أنت فريد،
أنت الذي خلقت نفسك من نفسك،
دون أن يعرف أي فرد جوهرك..
مَن الأقدم؛ النيل أم توماس كوك؟ النيل طبعًا؛ يقول العلماء إن عمره ستة ملايين عام؛ فقد ظهر إلى الحياة عندما انقطعت صلة البحر المتوسط ببقية بحار العالم وانسد مضيق جبل طارق.. ولكن هذه قصة يطول شرحها.. ومَن الأبقى؟ منذ أسابيع أعلنت توماس كوك؛ لمؤسسها السيد توماس كوك (22 فبراير 1808- 18 يوليو 1892) أقدم شركة سياحة في العالم، إفلاسها، وتفرَّق مسافروها في كل مكان – نحو 600 ألف سائح– لا يعرفون طريقًا للعودة إلى بلادهم!
وماذا عن النيل؟ النيل هو ما جاء بتوماس كوك إلى مصر في أواخر القرن التاسع عشر، جاء توماس كوك في 1873، وأقام لشركتهThomas Cook &Son مكتبًا في لوكاندة شبرد Shepheard التي تطل على نيل القاهرة، وعُرفت منذ إنشائها في 1841 وحتى 1845 بـ“الفندق الإنجليزي الجديد“. المهم أن كوك كان في 1870 قد حصل على امتياز إدارة بواخر الحكومة المصرية بين القاهرة وأسوان، وبعد ذلك جاءت الكثير من الشركات لتبدأ نشاطًا لم يكن معروفًا من قبل قط في مصر، وهو السياحة. النيل أيضًا هو ما جاء بهذه الشركات، التي تنافست لتسير فيها بواخرها، وكأنها كانت تتفرج على مصر، والسودان– باعتبارهما بلدًا واحدًا آنذاك– من داخله، فانتشرت الفنادق، ونشأت الخدمات السياحية، وسارت الرحلات بامتداده شمالاً وجنوبًا، ولنحو 200 عام، وحتى الآن، يأتي الناس من كل مكان في العالم ليتفرجوا على النهر القوي، الذي يمشي عكس الاتجاه؛ من الجنوب إلى الشمال!
يا نيل،
أنا واللي أحبه نشبهك، في صفاك
لانت.. ورقت قلوبنا، لما رق هواك
وصَفْونا في المحبة هو هو صفاك
ملناش لا احنا ولا أنت في الحلاوة مثيل
يا نيل..
من أين تظنون تأتي مياه النيل؟ لعلكم تعتقدون أنها تأتي مثلما كانوا يتخيلون منذ آلاف السنين من ثلوج على قمم سلسلة جبال في منتصف أفريقيا؛ القارة الأم التي لم يعرف غيرها، أو أنه يأتي من مدينة جنجا في أوغندا، ثم يمر ببحيرات أخرى، حتى يصل إلى السودان، ويصبح “بحر الجبل“، ويلتقي بحر الغزال، ليصيرا “النيل الأبيض” الذي يمتد حتى الخرطوم، وفي إثيوبيا يخرج من بحيرة تانا فرع جديد هو “النيل الأزرق“، الذي يلتقي بالنيل الأبيض فيشكلا الرافد الذي يصل إلى مصر في النهاية، ويصبح نهرها الوحيد، الذي اعتدل جريانه في مجراه، وظهرت السهول على ضفَّتيه.. هذا كلام الجغرافيين والجيولوجيين؛ كلام العلم، لكن المصريين زمان كان لهم رأي آخر؛ فتقول إحدى النسخ المتعددة للأسطورة إن إيزيس، ربة الخصب، الربة الأم، ربة السحر والحكمة، ربة السماء، كانت متزوجة من أوزيريس إله الخير والبعث والحساب، رئيس محكمة الموتى، وملك الأبدية، وقد عاشا لفترات طويلة بين البشر، فصارا أنصاف بشر.. وحدث أن اختار الناس أوزيريس ليكون حاكما للبلاد. وفي عهده عم البلاد الخير والنعيم، إلى أن ظهر أخوه الشرير، قبيح الخلقة مشروم الشفة ست، الذي احتال على أخيه فأهداه عباءة من قماش نفيس جدًّا، وحازت الهدية إعجاب الملك الإله، فدعاه ست إلى سهرة، لم تطمئن إليها إيزيس، ولكن أوزيريس لم يلتفت إلى قلقها غير المبرر.. وفى السهرة دارت الكؤوس ومعها الرؤوس، ثم عرض ست تابوتًا أعده مسبقًا على ضيوفه الذين أعجبوا به، وقال إنه سيهدى هذا التابوت الذهبي المزخرف بالنقوش إلى الشخص الذي يطابق الصندوق مقاسات جسده، وبعد أن جرب كل الموجودين التابوت اتضح أنه لا يوافق جسد أي منهم، فأشار ست على أخيه الملك بأن يجرب لعله يفوز به، في البداية أعرض الملك عن الفكرة، ثم انصاع لرغبة أخيه، ونام في التابوت، الذي كان على مقاسه تمامًا، وما إن فعل، حتى أغلق ست الغطاء على جسد أخيه، وأغلق الأقفال، وصبَّ عليه الرصاص السائل ليحكم إغلاقه. وطبعًا مات الملك، فجلست إيزيس تبكيه، وسالت دموعها التي فاضت وفاضت فكوَّنت النهر المقدس!
