فجأة، غادرت فيروز القاهرة!.. متى وصلت أصلًا؟!
في 21 سبتمبر 1976 تناقلت الصحافة المصرية خبرًا صغيرًا دون صور أو مصدر مفاده أن فيروز غادرت القاهرة منذ عدة أيام وطارت إلى دمشق لإحياء حفلات معرض دمشق الدولي.. جاءت فيروز إلى القاهرة ومعها منصور الرحباني، ومتعهد الحفلات السوري يوسف الحاج، لبحث إمكانية تقديم عرض في القاهرة.. تعاقد يوسف الحاج مع المخرج السيد راضي على تأجير مسرح الأندلس المكشوف بالجزيرة.. كان السيد راضي والفنانة منى جبر قد كوَّنا معًا فرقة “الكوميدي شو” التي كانت تدير مسرح حديقة الأندلس وتقدم عليه عروضها.. عاينت فيروز ومنصور المسرح، الذي كان يُقدَم عليه في ذلك الوقت مسرحية بعنوان “الدنيا مزيكا” من بطولة منى جبر.. اشترطت فيروز أن يغطى سقف المسرح بخيمة، كما رأى منصور أن خشبة المسرح يجب أن تتسع ويزداد عمقها لتستطيع استيعاب أفراد الفرقة الشعبية اللبنانية من كورال وراقصين.. واتفق الجميع مبدئيًّا على أن تكون الحفلات في الأسبوع الأول من أكتوبر..
جئتُ يا مصرُ، وجاء معي
تعبٌ، إن الهوى تعبُ..
أكتوبر 1976.. الأجواء مشحونة في القاهرة بصفة خاصة، ومصر كلها بصفة عامة.. الجامعة العربية في القاهرة تتحضَّر لانعقاد مؤتمر القمة العربية الثامن في 18 أكتوبر لبحث الوضع الدامي في لبنان.. وفي الوقت نفسه المحافظات والأجهزة الإدارية كلها على قدم وساق من أجل إعداد اللجان الانتخابية للاستفتاء الرئاسي بعد انتهاء المدة الرئاسية الأولى للرئيس السادات.. العام الدراسي الذي بدأ منذ شهر تعطل مرة أخرى بعد الاستفتاء بسبب انتخابات مجلس الشعب، وعلى أغلفة الصحف ظهر السادات يدلى بصوته وبجواره زوجته، والعنوان ضخم أسفل الصورة “أنظف انتخابات في تاريخ مصر“.. في 21 أكتوبر 1976 صدر قرار بوقف إطلاق النار في بيروت أشرف عليه الرئيس اللبناني إلياس سركيس، بعد قتال استمر 19 شهرًا.. وسط كل هذا الصخب في مصر ولبنان وصلت فيروز ومعها الأخوين رحباني والفرقة الشعبية اللبنانية يوم الأحد 24 أكتوبر 1976 إلى القاهرة..
صِرتُ نجم الحب..
وصلت الفرقة يوم الأحد والحفل الأول يوم الأربعاء 27 أكتوبر.. الثلاثة أيام المتبقية هي للتجهيز النهائي للمسرح بأجهزة الصوت والميكروفونات التي أحضرتها الفرقة معها أيضًا، وللبروفات على الفقرات التي ستقدمها فيروز والفرقة.. لمّا كان لا وقت للحوارات الإعلامية، واعتذرت فيروز عن الظهور في البرنامج التليفزيوني النادي الدولي، فانتقلت إليهم إذاعة الشرق الأوسط لتحضر جزء من بروفات قصيدة الافتتاح “مصر عادت شمسك الذهب“.. فيروز تردد “صِرتُ نَجْم الحُب” ومنصور على البيانو وعاصي يتابع اللحن ويضيف.. يخبرنا المذيع أن الساعة الرابعة صباحًا وما زالت الفرقة بأكملها ساهرة للتمرين.. فيروز لا تترك الأوراق من يدها، يستدعونها للبروفات بين السؤال والتالي.. صوت عاصي يقول عند المقطع الأخير من القصيدة “بدّي ياه قبل المارش يقولوها staccato”.. أي يلفظ الكورال الكلمات بصورة متقطعة:
الـ–حضا–راتُ–هنا–مهدُ–ها–بعطاء– المجد–تصـ–طخبُ..
