زيارة مثالية قام بها الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين لمكتبة طه حسين الملقب ب”عميد الأدب العربي”….حوار عن المكتبة والكتب بما أنها حياة. كتب أحمد بهاء الدين مقالا عن الزيارة نشر في مجلة “صباح الخير” في مارس 1958، البداية كانت مع الدهشة الشديدة من كاتب، شاب، متميز، حقق نجاحًا، وأثار جدلاً، لكنه ويا للعجب، لا يقرأ إلا نادرًا.. وبقليل من التفكير فسيكون هذا الكاتب هو يوسف إدريس، الذي نشر مجموعته القصصية الأولى، أرخص ليالي، في 1954، وقوبلت وقتها باحتفاء بالغ، وكان من بين من احتفوا بها، العميد طه حسين شخصيًّا، الذي كان يقرأ كثيرًا، إلى درجة أن أحمد بهاء الدين عندما زار مكتبته، وتجول فيها قال إن عدد الكتب فيها لا يمكن أن يكون بالمئات، بل بالآلاف… فماذا كان يقرأ بحر العلم، وعين أعيان المثقفين المصريين في النصف الأول من القرن العشرين؟
كنت جالسًا في مكتبي منذ أسابيع، عندما زارني صديق، هو في نفس الوقت كاتب شاب، ذاع اسمه ونجح نجاحًا كبيرًا، واشترك في المعارك الصحفية حول الأدب القديم والأدب الجديد، وانغمس في الهجوم والدفاع وفي إطلاق الأحكام، وفي التنديد والتقريظ. وفي خلال الحديث، قال لي صديقي الكاتب الفنان الشاب، إنه قرأ منذ أسبوع كتاب الأيام لطه حسين، قرأه لأول مرة، وقد دهش من روعة الكتاب والحياة التي تتدفق فيه!
وكدت لا أصدق أن كاتبًا مرموقًا، أؤمن أنا شخصيًّا بامتيازه، لم يقرأ الكتب المهمة في أدب طه حسين وتوفيق الحكيم وغيرهما من رواد الأدب المصري الحديث! قال إنه لم يقرأ إلا ما تنشره الصحف لهما في السنوات الأخيرة فحسب!
على أن دهشتي لم تلبث أن انقلبت إلى حزن. فمثل هذا الكاتب الشاب الممتاز، لا يمكن أن يستمر امتيازه بغير ثقافة واسعة، إن لمعة إنتاجه الأول هي لمعة الموهبة، التي سرعان ما تخبو، وتكرر نفسها، ويضيق أفقها، إذا لم تجد مددًا مستمرًا من خبرات الحياة، ومن الثقافة العميقة.
الذي حدث لهذا الكاتب الشاب أن التصفيق الذي قوبل به إنتاجه الأول أدار رأسه. وأصعب امتحان يجتازه أي إنسان هو: كيف يمر “بصدمة” نجاحه الأول. إذا صح التعبير، هناك من يكسره النجاح الأول فيظن أنه قد كتب ما لم يكتبه أحد قبله وما لن يكتبه أحد بعده، فيركن إلى الكسل، ويعتقد أنه يمكن أن يكرر نجاحه بنفس المحصول القديم، وهناك على العكس من يجعله النجاح الأول أكثر إحساسًا بالمسؤولية، وأكثر اهتمامًا بتجديد عمله.
وتصفيق النجاح الأول ليس في الحقيقة حكمًا نهائيًّا، إنه يقترن في العادة بنوع من المبالغة، وهو في العادة ليس إعجابًا مجردًا بالعمل نفسه، ولكنه إعجاب بالعمل وبصدوره من شاب جديد بالذات، فالطفل عندما ينطق بأولى كلماته يصيح أهله إعجابًا وتشجيعًا وفرحًا، لا لأن الكلمة في ذاتها جديدة، ولكن لأنها الصوت الجديد، ولأنها علامة نمو شئ جديد، هكذا نصفق ونشجع أحيانًا “الوجه الجديد” في كل شيء، في الكتابة وفي التمثيل وفي الغناء على السواء، ولكن بعض الشباب الذين ينجحون، ويسمعون هذا التشجيع، لا يفهمونه هذا الفهم، فيضعون أكتافهم مرة واحدة بجوار أكتاف الأساتذة الكبار، بل ويرفضون الاعتراف بأنهم امتداد، وتطوير لهؤلاء الأساتذة كأنهم يحبون أن يكونوا نباتًا شيطانيًّا نبت من لا شيء.