في رواية أخرى للأسطورة، أن ست قطع جسد أخيه إلى أربعين قطعة، ورمى بقضيبه، رمز القوة والتجدد، في النيل، فأكلته سمكة الأوكسيرنخوسoxyrhynchus fish- واضح من اسمها أنها سمكة شريرة–، وقد حرَّم الكهنة أكلها عقابًا لها عل جريمتها، وهي في رواية أخرى سمكة القرموط، وحرَّم المصريون أكلها على أنفسهم للسبب نفسه. لكن إيزيس لم تيأس، وهامت في كل إقليم لتجمع أشلاء زوجها حبيبها، حتى جمعتها كلها، ويقال إنها صنعت قضيبًا من الذهب وبثَّت فيه الروح من جديد.
حابي يأتي كل عام
النيل منح المصريين أسئلتهم الأولى، وأساطيرهم الأولى، وآلهتهم الأول، وثقافاتهم، وقبل كل ذلك منحهم طعامهم. لذا انتظروه كل عام، حين يأتي بالخير، ويفيض، ويوفي أذرعه، وكان له أنواع من الفيضانات؛ الفيضان الطيب الذي يأتي بالرزق والطمي والماء والزرع، والفيضان العالي الذي يُغرِق الأرض ويدمر القرى، والفيضان المنخفض، الشحيح الذي لا يحمل سوى المجاعة والخراب.. وكانوا في هذه الحال يقدمون القرابين ويبتهلون كي يفيض ثانية، أو يركب الملك النيل متوجهًا إلى مجراه العلوي، حتى يصل إلى جبل السلسلة، قرب منابع النيل، فيغيب في مضيقه الضيق، ويرشوه أو يستميله بالهدايا، كأن يقدِّم إليه ثورًا، ويقذف في أمواجه بردية تمتلئ بكلام سحري يشجع النهر على الخروج من الأرض، وهو طقس كان المصريون يمارسونه دائمًا، يرسلون برسائلهم إلى النيل، يكتبون أمانيهم ومشكلاتهم وشكاواهم؛ وهو ما استبدل لاحقًا بالرسائل التي يرسلونها للقديسين والأولياء حتى الآن..
قبل الفيضان كان الكهنة يتخذون من مدخل الهرم الأكبر منظارًا فلكيًّا، وعندما يظهر ضوء نجم الشعري اليمانية يعرفون أن الفيضان اكتمل. وهنا وجب الاحتفال.. لم يعرف المصريون احتفالاً أقدم من الاحتفال بوفاء النيل– واستمر الاحتفال به حتى الآن، لكن في شكل رسمي رديء خلا تمامًا من عفويته وطقوسه– الذي كانوا يحتفلون به في النصف الثاني من شهر بؤونة /أغسطس من كل عام. يبدأ الاحتفال رسميًّا –إذ يبدو أنها عادة مصرية صميمة، لم تنقطع، ولا يبدو أنها ستنقطع– بمركب الكهنة الحاملين لزورق آمون رع المقدس، وفي هذا الموكب يسير الملك تتقدمه تماثيل قدماء الملوك، ويبدأ الاحتفال بذبح عجل أبيض، وهذا في حضور الشعب الذي يرقص ويغني، وينشد الأناشيد، –لا أعرف على وجه الدقة الفرق بين الأناشيد والأغاني.. الأناشيد تليق بالاحتفالات الرسمية، وربما تطورت في العصر الحديث إلى الأوبريتات– ويذبح القرابين، ويقدم لنهره الفاكهة والأزهار، والكعك والتمائم، ويصلي لإلهه، واهب الحياة.. الذي يأتي من الظلمات ليملأ الكون بالخيرات.