نَقَشتْ–في–الصخر–أسـ–فارها–فإذا–من–صخرِكِ–الكتبُ
يسأل المذيع فيروز في نهاية التسجيل:
–ما الفرق بين مجيئك هذه المرة وبين المرات السابقة؟
–كانت المرات السابقة التي زرت فيها مصر زيارات عادية.. ولكن هذه المرة جئت لأغني لمصر، ولجمهور مصر.. وأنا دائمًا عندي قلق وخوف عندما أواجه جمهورًا لأول مرة.. قد يعرفني القلة القليلة من الجمهور.. والأغاني التي تسمعونها هنا قديمة.. كما أن الأعمال التي تُعرَض لي في تليفزيون مصر قديمة أيضًا لا ترضيني..
في اليوم التالي، مساء الثلاثاء 26 أكتوبر، قام الأديب يوسف السباعي، الرئيس الفخري لجمعية كتاب ونقاد السينما ورئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام ورئيس تحريرها، بتكريم فيروز باسم جمعية كتاب ونقاد السينما في قاعة البانوراما بصحيفة الأهرام، حيث سلمها جائزة التقدير الذهبية وتمثال للإلهة المصرية إيزيس.. حضرت فيروز الحفل مع عاصي ومنصور وشقيقتها هدى، وألقى منصور أمام الحضور القصيدة المهداة إلى مصر التي ستفتتح بها فيروز حفلاتها..
جاءت فيروز والفرقة الشعبية اللبنانية إلى مصر بمجهودات فردية لفرقة “الكوميدي شو” دون أي تدخل حكومي من وزارة الثقافة.. في الصحف اقتطع السيد راضي ضمن الدعاية للحفلات ربع صحفة على مدار أسبوع للإعلان عن الحفل المرتقب، تحت عنوان “فرقة الكوميدي شو تقدم لأول مرة في مصر.. فيروز والأخوين رحباني مع الفرقة الشعبية اللبنانية“.. كما وضع أعلى مدخل الحديقة عند نهاية كوبري قصر النيل إعلانًا كبيرًا،
مع صورة لفيروز بفستان هفهاف أصفر تعود للعام السابق، وكانت التذاكر تُباع بالأماكن التالية: مسرح الأندلس– كشك فندق شيراتون– كشك أمريكيين سليمان باشا.. الحفلات أيام 27 و28 و29 و30 أكتوبر..
كتبت الصحافة عن انتهاء التذاكر والأرباح التاريخية التي حققها الكوميدي شو من وراء الحفلات، وانتقدت ارتفاع أسعار التذاكر التي بدأت من 5 جنيهات إلى 30جنيهًا، ثم وصلت إلى 50 للحفل الرابع، وهي أسعار مرتفعة جدًا في ذلك الوقت.. وفي الأهرام رسم صلاح جاهين، صبيحة الحفل الأول، كاريكاتيرًا معبرًا عن صعوبة الحصول على تذكرة لحفل فيروز..
علّق منصور الرحباني قائلًا “هي أسعار مناسبة إذا ما قيست بتكاليف العرض وأجور الفرقة.. وكان يمكن أن نخفض ثمن التذاكر لو أننا حضرنا بدعوة من وزارة الثقافة المصرية أو هيئة المسرح، وكنا نتمنى ذلك.. لكن الدعوة وُجِّهَت إلينا من متعهد حفلات، وليس من هيئة رسمية لا يهمها الربح..“.
افتتحت فيروز الحفلات بقصيدة “مصر عادت شمسك الذهب“.. من بعد فيروز وهدى يطل نصري شمس الدين، البطل الدائم أمام فيروز.. يدخل بلباس الناطور الفلكلوري أي حارس الحقل الذي يزجّي وقته بالمواويل العذبة.. يتجمع عليه الشباب والصبايا ويطلبون منه أن يغني: يا ناطور يا ناطور.. نسمة زنبق عم بتدور.. موال مجرّح، غِنّيِّة، وشي دبكة.. وتميل خصور..
