1
المعلومات عن نشأة حياة محمد شحيحة للغاية؛ فأغلب الظن أنها كانت من بين اللائي لا يرغبن في إقامة جسور تواصل مع الوسط الصحفي. تاريخ ميلادها غير معروف؛ لكن تقديريًّا يمكن القول إنها ولدت في النصف الأول من القرن العشرين؛ فقد كانت والدتها مطربة ذائعة الصيت، وكان يتردد إلى منزلها كبار رجال الموسيقى والطرب. ومن بين هؤلاء عازف القانون الشهير إبراهيم العريان. وكانت الطفلة حياة تنتهز الفرصة لتعزف على القانون بعد أن تنفرد به في واحدة من الغرف المحيطة. وعند بلغت السابعة من عمرها كان الأستاذ «العريان» قد علّمها بعض القطع التي تعزفها
على آلة القانون، حتى حفظت العديد من الأغنيات مع مرور الوقت. وكان تعليمها في المدرسة يعدُّها لتكون ربة منزلة وليست عازفة أو مطربة. وذات يوم فارقت والدتها الحياة بعد أن اشترت منزلًا كبيرًا، لكنها لم تسجل عقد البيت بشكل قانوني، وعلم أبناؤها أن هذه المسألة تحتاج إلى سنوات من الإجراءات القانونية حينها حتى تعود الأمور إلى نصابها السليم. وهكذا ولت أيام البزخ سريعًا وإيجار المنزل لم يعد كافيًّا للإنفاق عليهم جميعًا فقررت حياة الالتحاق بمعهد الموسيقى الملكي لاحتراف الغناء بهدف الإنفاق على الأسرة. وهناك قصدت الأستاذ مصطفى بك رضا الذي ألحقها بالمعهد كأول فتاة منذ إقامته. وظلت حياة تدرس أصول الفن وقواعده لمدة عامين. وفي عام 1934 ظهرت للمرة الأولى في حفلة عامة من ضمن الحفلات التي كان يقيمها النادي خلال شهر رمضان المعظم. وتوالت حفلاتها الناجحة بعد ذلك حتى انضمت إلى الإذاعة الحكومية المصرية، ومن ثم غادرت إلى المعرض الكبير الذي أقيم في دمشق عام 1936 وكذلك إلى الأراضي اللبنانية (دون توقيع: حديث طريف للمطربة المعروفة الآنسة حياة محمد، الراديو المصري، 28/5/1938، ص ص 5 – 12). ومن خلال الحديث السابق يتضح عدّة نقاط ينبغي التركيز عليها، أن حياة محمد لم تكن – على ما يبدو – ترغب في أن تكون مطربة؛ ولكن الظروف الاقتصادية التي ألمت بالأسرة دفعتها للالتحاق بالمعهد واتخاذ الموسيقى مهنة أساسية. كما أننا لا نعرف مدى إجادة حياة محمد العزف على آلة القانون، وكذلك لا نعرف هل كانت تعزف في أثناء الغناء أم لا؟ فهناك فنانات احترفن هذه الآلة فيما بعد أمثال سميحة القرشي. وليس هناك تفاصيل عن كيفية انضمام حياة محمد إلى الإذاعة الحكومية المصرية سوى اقتران انضمامها بنجاح حفلاتها العامة.
خلال حياتها الفنية غنت لكوكبة من كبار الملحنين، إلا أن المفارقة العجيبة التي اقترنت بها هي غياب صوتها من أشرطة الإذاعة المصرية والأسطوانات التجارية. فقد زاولت نشاطها الفني في الفترة من منتصف الثلاثينيات حتى مطلع الأربعينيات من القرن المنصرم. ومن المعروف أن شركات الأسطوانات التجارية كان نشاطها قد بدأ في الانحسار تدريجيًّا مع دخول السينما الغنائية الناطقة عام 1932 إلى جانب انطلاق الإذاعة الحكومية المصرية عام 1934. وإذا أضفنا إلى ذلك أن الإذاعة الحكومية المصرية لم تبدأ في تسجيل أعمالها التي كانت تبث على الهواء مباشرة إلا في مطلع الخمسينيات باستثناء بعض مختاراتها فإن المحصلة النهائية تكون غياب الأرشيف الصوتي لهذه المطربة المميزة. وكانت جداول الإذاعة تبث أغنيات حياة محمد على الهواء مباشرة طوال فترة الثلاثينيات والأربعينيات بعد أن احتجبت عن الحياة الفنية. وقد غنّت من ألحان القصبجي مونولوجي «أحب فيك الأمان» و«أدي الفؤاد سلم إليك» وهما من كلمات إحسان العقاد ومونولوج «ليه تلومني يا لايم» من كلمات يوسف بدروس ومونولوج «ياللي غيابك طال» من كلمات أحمد رامي إلى جانب قصيدة «صداحة تتثنى في الروض ما أحلاها» من نظم الشاعر علي منصور. وإلى جانب ألحان القصبجي تعاونت مع زكريا أحمد الذي لحن لها قصيدة «من اليوم تعارفنا» نظم البهاء زهير ودور «كل يوم أبكي من صدود حبي». كما تعاونت مع داود حسني في مجموعة من الأدوار أبرزها «سلمت