دارت كل هذه الخواطر في رأسي، وأنا أتأمل صديقي الفنان الشاب، بل وأنا أتأمل كل هذا الجيل الذي أنتمي إليه، ووجدت أن أشباه هذا الفنان الشاب كثيرون.
وفكرت في الأساتذة الكبار، الذين تعد سنوات جهدهم وإنتاجهم لا بالسنين، ولكن بعشرات السنين، فكرت أن أزور مكتباتهم وأن أتجول فيها، فكرت أن أقدم لزملائي ولقرائي، ولنفسي، صورة من الجهد الذي صنعهم، والذي صنعنا من بعدهم.
وكان لا بد أن أبدأ بطه حسين..
لا بد! لأننا لو ذكرنا كلمات الأدب والثقافة والقراءة والكتب، فلا بد أن ينصرف الذهن فورًا إلى طه حسين. لا بد. لأنه بالفعل علامة حياتنا الثقافية ورمزها الرئيسي خلال ثلث القرن الأخير.
ولو مرَّ أي إنسان في الطريق الضيق المتفرع من شارع الهرم، الذي يقع فيه بيت طه حسين، لأستوقفه البيت، ولعرف أن صاحبه لا بد إنسان قارئ، قرأ وقرأ حتى عاش أضعاف حياته، وحتى تسربت قراءاته إلى أدق شؤونه وخلجاته، فاسم الفيلا البيضاء المكتوب على بابها “رامتان”، و”رامة” مكان في الصحراء العربية ذكره الشعراء الجاهليون كثيرًا في شعرهم، إذ كان يلتقي عنده العشاق.
وقد نسيت أن أسأل طه حسين لماذا جعل الاسم “رامتين” لا “رامة” فحسب، ربما كان السبب أن البيت يسكنه زوجان وزوجتان طه حسين وزوجته وابنه مؤنس وزوجته. أو ربما كانت هناك في الجزيرة العربية أكثر من “رامة” واحدة!
تقع حجرة المكتبة في الطابق الأرضي، ولها باب زجاجي واسع يؤدي إلى الحديقة مباشرة، ولا أذكر الآن من الحجرة إلا أن جدرانها كلها مغطاة بالكتب، من الأرض إلى السقف. ما عدا ثغرة واحدة تشغلها صورة للزوجة وربة البيت، وأن ما فيها من أثاث غير ذلك لا يعدو مكتبًا عاديًّا وثلاثة مقاعد من الطراز “الأسيوطي” القديم، وأن الألوان السائدة فيها هي البني والأحمر، وأن النور فيها قليل مريح.
والغرفة تحمل اسم “غرفة المكتبة” ولكنها ليست في الواقع كل المكتبة، فلا يوجد ممر أو ردهة أو صالة في الطابقين إلا وفيه خزانات ورفوف غاصة بالكتب. وأغلب الكتب الموجودة في غرفة المكتبة بالذات من المجلدات العربية القديمة، وفيها ما تصل أجزاؤه إلى أكثر من العشرين جزءًا.
قلت لطه حسين: هل قرأت كل ما في هذا البيت من كتب؟
فقال: بالطبع لا. أذكر أنني ذهبت مرة في باريس لزيارة “لالاند” أستاذ الفلسفة الشهير، وكان بيته مكتظًا بالكتب بصورة غير معقولة، وكانت زوجته تشكو وتتذمر من كثرة الكتب التي لا يقرأها زوجها، وكان لالاند يقول: إنه لا يقتني الكتب التي قرأها فقط، ولكنه يقتني كل كتاب يجب أن يكون في متناول يده، فقد يحتاج ذات يوم إلى سطر واحد فيه.