ينتهي الفصل الأول من الحفل بمقطع من مسرحية جبال الصوان.. ويفتح الفصل الثاني على مشهد الموشحات الفخم بالأزياء الأندلسية.. أرجعي يا ألف ليلة، غيمة العطرِ… سعاد حسني بين الحضور تكاد تخلع حذاءها لترقص مع اللحن الرائق.. يا ليل الصبُّ متى غده؟
خايف أقول اللي في قلبي..
إلى الطابق الحادي عشر من فندق شيراتون، حيث تنزل فيروز والفرقة، صعد طارق حبيب يجري حوارًا في اليوم الأخير للحفلات.. يوم الحفلة الرابعة.. فيروز مرهقة لم تستيقظ بعد.. يقول طارق حبيب “عاصي رقيق مثل النسيم.. وحالم.. تشعر أنه يكاد يذوب من الحساسية الزائدة.. منصور دينامو، عليه أن يدبر كل شيء.. كأنهما روح واحدة، كل منهما متعلق بالآخر.. حتى أن عاصي عندما أراد أن يشرب الشاي، نظر إلى منصور وقال: منصور بدّي أشرب شاي.. مع أنه كان يمكن أن يطلبه رأسًا من الجرسون الواقف في الحجرة.. قال له منصور طلبته لك فعلًا“.
المنتج رمسيس نجيب موجود، وهو صديق للأخوين وفيروز منذ الخمسينات.. اتفق مع الأخوين على تصوير الحفل الرابع والأخير، واشترى حقوقه.. سيخرج الحفل تليفزيونيًّا حسين كمال، وعاصي سيقود الأوركسترا بنفسه بعد أن قادها في الليلة الأولى فقط ومنصور تولى الليلة الثانية والثالثة.. يطلب رمسيس نجيب برجاء أن تغنى فيروز “خايف أقول اللي في قلبي” فأضيفت إلى للحفل الأخير، وينهمك منصور في كتابة النوتة الموسيقية للأغنية.. يتابع طارق حبيب “منصور مستغرق في الأغنية.. خايف أقول اللي في قلبي تتقل وتعند ويايه.. يرددها.. يعود ويرددها بأداء آخر، يبدو أنه حائر.. أي النغمتين أجمل؟.. يرددها.. أحد الموسيقيين يرددها معه، ويصل موسيقى آخر يرددها أيضًا.. يدخل عاصي ويسأله منصور أي النغمتين أجمل.. الفارق دقيق جدًا حتى لا يكاد يخطر ببالك“.
حسين كمال حاضر في البروفات.. يراقب حركة الفرقة والراقصين ليعرف أفضل زوايا للتصوير.. ويحفظ حركات وسكنات فيروز فلا تفلت منه آهة واحدة مع الأغاني..
***
انتهت الحفلات الأربع كالحلم.. ودَّعت فيروز الجمهور بأغنية “زوروني كل سنة مرة” لسيد درويش، وفي اليوم التالي نشر صلاح جاهين كاريكاتيره الشهير وهو يهتف “أهو انتي اللي لازم تزورينا كل سنة مرتين تلاتة“.
بعد انتهاء الحفلات، والفرقة تحزم أغراضها، ذهبت الإذاعية آمال العمدة للقاء فيروز وأجرت معها حوارًا مليئًا بالشجن.. تقول آمال العمدة “كان عليَّ أن أنتظر حتى السادسة بعد الظهر حتى تصحو فيروز، في الغرفة رقم 1104 بالدور الحادي عشر من شيراتون القاهرة.. أمضيت الوقت بصحبة الفنانة منى جبر التي تلازم الفرقة منذ وصول الرحبانية، حتى صارت تتحدث مثلهم بلكنة بيروتية.. ودارت عيوني في الغرفة تتأمل بوكيهات الورود الكثيرة، ولم أجد بينها بوكيه واحد يحمل اسم مطرب أو مطربة مصرية..“.
آمال: اشتقنا لصوتِك.. سمعته آخر مرة في بيكاديللي بيروت وكانت المسرحية “ميس الريم“.
فيروز: بيكاديللي انطفأت أنواره.. حزني على بيروت فاق الحدود.. هجرها أهلها هربًا من القصف العشوائي.. ونحن ظللنا في حماية الجبل..
