لا يقرأ المخزنجي كتابًا واحدًا، وإنما عدة كتب في الوقت نفسه، في كل كتاب ثمة سطور يتوقف عنها، “سطور تومض” كما يقول، في الكتب هوامش وشخبطات، وملاحظات “تلك عادة منذ أيام المنصورة” عندما كنا نعقد في التنظيمات اليسارية حلقات للنقاش، لمناقشة كتب الفلسفة“.. في جولة مكتبته يتوقف أمام آخر ما قرأ من كتب، واهتماماته؛ الكتب المصورة عن الفضاء “دائمًا ما تسحرني الكواكب المعلقة فيما يسمى الفراغ، وهو ليس فراغًا، أكتشف أننا جهلة بالعالم الذي نعيش فيه، ليس فقط الكوكب الذي نعيش فيه، ولا المجموعة الشمسية، أو المجرة، وإنما الكون كله“.
يتوقف أيضا أمام كتاب “الحيوات السرية للدماغ” لديفيد أيجمان الذي يؤكد كاتبه أن التصرفات البشرية لا تخضع جميعها لقرارات عقلانية وتفكير مسبق، بل هناك تصرفات “أوتوماتيكية” في أحيانا كثيرة، مثلًا عندما تضغط فرامل السيارة لحظة الخطر، لا تحتاج إلى تفكير، بل تفعل ذلك بشكل غير واعٍ، هذا الكتاب يطرح أسئلة كبرى عن مسألة الإرادة بشكل علمي.. ولكن الأهم كيف كتب المؤلف هذا الكلام، بشكل سردي جذاب ولغة فنية راقية.
ينشغل المخزنجي أيضا بما يسمى “علم الفشل“، وهو علم يعتبر المهندس الأمريكي هنري بيتروسكي رائدًا له. وهو ينطلق من سؤال: لماذا فشلنا؟ فقد درس أسباب فشل انهيار السدود والجسور.. وحلل أسباب ذلك بشكل علمى. يوضح المخزنجي “هذا العلم تحديدًا نحتاجه بشدة، في كل مجالات الحياة، لأننا عندما ندرس أسباب فشل أي شىء سنتجنب تكرار الفشل مرة أخرى، ونتمكن من أن نتخطاها. مثلًا في مصر لماذا فشلنا في زراعة الصحراء؟ لماذا فشلنا في بناء المدن الجديدة؟ وهكذا عندما ندرس أسباب الفشل سنتجاوزه في مشروعات أخرى“. ويضيف المخزنجي “من الكتب التي أعتز بها جدًّا مجموعة كتب التاريخ الطبيعي للكائنات، الصادرة عن “دار كلمة“، أشعر أمامها كأني طفل، وهذه كتبي“.
يقرأ المخزنجي الآن رواية ” تأثير اللوتس” للأديبة العالمة الألمانية أنتونيا فيرينباخ؛ إذ اكتشف العالم الألماني فيلهلم بارتلوتا أن أوراق نبات اللوتس لا تحتاج غسيلًا على الإطلاق، فهي نظيفة دائمًا على أنها بنت الوحل، وربيبة المستنقعات، كانت النظرية العلمية السائدة تقول «إذا كنت تريد الحفاظ على نظافة شيء فاجعل سطحه ناعمًا»، بينما أوراق اللوتس التي تحتفظ بنظافتها دائمًا، تفترش سطحها خشونة من نتوءات واضحة تحت الميكروسكوب فائق القدرة على التكبير، نتوءات متراصفة على سطح الورقة، نتوءات بالغة الدقة، تشكل خشونة بالغة الخصوصية، ويكمن فيها سر أعجوبة أوراق اللوتس، أو زنابق الماء!
من هذه النظرية خرجت إلى النور «ملعقة العسل» النانوية، وهي ليست أي ملعقة، فهي تغترف من وعاء العسل ما تغترفه، ولا تحتاج بعد ذلك للغسيل المُتكرِّر المزعج الذي يضيق به كل من استخدم ملعقة عادية لاغتراف العسل، فبمجرد إمالة الملعقة الجديدة المُحاكية لسطح ورقة اللوتس، تتساقط عنها قطرات ما يعلق بها من عسل، فتصير نظيفة وجافة فيما لا يزيد عن ثوان قليلة! شجَّع نجاح ابتكار «ملعقة العسل» الدكتور بارتلوتا على تسجيل براءة اختراع عام 1997 تحت اسم تجاري يحفظ حقوق ملكيته الفكرية هو “تأثير اللوتس“، وسرعان ما تلقفت الصناعات الألمانية هذا الاختراع فأنجزت دهانات لا تلتصق بها الأوساخ، ومنذ التسعينيات التي تم فيها تسجيل براءة اكتشاف «تأثير اللوتس»، والاختراعات لمواد عصيّة على التوسيخ تنهمر على الأسواق العالمية، ثياب عولِج نسيجها القطني بلمسة نانوية فلا تحتاج في تنظيفها لمساحيق الغسيل، وأقماع للزيت والدهانات والخرسانة ذات سطوح نانوية التخشين لا يلصق بها ما تُمرِّره. قفازات عمل لا تبتل، وخيام تطرد عنها دافق المطر وتراب الريح، وأحذية تخوض في الوحل فلا تتلوث، ومفارش مائدة لا تعبأ بانسكاب الحساء ولا قطْر الدهون عليها. وهناك من التقط المجاز في ثناياها، فطبَّق مفهوم «تأثير اللوتس» في العلاج النفسي الذاتي، بأن يدع الإنسان أوشاب الحياة المُحبِطة تتدحرج على سطح وعيه دون أن تغوص غائرةً في اللَّاوعي، نوع من التطهير الذاتي المُستحدَث – يمكن تحقيقه بوسائل متاحة، كالاسترخاء والتأمل الإيجابي، أو الالتقاء بأصدقاء العمر وتبادل البوح معهم، أو إزاحة هذه الأوشاب بقناعة أنها لا تستحق الكثير ولا القليل، فهي تنزاح بمجرد الانخراط في نشاط نفسي أو عملي إيجابي، كالتزاور والتواد، أو الترحال في عوالم خلابة أو سماع ألحان محببة. هذه كلها مياه ندى أو مطر نفسي يزيل عن النفس أكدارها أولًا بأول، فلا يعلق بالنفس ما يُكئب أو يُكرِب. ومن هذه النظرية خرجت أعمال أدبية من بينها هذه الرواية (صدرت ترجمتها عن دار هنداوي).