روحك يا فؤادي للغرام» و«أسير العشق ياما يشوف هوان» وغنت من ألحان عبده قطر طقطوقة «خايف يطول البعاد» و«أنشودة عودة الحجاج» من كلمات محمد يونس القاضي بينما انفرد رياض السنباطي بالقائمة الأطول من حيث العدد. فقد وصل الألحان التي تعاونت خلالها حياة مع السنباطي إلى ما يقرب من ستة عشر لحنًا تنوّعت بين القصائد والطقاطيق والمونولوجات. ولعل أبرز هذه القصائد «أداري العيون الفاترات السواجيا» من نظم أحمد شوقي و«أي سحر بعثت شمس الأصيل» من نظم أحمد فتحي و«وفاء النيل» من نظم محمد فتح الباب و«بين أزهار ونبت وظلال» من نظم فاضل سليم و«جددي يا مصر أعياد الزمان» من نظم أحمد رامي و«خليلك من صفا لك في البعاد» من نظم البهاء زهير، و«لك روحي فاصنع بها ما تشاء» من نظم محمود سامي البارودي، و«هتف الشعب وغنى» من نظم محمود محمد سلامة وغيرها من الأعمال المميّزة، أمثال ديالوج «محلاها الدنيا في عينيا بهجة وأفراح» مع كارم محمود من كلمات عبد الفتاح مصطفى وألحان عبد الحميد توفيق زكي، وقصيدة «عقد السحر لجفنيك اللواء» من نظم خليل شيبوب وألحان السيدة ثروت كوجك، بالإضافة إلى مجموعة متنوّعة من الأعمال الغنائية العذبة.
2
والغريب في أمر حياة محمد ليس غياب التسجيلات الإذاعية فقط، بل أيضًا تعثّر المحطات السينمائية التي شاركت بها. فعلى الرغم من مشاركتها في ثلاث أعمال سينمائية أولها فيلم «ليلى بنت الصحراء» من بطولة بهيجة حافظ عام 1937 عن طريق الصوت فقط، إذ تم عمل دوبلاج لصوتها في أثناء غناء قصيدة «ليت للبراق عينا» على صورة الممثلة راقية إبراهيم من شعر ليلى بنت لكيز بن مرة بن أسد العفيفة وألحان القصبجي. ولكن هذا الفيلم تعرض للمنع؛ إذ رأت الخارجية الإيرانية حينها أن الفيلم يسيء إلى العرش الإيراني، لأنه يتناول قصة فتاة عربية في الصحراء يحاول كسرى آنو شوران التعدي عليها جنسيًّا فتقاوم رغباته الدنيئة. وقد أعيد عرض الفيلم مرة أخرى عام 1944 بعد أن تغيرت بعض المشاهد وتعدل الاسم إلى «ليلى البدوية» (علي أبو شادي: وقائع السينما المصرية في مئة عام، الطبعة الأولى، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 1997، ص ص 107 – 111).
ولم تتوقف الأزمات عند هذا الحد فبعد أن أدت حياة القصيدة خلال شريط الفيلم، سجلت المطربة أسمهان القصيدة ذاتها لصالح شركة بيضافون عام 1938 فلاقت نجاحًا منقطع النظير مما جعل حياة تلجأ إلى المحاكم لمقاضاتها نتيجة للأضرار الأدبية والمادية التي لحقت بها. ولم تكن حياة محمد تعلم أن هذه القضية خاسرة من البداية؛ فالمحامي الخاص بأسمهان قدم لهيئة المحكمة العديد من الأسطوانات التي تضم ألحانًا سجلتها أصوات عدّة منذ عام 1904 مع بدايات التسجيلات التجارية في مصر (سعيد الشحات: أم كلثوم وحكام مصر، الطبعة الثانية، القاهرة: مكتبة جزيرة الورد، 2010، ص 128). وبعد هذه المحطة السينمائية شاركت بالصوت أيضًا في فيلمي «مصنع الزوجات» عام 1941 من إخراج نيازي مصطفى وبطولة كوكا ودولت أبيض وأنور وجدي، لكن شريط الفيلم النيجاتيف تعرض للتلف بسبب أحداث حريق القاهرة عام 1951 وفيه غنت «زيدي أنوارك زيدي زيدينا» من ألحان السنباطي، كما شاركت بالصوت كذلك في فيلم «عريس من إسطنبول» في العام ذاته من بطولة وإخراج يوسف وهبي. ولعل هذا الفيلم هو الخزانة الباقية التي يمكن من خلالها الاستماع إلى صوتها في أغنيتي «يا ليل اشهد يا ليل» من كلمات زكي إبراهيم وألحان رياض السنباطي و«يا فرحتي باللي بحبه» من كلمات يوسف بدروس وألحان فريد الأطرش.
بقي أن نقول إن الفترة القصيرة التي أمضتها حياة محمد في الوسط الفني نجحت في خلالها أن تثريه بالعديد من الأعمال الخالدة قبل أن تنسحب مع منتصف الأربعينيات وتتفرع لحياتها الأسرية، فقد تزوجت من الشاعر علي منصور المحامي، ولم يتطرق أحد إلى حياتها فيما بعد إذ آثرت الانزواء بعيدًا عن الأضواء والشهرة حتى فارقت الحياة.