وسألته، كيف تكونت له هذه الآلاف من الكتب؟
وقال طه حسين إنه تعلم شراء الكتب واقتنائها بكثرة منذ سفره إلى فرنسا ليدرس هناك، وأن الكتب التي عاد بها من هناك كانت النواة الأولى لمكتبته الحالية. وضحك ضحكة قصيرة ثم قال: كان أخي الأكبر الشيخ أحمد حسين يشتري الكثير جدًّا من الكتب العربية القديمة، خصوصًا كتب الفقه واللغة والأدب والتاريخ، فلما عدت من باريس، بدأت “أستعير” هذه الكتب منه شيئًا فشيئًا، ثم لا أردها، وبهذا الأسلوب أصبحت لي كتب كثيرة ضخمة، مثل كتاب لسان العرب، والكامل للمبرد، وأغلب كتب تفسير القرآن والحديث التي تراها عندي الآن.
وقمت أتأمل رفوف الكتب، وأقلب بعضها، واقرأ عناوينها، بغير ترتيب مقصود، ولا يتوقع القارئ مني بالطبع أن أسرد له كشفًا بأسماء الكتب وأنواعها، ولا حتى نماذج كثيرة منها، فالكتب الموجودة في الفيلا الجميلة الهادئة تعد بالآلاف، لا بالمئات، والاهتمامات فيها متنوعة ومتشعبة إلى حد بعيد، فها هنا كتب باللغة العربية واللغة الفرنسية واللغة اللاتينية، وإلى جانب مجلدات التاريخ الإسلامي توجد مجلدات تضم كل ما نشرته مصلحة الآثار المصرية من مجموعات عن التاريخ الفرعوني، وعن كل الحفريات التي كشفت عن آثار مصر القديمة، ثم كل ما نشر عن الآثار الإسلامية، ومجموعة ضخمة من كتب الأدب اليوناني القديم، ثم معجم ضخم نادر هو “معجم الجريكو رومان” وهو عبارة عن دائرة معارف تقدم شرحًا وافيًا إلى أقصى ما وصل إليه العلم لكل كلمة في الاصطلاحات السياسية اليونانية والرومانية القديمة.
وقال لي طه حسين وأنا أقف عند هذا الكتاب: كان لا بد لي من اقتناء هذا الكتاب عندما كنت أدرس في باريس، إذ كنت أدرس التاريخ القديم، ولكن ثمنه كان باهظًا جدًّا لا تتحمله ميزانية طالب بسيط، فلم أتمكن من تحقيق أمنية شرائه واقتنائه إلا بعد أن عدت إلى مصر.
ولم أدهش لوجود أي كتاب من هذه الكتب، ولكنني توقفت بالفعل عند المجموعة الضخمة من كتب الفقه، وآراء أبي حنيفة ومالك وابن حنبل والشافعى، فهذه الكتب تهم في الدرجة الأولى رجال الفقه والشريعة والقانون ولا تهم المؤرخ أو الأديب، وسألت صاحب المكتبة في ذلك، فقال لي إنه كثيرًا ما تعترضه في أثناء كتابة موضوع ما قضية من القضايا الفقهية التي يجب أن يتخذ فيها موقفًا.
– مثلاً؟
– مثلاً، وأنا أكتب الجزء الثاني من كتاب “الفتنة الكبرى” عن علي بن أبي طالب، واجهت واقعة إلحاق معاوية لزياد بنسبه، وجعله أخاه، يحمل اسم “زياد أبن أبي سفيان”، مع أن زياد له أب آخر معروف؛ كان عبدًا روميًّا لامرأة في الطائف، وهنا واجهني سؤال هام: هل التبني جائز في الإسلام أم لا؟ القرآن يقول إنه غير جائز بنص سورة الأحزاب “ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم، وما جعل أدعياءكم أبناءكم”، فمعنى هذه الآية أن التبني ممنوع، ولكن قراءة الآية القرآنية وحدها لا يكفي لتقرير حكم الإسلام، فلا بد من قراءة كتب تفسير القرآن، واستعراض مختلف الآراء وشتى وجهات نظر الفقهاء، قبل أن أصل إلى نتيجة أخيرة. هي: أن معاوية خرج على حكم الإسلام عندما الحق زيادًا بأبيه”!
