
قدّم الأخوان رحباني مسرحية الشخص مع فيروز للمرة الأولى في معرض دمشق الدولي في سبتمبر 1968، ثم قدموها في بيروت على مسرح البيكاديللي في فبراير 1969.. قوبلت المسرحية بإعجاب الجماهير والصحافة، ليس فقط لجمالها،ولكن لأنها المرة الأولى التي يدخل فيها الأخوان عالم المدينة ويتركان عوالم الضيعة.. ينصرفان عن القصص البسيطة السحرية والقيم الجمالية الفلسفية، إلى قصص الواقع الملموس والنقد الاجتماعي والسياسي اللاذع والصريح..
في العام التالي (1970) قدّم الأخوان في البيكاديللي مسرحية “يعيش يعيش” وبعد انتهاء عرض “يعيش يعيش“، وقبل الإعداد لمسرحية “صح النوم” والسفر لتقديمها في معرض دمشق الدولي، أعاد الأخوان مع فيروز تقديم مسرحية “الشخص” مرة ثانية على خشبة البيكاديللي في سابقة نادرة..
تحكي المسرحية عن “الشخص” الذي يرمز للحاكم، الذي يقرر أن يمر بالسوق، فتعد له أجهزة الدولة استقبالًا رسميًا وتخلي السوق ويطرد الشاويش البياعين، وبالصدفة تمر بائعة طماطم بسيطة، فتقف لمشاهدة موكب الشخص، وتقترب منه وتسلم عليه، وتهز يده على الطريقة البلدية وتسأله عن أولاده في بساطة، ثم تغني له بتلقائية.. بعد انصراف موكب الشخص، يستجوب الشاويش البياعة ويتم اعتبار اقتحامها للاستقبال الرسمي جريمة مدبّرة، وتتصاعد الإجراءات حتى تتم محاكمة البنت بتهمة الغناء ويُحكم عليها بمصادرة عربة الطماطم وبيعها بالمزاد العلني..
تدور “الشخص” في قالب بين الواقعية والفانتازيا الهزلية.. واقعية الأحداث والأماكن والنقد الاجتماعي، وفانتازيا الكتابة المسرحية والإخراج.. في مشهد المحاكمة يخاطب القاضي الجمهور مباشرةً ويقول “بما إن الرواية، ما فيها أسامي، اكتفت المحكمة بلقب البنت البياعة” والبياعة تصر على إضافة كلمة “طازة” لمهنة “بياعة بندورا” في محضر الجلسة.. هذه الفانتازيا المتقدمة تمتد أيضًا للممثلين، حيث يغير الممثلون ملابسهم وأدوارهم من مشهد لآخر.. بعض من كانوا بياعين في ساحة السوق في المشهد الأول، أصبحوا ضمن حاشية الشخص بملابس أنيقة، وينضم بينهم منصور رحباني نفسه على المسرح ضمن موكب الشخص.. الفنان إيلي شويري هو بائع الخيار في المشهد الأول، ثم كناس في مشهد الكناسين، ثم أحد وكلاء الإدعاء العام أثناء المحاكمة، ثم أخيرًا هو الدلال الذي يبيع عربة الطماطم.. الفنان مروان محفوظ في الفصل الأول هو السكّير الذي يقتحم السهرة حاملاً زجاجة، ويصيح وهو يتمايل “خلّوها بكرة بتفرج” ثم يغني “بالنجمة وعدتك ونسيت” وفي الفصل الثاني هو وكيل الكناسين في مشهد الكناسين..
بعد انفصال فيروز فنيًّا عن الأخوين رحباني، أعاد الأخوان تقديم “الشخص” للمرة الثالثة في الأردن في العام 1980 مع الفنانة الصاعدة “رونزا” والتي كانت ضمن الفرقة.. صاحبت نسخة (رونزا) اختلافات غريبة ومُربِكة عن نسخة فيروز الأصلية.. هنا نجد البنت البياعة لم تغنِ للشخص بل قام الفنان نصري شمس الدين– وهو يلعب دور المتصرِّف– بغناء “جبلية النسمة“.. ومع ذلك تستمر المسرحية في سياقها القديم ويتم حبس البنت ومصادرة العربة..
في 8 ديسمبر 1982 وصل الأخوان رحباني إلى القاهرة للمرة الأخيرة.. البروفات النهائية للمسرحية تجرى على قدم وساق.. جلال الشرقاوي يصرّح للصحافة أنه يتحدى فيروز، وأن إنتاج المسرحية هذه المرة سيتجاوز النسخة اللبنانية والنسخة الأردنية.. أمّا محمد نوح ذو الروح الثائرة الصعب السيطرة عليها قال “الأعمال الفنية ليست فيها عنصرية.. وللعلم فإن المقارنة لن تكون لصالحنا، ستقارنني عفاف راضي بفيروز، وسأقارَن أنا بنصري شمس الدين.. وفي هذه الحالة إذا نجحت المسرحية فلا فضل لنا فيها لأنها نجحت من قبل.. وإن فشلت فنحن السبب في فشلها، فالظلم واقع علينا لا محالة.. ولكنها محاولة منا للنهضة بالمسرح الغنائي..”.
يوم الافتتاح، 15 ديسمبر 1982، جلس الأخوان رحباني في الصف الأول مع الجمهور وبجوارهما وزير الثقافة محمد عبد الحميد رضوان، ووزير الدفاع المشير عبد الحليم أبو غزالة ونائب رئيس الوزراء، بينما قاد الأوركسترا مصطفى ناجي.. قيادة الأوركسترا كانت من أجل مشهد حفل الافتتاح فقط؛ فألحان وأغاني المسرحية جميعها مسجلة.. في العروض التالية لم يكن هناك أوركسترا..