تحاول آمال تغيير الموضوع الحزين فتسأل فيروز عن أولادها، وعن تفضيلاتها من الموسيقى، ثم تتطرق إلى الأزياء.
آمال: بعض المطربات يخترن الفساتين آخر موضة للتألق على المسرح.. هل تهتمين بالموضة؟
فيروز: مثل أي سيدة عادية.. وعلى المسرح أنا أسيرة ذوق مصمم الملابس للفرقة المسرحية.. أحيانًا ألبس كفلاحة فقيرة..
***
رحلت فيروز والأخوان رحباني والفرقة يوم الثلاثاء 2 نوفمبر 1976 إلى بيروت عن طريق دمشق.. يوم الخميس 4 نوفمبر عرض التليفزيون المصري شريط الحفل الأخير، بعد أن اشترى حقوق إذاعته لمدة ثلاث سنوات من المنتج رمسيس نجيب.. في الأيام التالية تحدثت الصحافة بدهشة وإعجاب عن طريقة أداء فيروز.. إنها المرة الأولى التي يرى فيها الجمهور المصري ذلك الالتزام والانضباط، وانهالت الخطابات على ماسبيرو تطالب بإعادة عرض الحفلة مرة ثانية..
كتب الإذاعي أحمد عبد الحميد مقالًا مطولًا عن الحفل تحت عنوان “غنت فيروز.. فأطلقت الرصاص على حفلاتنا“.. أقتطف منه “تدخل فيروز بجسدها النحيل وملامحها الدقيقة.. انحناءة خفيفة تحيي بها الجمهور، ثم تقف خاشعة كأنها في صلاة.. تنتهي من أغنيتها الأولى– قصيدة إلى مصر– وقبل آخر خطوة تغادر بها المسرح يكون مغني الفقرة التالية قد بدأ خطوته الأولى إلى خشبة المسرح.. هنا التصفيق يودع فقرة ويستقبل فقرة في نفس الوقت.. العازفون يقلبون صفحة من نوتهم الموسيقية، وفورًا يبدأ عزف الفقرة الجديدة.. وهكذا تتصل الفقرات رغم انفصالها.. والقياس الزمني الدقيق لايختلف على الإطلاق بين ليلة وأخرى.. الشيء الذي لا يحدث حتى في مسرحنا الدرامي“.
ما معنى هذا؟ معناه لا توقفات.. لا وقت ضائعًا.. الفقرات المنفصلة متصلة بمونتاج بارع ودقيق، وكأن الفاصل الغنائي الواحد فصل كامل من إحدى المسرحيات الغنائية.. ولم تحي فيروز الحفل وحدها، بل شاركها في الأداء مغنون انفراديون (سوليست) وكورال وراقصون.. لم يكن ما قدمته أغنيات فردية فحسب، بل كان معظمها ألحانًا مسرحية..
وفيروز وفرقتها لم تظهر بملابس مبهرة ومدندشة كما تفعل مطرباتنا، وإنما لكل أغنية لوحة ملابسها المتسقة والمعبرة عن جو الأغنية واللوحة.. الموشحات أندلسية.. لوحة المشهد البدوي ملابس بدوية.. الأغاني الجبلية زي لبناني وطني وأزياء شعبية..
في حفل فيروز لا توقفات بسبب التصفيق.. استمرارها في الغناء يحبس التصفيق في أثناء الأغنية ويمنعه.. إنها إذا ما غنت اندمجت في تيار الإحساس بما تغني، ومن ثَمَّ لا تقبل أن يخرجها من هذا الاندماج تصفيق في غير موضعه.. إنها تجبر المتفرج أن يحترم اندماجها..
***
بحفل حديقة الأندلس تنتهي رحلتنا.. هذه هي الرحلات الثلاث التي زارت فيها فيروز مصر مع الأخوين رحباني.. فبراير 1955 وأكتوبر 1966 وأكتوبر 1976.. من بعد هذه الرحلات أتى الأخوان رحباني إلى مصر أكثر من مرة بدايةً من 1981.. وأتت فيروز إلى مصر لإحياء حفلها المعروف عند سفح الأهرام يوليو 1989..
***
انتهت السلسلة، وما انتهى الكلام..