وكتاب “الفتنة الكبرى” من الكتب النادرة في أدبنا العربي الحديث. فهو مزيج رائع من الدراسة والتاريخ والأدب والفن، وهو من المحاولات القليلة لفهم تاريخنا العربي بالمقاييس العلمية الحديثة. وقد قال لي الدكتور طه حسين إنه من الكتب التي كلفته مجهودًا عنيفًا في البحث والقراءة. كان عليه أن يقرأ كل ما كتبه المستشرقون “وكتب المستشرقين فيها تعصب ولكن فيها فائدة كبيرة، فهي تقدم لنا منهجًا جديدًا في البحث، ونظرة على هذا التاريخ غير نظرتنا”. ثم كان عليه أن يقرأ كل المخطوطات التي وجدها في دار الكتب عن أبي بكر وعمرو وعلي وعثمان ومعاوية، إلى جانب كل الكتب المطبوعة عن هذه الفترة الحرجة المضطربة من التاريخ.
ـ هل تذكر مرجعًا من هذه المراجع، كان له أثر بارز في بحثك؟
– نعم، أذكر مثلا كتاب “أنساب الأشراف” للبلاذري، ووجه امتيازه، أن كل كتب التاريخ الإسلامى كتبت في العراق، وكان مؤلفوها متأثرين بسياسة الدولة العباسية، مما جعلهم يتعصبون تعصبًا شديدًا على أهل الشام. بعكس البلاذري، فبالرغم من أنه كتب كتابه هذا في بغداد، في القرن الثالث للهجرة، إلا أنه كان يذهب إلى الشام ويجلس إلى علمائها ويسمع منهم الأخبار، فإذا كتب، روى القصة كما يتناقلها الرواة في العراق، ثم قال “وحدثني
بعض شيوخنا في الشام قالوا: هذا كله حديث أهل العراق، والذي نرويه هو…” ذلك أن الشام ظلت زمنًا متعصبة لبني أمية ضد العباسيين، فكان البلاذري يروي الواقعة من وجهتي النظر المختلفتين على السواء.
وكتاب “الفتنة الكبرى” يختلف عن كتاب آخر لطه حسين في التاريخ الإسلامي، هو كتاب “على هامش السيرة”، فكتاب “الفتنة الكبرى” طابعه البحث والتاريخ والتحليل، أما “على هامش السيرة” فطابعه الخيال، وتصوير الجو النفسي والإنساني والعاطفي الذي ولدت فيه الدعوة، وأذكر أنني كنت طالبًا عندما كانت أجزاء هذا الكتاب تصدر، فكنت أقرأ سطوره وكأنني أترنم بقصائد من الشعر، فأسلوب الكتابة فيه أسلوب شاعري، عاطفي لا عقلي، أسلوب رفيق رقيق، بلغ من رقته أنه جعل كل شخصيات هذا العصر، الذي أتصوره خشنًا، شخصيات تسيل رقة.
وقال طه حسين: إن فكرة هذا الكتاب خطرت لي وأنا في باريس، حين قرأت كتابًا اسمه “على هامش الكتب القديمة” من تأليف جول ليمتر، وهو عبارة عن حكايات مخترعة، وتدور حول أبطال بعض الكتب القديمة كالإلياذة والأوديسة وغيرها. فسألت نفسي: هل من الممكن القيام بنفس التجربة باللغة العربية، وفي جو إسلامي صرف؟ ثم أجبت على هذا السؤال بتأليف كتاب “على هامش السيرة”.
ـ سمعت أن هناك كتابًا آخر تكتبه عن هذه الفترة نفسها؟
– نعم، إنني أستعد الآن لكتابة كتاب اسمه “مرآة الإسلام”، عبارة عن صور من الحياة الإسلامية في أيام النبوة والخلفاء، بعد أن تعقد الإسلام وأصبح علمًا، بل علومًا فيها مناظرات علمية وجدل عقلي.