*حبيبتي على ضفة النيل الأخرى،
وبيني وبينها النهر والتماسيح،
ولكني سأخوض الماء وأتحدى التماسيح،
فحبك يمنحني القوة والشجاعة.
أنتظرك يا معبودتي في شوق عارم،
وعندما أسمع خطواتك،
يقفز قلبي بين الضلوع.
عندما يضمني ذراعك وتحتضنيني،
يصيبني الخدر، وأهيم في عالم آخر،
في حديقة فواحة بالزهور، بعيدًا، في بلاد بونت.
أتمنى لو كنت مجرد خاتم لإصبعك الصغير،
حتى يتسنى لي ملامسة أناملك في خلسة من الآخرين.
*أشعار الحب في مصر القديمة. ترجمة فكري حسن.
النيل، في نسخته المصرية، يقطع الصحراء اللانهائية، يشقها إلى نصفين، وكأنه سيف؛ هو الممر المزدوج الذي يصل الحياة بالموت؛ الحياة في البر الشرقي له، والموت والموتى في البر الغربي.. وهو أبو الآلهة، جامع المياه، حعبي/ حابي، إله الرزق، وإله الماء، وسيد الأسماك وطيور المستنقعات، رب الخصوبة الذي صُوِّر وهو يحمل مائدة عليها كل أصناف القرابين.. الجالس على كرسي العرش يربط البردي باللوتس، ليصل الشمال بالجنوب ويوحِّد البلاد.. وهو أحد ثلاثة يصنعون الثالوث المقدس “الأرض، الشمس، النيل“. أبو البهجة في نفوس الناس. رسمه القدماء بحروف متعرجة، تنطق “نون“، ومع الوقت حرِّفت وصارت ماءً، مع أنها ماء في الأصل!
مجددًا، تقول الأسطورة إن المصريين قدموا بناتهم قربانًا للنيل؛ وكانوا في كل موسم يختارون فتاة جميلة، وعذراء طبعًا، يزينونها، ويلبسونها أجمل الثياب ويلقون بها في النهر، ليفيض، وتذهب الفتاة إلى العالم الآخر، فتتزوج من الإله حابي.. لكن كيف تتزوج الفتاة “عروس النيل” من الإله الذي صوروه حينًا على شكل رجل ذي ذراعين طويلتين موفور الصحة، وحينًا على شكل كائن أخضر أو أزرق، ليس معروفًا إن كان رجلاً أم امرأة، يحمل فوق رأسه نباتات مائية؛ بردي ولوتس، بذراعين قويتين وساقين كذلك، لكن صدره وبطنه أنثويا الطابع؛ بثديين متدليتين، وبطن بيضاوية خصبة، وكأنها لامرأة..
فاصل فكاهي
بعد غزو العرب لمصر 642م، يروي ابن كثير في كتاب البداية والنهاية هذه الرواية، التي لا تسمى بالأسطورة في الخطاب الإسلامي، وإن ضعَّفها المسندون فيما بعد، تعليقًا على طقس إلقاء العروس في النيل قربانًا “روينا من طريق ابن لهيعة عن قيس بن الحجاج عمن حدثه قال: لما افتتحت مصر أتى أهلها عمرو بن العاص – حين دخل بؤونة من أشهر العجم – فقالوا: أيها الأمير، لنيلنا هذا سُنَّة لا يجري إلا بها. قال: وما ذاك؟ قالوا: إذا كانت اثنتي عشرة ليلة خلت من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر من أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل .فقال لهم عمرو: إن هذا مما لا يكون في الإسلام، إن الإسلام يهدم ما قبله .قال: فأقاموا بؤونة وأبيب ومسرى والنيل لا يجري قليلاً ولا كثيرًا، حتى همَّوا بالجلاء، فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه: إنك قد أصبت بالذي فعلت، وإني قد بعثت إليك بطاقة داخل كتابي، فألقها في النيل .فلما قدم كتابه أخذ عمرو البطاقة، فإذا فيها: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر: أما بعد، فإن كنت إنما تجري من قبلك ومن أمرك فلا تجر فلا حاجة لنا فيك، وإن كنت إنما تجري بأمر الله الواحد القهار، وهو الذي يجريك فنسأل الله تعالى أن يجريك“. قال: فألقى البطاقة في النيل، فأصبحوا يوم السبت وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعًا في ليلة واحدة، وقطع الله تلك السُّنة عن أهل مصر إلى اليوم“.. ليس في الإسلام إذن أن تلقى الفتيات في الأنهار، لكن فيه أن يرسل الخليفة برسالة تهديد إلى النهر، ويستجيب النهر، الرسالة نفسها التي كان المصريون يرسلونها في عيد وفاء النيل على ورق البردي، مبتهلين للنيل أن يستمر في فيضانه على الدوام!
