“..
حسين سالم أحد الذين اجتاحهم فيض الدول التي ابتلعتها أجهزتها ابتلاعًا حقيقيًّا يشمل الثروات والمعاني والرابطة التي تجمع الناس الذين يعيشون على هذه الأرض… الثروة التي أغرقت حسين سالم، ومشاعره الوطنية الجارفة هي التي جعلته يتصور أن هذه المافيا هي “الوطن“، وهو نوع من التماهي له دائمًا نهايات حزينة، إن لم تكن مأساوية… كما رأينا في قصة حزينة أخرى بطلها صلاح نصر مدير المخابرات المرعب أيام عبد الناصر، الذي انتهت حياته في زنزانة يتسلى جيرانه فيها بحكاياته البائسة، واكتشافهم مكامن الضعف في شخصيته المضطربة، بعدما حوَّل الجهاز الجبار في عهده إلى “كباريه سياسي” يبتز فيه الفنانات للعب أدوار “وطنية“.
هذه المفارقات طبعًا تثير انزعاج المثاليين، الذين يتوقفون عند القشور الأولى للتناقض بين أساليب العصابات الجنسية والمهام الوطنية.
وهذه قصة شرحها يطول… لكن ما يهمني هنا هو التماهي الذي يحدث في دول تبتلعها أجهزتها، بين الدولة وبين الشخص الموكلة إليه مهام من نوع خفي، ولا يخضع للقوانين… هذا التماهي يضمن نوعًا من الإفلات الكامل بالدولة إلى مسارات خارج “الجاذبية القانونية“، وهي تسمية مجازية ترى الدولة الحديثة تطورًا لفكرة العلاقة بين الناس والسلطة، لا يجعل السلطة استثنائية، ويتعامل مع الحاكم بمنطق مدير السلطة التنفيذية. التماهي يخلق نوعًا من الرجال الغامضين يكلفون بمهام يصفونها بالوطنية ثم يتهمون باللصوصية؛ وهو موديل لا وصف له سوى “اللص الوطني” هبة الديكتاتوريات ومفتاحها.
3
“اللص الوطني” توكل إليه مهام “كهنوتية” تتضخم بها أرصدته المالية، ويتحول حسب شطارته إلى “شريك” كلما كان “كمبرادور” ناجحًا في التوفيق بين خدمة الجالس على المقعد وبين توظيف هذه الخدمة في تكوين الثروة الشخصية.
هذا الموديل مثل أغنياء الحرب، يبنون مواقعهم المالية من خرابها، وفي حالتنا العربية تتضخم ثرواتهم كلما التهم الحاكم الدولة، ومعها القدرة على عبور ممر الأمات الدائمة أو الخروج من عقيدة “الحاكم الإله” والشعب الرعية.
هذا اللص الوطني ربيب الدول التي بنت عقيدتها على “حكم الأقلية المخلصة” لإنقاذ “الشعب المتخلف“، هذه العقيدة أفضت إلى مآسٍ كاملة في بلدان مثل سوريا والعراق وليبيا؛ حيث تآكلت الدولة بفعل فساد “أنبياء” إنقاذ الشعب من تخلفه… العقيدة التي طالما بررت الاستبداد (هذه شعوب لا تحب الديموقراطية) والفساد (هناك نوع من اللصوص يبدؤون تاريخهم اللصوصي بمهمة وطنية)، والسذج وحدهم سيسألون ذلك الكاهن المباركي، بعينه نصف المغلقة، عن تعريف للظلم، وللفقر، بل وعن تعريف للوطنية؛ فقد كان حسين سالم “وسيط” بيع الغاز إلى إسرائيل التي تحسبها الدولة وعقيدتها عدوًا… لكنه كان ينفذ أوامر “الجهاز..” ..نفسه الذي يمكن أن يرفع حمايته عنه فيصبح مجرماً؛مطارداً من جموع تستفزها الثروات الضخمة ؛ ويحتاجون كل فترة “كبش فداء ..” يلتهمونه وينزلون عليه اللعنات…لا تفتقد المنومة أحداً، ولا تصيبها عواطف الرثاء ، تترك كهنتها الذي حلت عليهم اللعنة في العراء لتنهشهم الجماهير العاجزة …تجدد امنظومة نفسها بعملية الإلتهام …أما الكاهن الذي يرقد الآن في مدفن أسباني فخيم، بجوار حفيده لم يخفِ طوال دفاعه عن نفسه إيمانه أن كل ما نراه جريمة هي نوع من “مهامه الوطنية“.ولم يعرف ماذا سيحدث في ممتلكاته، إحتفظ منها بالجولي فيل …وترك امبراطوريته قبل أن يضرب حولها سوراً مرتفعا.ليتحول المجاز الذي أراده واقعاً بالترسانة المسلحة.