التزمت النسخة المصرية تقريبًا بالنص الأصلي للمسرحية، وغنت البنت البياعة للشخص.. وهنا ظهرت الحاجة إلى أغنية أخرى غير (جبلية النسمة) التي لن يفهمها الجمهور المصري ولن يفلح معها التمصير بالتأكيد؛ لأن فكرة المشهد تعتمد على غناء البنت لأغنية شعبية بما يناسب ثقافتها.. كتب الأخوان لعفاف راضي أغنية جديدة هي “يا وابور الساعة 12″ حيث استخدما المقطع الفلكلوري وبنيا عليه باقي الأغنية من كلماتهما وألحانهما.. أيضًا استبدلا بأغنية “بكرا أنت وجايي” لفيروز أغنية جديدة هي “غرب الجزيرة” واستبدلا بأغنية “سوا ربينا” أغنية “الصاري عالي“.. كانت تلك هي الأغاني الثلاثة الجديدة التي وضعاها خصيصًا لعفاف راضي..
تلقى الجمهور المصري المسرحية كعرض جديد، فلم يكن هناك مجال للمقارنة مع نسخة فيروز لأنها لم تكن معروفة أو متداولة بتاتًا في مصر.. والحقيقة أن تمصير الحوار الذي أعدّه أمل دنقل وعاونه فيه الشاعر شوقي خميس جاء هجينًا مضطربًا، فلا هو احتفظ بلغة الرحبانيين الشاعرية ولا هو مصري خالص خفيف الظل، وليس أدلّ على ذلك من أول جملة تنطقها عفاف راضي في المسرحية، وهي تنادي على بضاعتها وتغني “يا طماطم بندورا” وكان من الممكن الاستغناء عن كلمة بندورا تمامًا مع الاحتفاظ باللحن وتغيير الكلمات، لكن الممصِّر قرر الاحتفاظ بالقافية الأصلية للنص الأصلي (بندورا–غندورة–مغرورة) مع أن كلمة بندورا غير معروفة ولا مستخدمة في مصر.. بل ربما لو تولّى الأخوان تمصير النص بنفسيهما لكانت النتيجة أفضل بكثير، لكنهما أرادا ألا يكون لهما مسؤولية كاملة عن العمل، وأن يكون تدخلهما في صورة ملاحظات، كي لا يقال إن الأخوين رحباني تمصّرا بعد العمر الطويل، وأن يخرج العمل في صورة مسرحية للأخوين رحباني تقدمها أصوات ورؤية مصرية..
نجحت المسرحية في مصر جماهيريًّا ونقديًّا، وحتى الصحافة اللبنانية أشادت بالعمل واعتبرته نصرًا لفن الأخوين رحباني الذي يغزو مصر.. غير أن الأمر لم يسلم أيضًا من بعض النقد الواجب، واللعنة التي ستلازم عفاف راضي لفترة طويلة كلما أجرت حوارًا، فكانوا يسألونها لماذا قبلت أن تلعب دورًا لعبته فيروز واضعةً نفسها هدفًا للمقارنة.. كتب محرر جريدة السياسة نقدًا موجعًا، ولكنه حقيقي لمن يعرف النسخة الأولى للمسرحية “بدا الشخص شخصًا آخر.. فيروز كانت في العمل خلّاقة، عفاف راضي كانت مؤدية.. فيروز كانت تعيش الحكاية، عفاف راضي كانت تحاول أن تمثلها.. الفارق هائل بين نصري شمس الدين ومحمد نوح، وهو أكثر هولًا بين الفرقة اللبنانية ودبكاتها الشعبية وبين ما عُرِض من رقصات.. الأولى كانت شيئًا جماليًّا خارقًا، والثانية كانت شيئًا تعبيريًّا… “الشخص” صُنِعت لفيروز، وإذا أراد الرحابنة أن يعطوا شيئًا مسرحيًّا لغير فيروز، فأبسط ما قالته لهم “الشخص” أعطوا شيئًا جديدًا، لا شيئًا قديمًا المقارنة فيه ليست لصالح المدرسة الرحبانية بشكل عام“.
بعد شهرين من عرض الشخص حدث خلاف بين منير راضي مدير الشركة المنتجة وبين الفنان محمد نوح، وتبادلا المحاضر والدعاوى القضائية، فأسند دور المحافظ إلى الفنان عادل عثمان.. واستمر عرض المسرحية على خشبة مسرح البالون لثلاثة أشهر، من 15 ديسمبر 1982 حتى 15 مارس 1983 بعدها انتهت مدة عقد استئجار المسرح، ولم يُجَدد العقد وتوقفت المسرحية..
سافر الأخوان رحباني وعادا إلى بيروت يوم 19 ديسمبر 1982 بعد الافتتاح بثلاثة أيام، بعد أن اطمئنّا إلى نجاح المسرحية والنص.. كانت مسرحية “الشخص” المصرية هي آخر عمل يخرج حاملًا اسم الأخوين رحباني.. بعدها دخل عاصي الرحباني في حلقات من الصمت الطويل والكلام القليل حتى وفاته في 21 يونيو 1986..
هاتوا القلم والدواه.. أكتب لحبيبي دوا..
احنا ابتدينا الهوا.. واحنا انتهينا..