والكتاب الذي يقرأ فيه طه حسين الآن، استعدادًا لكتابة “مرآة الإسلام” كتاب اسمه “جامع الأصول في حديث الرسول” ويقع في اثني عشر مجلدًا! ويقول طه حسين إنه لا يقرأه لكي يعرف أحاديث الرسول فقط، فهي موجودة في غير هذا الكتاب، ولكنه يقرأه لكي يتمثل بوضوح كيف كان يعيش الناس أيام النبي وكيف كان النبي يختلط بأصحابه ويعلمهم ويناقشهم، أي لكي يتمثل صورة الحياة العقلية والصراع الفكري في ذلك العصر.
ومن رأي طه حسين أن الكتب العربية القديمة ليست معروفة لكل المثقفين من الشباب، وليست مقدرة حق قدرها، مع أنها تنطوي على كنوز عقلية وفنية لا نظير لها، “حتى الكتب القديمة في الفقه” التي كثيرًا ما أقرأ فيها لا على أنها مناقشات فقهية وشرعية، ولكن على أنها أدب رفيع، هناك مثلا كتاب “الأم” للإمام الشافعي، وهو الكتاب الذي أملاه هنا في القاهرة، وفي جامع عمرو بن العاص في مصر القديمة بالذات، إنه من أروع ما يمكن أن يقرأ الإنسان من حيث الأسلوب، وهو ثانيًا مرجع ممتاز نفهم منه تاريخ العقلية الإسلامية في تلك الأيام…. ثم … هل تعرف أن الجامعة العربية تنشر هذه الأيام أول كتاب عربي قديم في القانون الدولي؟ إنه كتاب “السيد الكبير” تأليف محمد بن الحسن الشيباني، وهو يتحدث عن تاريخ الحرب وأنواع العلاقات في الحرب والسلم بين الدول الإسلامية وغيرها من الدول. وقد تعجب إذا قلت لك كيف قررنا طبع هذا الكتاب: إن في ألمانيا جمعية من المستشرقين والفقهاء الدوليين اسمها “جمعية الشيباني” نسبة إلى مؤلف هذا الكتاب، واعترافًا بعظمته، وقد عرف الفقهاء الدوليون هذا الكتاب من نسخة طبعت في الهند من زمن بعيد، ومنذ قليل، اتصلت هذه الجمعية في ألمانيا بالدكتور عبد الحميد بدوي القاضي بمحكمة العدل الدولية وسألته هل يمكن إعادة طبع هذا الكتاب في مصر، وأخبرني الدكتور بدوي بالقصة فعملت على أن تقوم الجامعة العربية بطبعه.
وقلت للدكتور طه حسين إن جهل الشباب بالتراث القديم حقيقة لا شك فيها. ولكن الهيئات العلمية لم تقم بواجبها في هذا المجال بعد. وأبسط واجباتها أن تعيد نشرها بأسعار زهيدة وفي طباعة عصرية تجعلها قريبة من متناول الشباب المثقف.
وقلت للدكتور طه حسين إن جهل الشباب بالتراث القديم حقيقة لا شك فيها. ولكن الهيئات العلمية لم تقم بواجبها في هذا المجال بعد. وأبسط واجباتها أن تعيد نشرها بأسعار زهيدة وفي طباعة عصرية تجعلها قريبة من متناول الشباب المثقف.
***
التهمت الجولة بين الكتب العربية القديمة أغلب الوقت. ولم يعد ممكنًا أن أقلب طويلاً في جانب ضخم آخر من المكتبة، جانب الأدب الأوروبي. وليس معنى هذا أن الكتب في مكتبة طه حسين منسقة بدقة، جانب لهذه الكتب وجانب لتلك، كلا، فالكتب غير منسقة طبقًا لمنطق واحد، إلا منطق الاستعمال.
وسألت طه حسين: ما هو أحدث كتاب فرنسي قرأته؟
– طبعة جديدة من مراسلات ديورد في ثلاثة أجزاء اشتريتها من فرنسا.