والآن..
في الثانية صباحًا يوم 23 سبتمبر، أعلنت مجموعة توماس كوك أن كل محاولات إنقاذها قد فشلت، بعد أن رفض بنك فوسان إقراضها 200 مليون جنيه إسترليني، وامتنعت الحكومة البريطانية، التي كانت راغبة في المساعدة، عن دفع المبلغ الذي سيؤثر بلا شك على خزانتها العامة، وفي النهاية أعلنت الشركة إفلاسها.. أما النيل فقد تغيَّرت صورته الذهنية على مر العصور، وصار الآن في جزء منه قِبلة للمستثمرين وأصحاب المطاعم الكبرى، والكاڤيتريات الملونة، ورجال الأعمال الذين يملكون ثمن واجهته، لا يطل عليه إلا رأس المال القادم من أماكن أخرى، مستهدفًا التاريخ والتراكم.. وصار في جزء آخر مصرفًا للمياه الوسخة والبهائم النافقة ومخلفات المصانع؛ لم يعد إلهًا مهابًا..
وفي تلك الأثناء كانت الدماء الحية الشابة – والحارة بحكم الموقع– تجري في شرايين القارة التي طالما أمعن المصريون في تجاهل الانتماء إليها. أفريقيا أصبحت شخصًا آخر، ومصر أصبحت شخصًا آخر، انقلب الحال، فيما يمكن أن يٌطلق عليه “الحالة الغريبة للدولة المصرية The curious case of Egypt”..
في 1929 وقَّعت مصر مع الحكومة البريطانية الاستعمارية “ممثلة عن دول حوض النيل، أوغندا وتنزانيا وكينيا” اتفاقية تقسيم مياه النيل.. وهي تتضمن إقرارًا بحصة مصر في مياه النيل، وإقرارًا بحقها في الاعتراض حال إنشاء أي مشروعات على النيل، أو أي من روافده “ لا تقام بغير اتفاق سابق مع الحكومة المصرية أعمال ري أو توليد قوى أو أي إجراءات على النيل وفروعه، أو على البحيرات التي تنبع سواء من السودان أو البلاد الواقعة تحت الإدارة البريطانية، من شأنها إنقاص مقدار المياه الذي يصل إلى مصر، أو تعديل تاريخ وصوله أو تخفيض منسوبه على أي وجه يلحق ضررًا بمصالح مصر“.. وقَّعت مصر هذه الاتفاقية في لحظة سياسية متغيرة بلا شك؛ ربما رأت فيها لحظة أبدية، فلم تنظر للمستقبل قط، ولم تضع الأنظمة ذات المشاغل الأخرى في حساباتها، منذ العشرينيات وحتى الآن، أن مياهًا كثيرة جدًّا قد جرت، فعلاً، في النهر.
الصور المنشورة من أرشيف توماس كوك و مجلات أخرى إضافة إلى مجموعة من الكتاب التذكاري “ فوتوغرافيا مصر: صور وذكريات 175 عام “إصدار مركز الهلال للتراث الصحفي (2017)؛ مجموعة من صور رحلات النيل عندما كان يحتكرها شركة توماس كوك، وقال محرر الكتاب أن الشركة اختارت صور أنتونيو بيتو صاحب البوم “الحياة على النيل” لتتضمنها كتيبات خاصة بالمسافرين؛ والتي عنونتها بإسم “على النيل بالبخار 1872” وهي من أوائل كتيبات ارشاد المسافرين المصورة في زمانها كما استخدمت المصور بيتو ايضا لصناعة كتيب اخر هو نصائح للمسافرين في مصر العام 1890 واستمرت في طباعتها للصور كما هي حتى العام 1906″