ـ ومن الأدب الفرنسي الحديث؟
– إن الإنتاج الأدبي الحديث في فرنسا يعاني أزمة شديدة، إن أرقى ما عندهم من الإنتاج الحديث الآن هو أدب فرانسواز ساجان، وهو أدب رخيص أقرب إلى المخدرات، ولكنهم يطبلون ويزمرون له بأساليب بعيدة عن احترام القيم الصحيحة. إن الناشرين في فرنسا الآن يلجؤون إلى وسائل الدعاية الغريبة لترويج الأدب الجديد الرخيص، ولا يتورعون عن شراء النقاد في سبيل هذه الغاية. إن فرنسا منذ أيام الاحتلال النازي تعاني نكسة عقلية وخلقية لم تتخلص منها إلى الآن، والغريب أننا نلاحظ أن الأدباء ورجال القانون وأساتذة السوربون يقفون مواقف رجعية تمامًا، في حين أن رجال العلم هم التقدميون. هذا إذا لم يكونوا منعزلين تمامًا ومتفرغين للبحث العلمي فقط. إن فرنسا لا تنتج الآن أدبًا رفيعًا. وأظن أن مركز الإشعاع الفكري والثقافي قد ترك باريس منذ زمن. وقد قال لى أحد أساتذة الحقوق الفرنسيين مرة: لقد صرت أحتقر السوربون!
ـ وآخر كتاب أوروبي قرأته غير الأدب الفرنسي؟
رواية رائعة من ثلاثة أجزاء للكاتب السوفيتي “أليكس تولستوى” اسمها “طريق الآلام” وهي تروي تاريخ الثورة الروسية من سنة 1917 إلى سنة 1920 في شكل روائي إنساني رائع.
ـ ومن الصحف والمجلات الأجنبية؟
– أقرأ من الصحف السياسية مجلتي “الإكسبريس” و”فرانس أوبزفاتور”. واقرأ المجلات الأدبية الشهرية كلها، خصوصًا مجلة “العصور الحديثة” التي يرسلها لي صاحبها جان بول سارتر بانتظام. إن سارتر يكاد يكون الكاتب العظيم الوحيد الباقي في فرنسا.
– هل يستعير الناس أحيانًا كتبًا من مكتبك ولا يعيدونها؟
– طبعًا. بل إن منهم من يأخذون الكتاب الذي يعجبهم دون استئذان! والظاهر إن اختلاس الكتب القيمة إغراء لا يمكن مقاومته، أذكر أن عالمًا جزائريًّا كبيرًا جاء إلى مصر في أواخر القرن الماضي، وكانت له مكتبة هائلة جمعها من رحلاته في شتى البلاد من إستانبول إلى المدينة. وكان هذا الشيخ جالسًا في دار الكتب المصرية يقرأ مخطوطًا ثمينًا، وأعجبه الكتاب جدًّا، فإذا به يستدعي وكيل دار الكتب، ويقول له: أريدك أن تجلس بجانبي حتى أنتهي من قراءة هذا الكتاب، لأنني أخشى أن أسرقه!
ـ هل تخصص أوقاتًا للقراءة، أقصد القراءة المجردة لا للدراسة والتأليف؟
– نعم، هناك فترتان في اليوم أخصصهما لهذه القراءة المجردة، القراءة لمتعة القراءة فقط. الأولى من الثالثة إلى الخامسة عصرًا؛ وأقرأ فيها مع سكرتيري، والثانية بعد العشاء، وقبل النوم وأقرأ فيها مع زوجتي.
ـ وهل تقرأ الإنتاج العربي الحديث، وأقصد إنتاج الشباب بالذات؟
– نعم، أغلبهم يرسلون لي إنتاجهم فأقرأ، وبصراحة ما لا يأتينى من صاحبه، لا أقرؤه!
ـ لا شك أن بريدك من هذا النوع ضخم جدًّا، وفيه الكثير مما لا يستحق القراءة؟
– طبعًا، طبعًا.
ـ وماذا تصنع بهذه الكتب التي لا تقرأها؟
ضحك طه حسين، وقال: كان أناتول فرانس يتلقى كمية هائلة من الكتب بالبريد، فيقول لخادمته: ضعيها في البانيو! وفي آخر الأسبوع، يكون البانيو قد امتلأ بالكتب، فيقول لخادمته: جهزي لي الحمام! ومعنى تجهيز الحمام، إفراغ البانيو، والتخلص من الكتب.