كيف يؤثر العزل الذاتي على جهازنا النفسي؟ وكيف نُعبِّر عن القلق والخوف الذي نعيشه نتيجة الضغط النفسي الناتج عن الأحداث الجديدة المفاجئة؟ فالوقت بدأ يطول، والموضوع دخل في الجد، وتباعًا بدأت تظهر أعراض جانبية لموضوع العزل الذاتي.
في البداية لا بد من الإشارة إلى أن الضغط النفسي يعتبر من أكثر الاضطرابات النفسية شيوعًا، بالإضافة إلى اضطرابات أخرى مثل القلق والمخاوف المرضية. الضغط النفسي موضوع العصر، واحتمالية إصابته لجميع شرائح المجتمع وتعقيد أمور الحياة وسيطرة الحالة التنافسية بين الأفراد احتمالات مرتفعة.
والأحداث والتغيرات السريعة والمفاجأة التي نمر بها هذه الأيام، تشكل مصدر ضغط نفسي كبير، يعبر عنه الأفراد من خلال القلق النفسي والمخاوف المرضية، والتوتر وصعوبات النوم والتفكير المستمر، وأحيانًا تصل إلى اضطرابات العلاقات الشخصية.
لكننا نستطيع تقسيم الناس الذين تظهر عليهم أعراض الضغط النفسي من قلق وخوف وغيره، إلى ثلاثة أنواع رئيسية قد تتفرع إلى أنواع فرعية أصغر؛ فهناك درجات لكل نوع وتداخل أيضًا فيما بينهم.
النوع الأول:
أشخاص قلقون إلى درجة أن حياتهم توقفت تمامًا، غير قادرة على فعل شيء سوى شراء أدوات النظافة، وتنظيف البيت وغسل يديها، والتفكير في المستقبل بسوداوية “الشغل سوف يقف ومش حلاقي أكل، ولو المرض جالى مش هعرف أتعالج ومفيش حد يهتم بي، وأكيد هموت“، وهؤلاء أغلب الوقت يتابعون الأخبار وأعداد الموتى في كل مكان، وكأن هذه المشكلة مر عليها فترة طويلة!
هذا النوع يأتي إلى العيادة منزعجًا جدًا من حالته “مش قادر أفكر غير في الموضوع دا، لازم أنظف المكان اللي بقعد فيه أكتر من مرة، مش قادر أروح شغلي لأني لازم أمسك القلم أو أضع إيدي على أي حاجة حولي، أنا مش عارف أعيش.. وزني قل ونومي متلخبط، دماغي لا تتوقف، أنا أصلاً بخاف من الوحدة.. وكمان مطلوب مني أبعد عن الناس.. بس عدم السلام ده مريح لي جدًا، جالي على الطبطاب“.
النوع الثاني:
وهو الذي يستطيع أن يتابع عمله اليومي بشكل معقول، ويلتزم بالتعليمات العامة، وأحيانًا ينجرف إلى الاندماج في الحياة بشكل طبيعي كما لو أنه لا توجد مشكلة، ولكن سرعان ما ينتبه لنفسه ويصحصح، ويرجع إلى تطبيق التعليمات مرة أخرى.
ولكن هذا النوع معاناته أكبر من التصور المعتاد، لأن هؤلاء اعتادوا الحياة الروتينية المعتادة النمطية “إن جاز التعبير”.
فهم يذهبون إلى عملهم في الميعاد ثم يتواصلون مع أصدقائهم وأحيانًا يمارسون اهتماماتهم من ممارسة رياضة أو غيره.. ثم يطلب منهم فجأة الحرمان من كل ذلك، بسبب ضرورة التباعد الاجتماعي، وهذا مؤلم!
ولكننا لا نستطيع إنكار قدرة هؤلاء على التكيف، وهم أحيانًا يدمجون التعليمات المطلوبة في منظومة الحياة الروتينية، بسبب امتلاكهم لقدرة فكرية على تقدير العواقب والتنبؤ بها.
النوع الثالث:
النائم في العسل، والذي يستخدم مفردات مثل “كله قسمه ونصيب، لكل أجل كتاب” وهذا النوع يتعامل مع نفسه بحزمة من الحيل الدفاعية والجدل، والدخول في حوار يغلق فيها أذنيه وقلبه بالضبة والمفتاح، كي يتجنب الإحساس بالقلق أو مواجهة المخاوف الذي تخترق مشاعره وأفكاره، فيغلفها بالإنكار أو التجنب وأحيانًا حتى الاستعلاء على هذه المشاعر سواء بالتهوين والاستخفاف منها.
وأحيانًا تتفاوت حالاتهم في التردد بين المواجدة Empathy والغضب والرفض الشديد. فعندما أضع نفسي مكانهم والبس نفس النظارة التي يرون من خلالها العالم، أرى ضعفي وخوفي مثلهم تمامًا وأحاول أن أطمئنهم وأفصح لهم عن وجه الشبه بيني وبينهم، لخلق جسر نعبر به معًا لقبول ضعفنا وخيبتنا القوية، أحيانًا ننجح في تلين الحيل الدفاعية وتصبح أكثر طواعية وتتحول إلى حيل إبداعية. على سبيل المثال؛ نستبدل كبت الخوف وإنكار الكلام فيه إلى التعبير عنه بالرسم، أو لعب الأدوار من خلال السيكودراما، وأحيانًا تزداد صلابة وعنفًا.
ثم ماذا؟
أولاً: جميعنا بداخله سعة فطرية تسمى Resilience، حتى الآن لم يُتفق على ترجمة عربية لها، بعض الدراسات ترجمتها المرونة النفسية، وأخرى المتانة النفسية؛ فهناك من يمتلك سعة فطرية أكثر من الآخر، لكن ما هي وظيفة هذه المرونة النفسية؟
تعني مدى قدرة الفرد على تحمل ضغوط الحياة والتعامل معها والعودة إلى طبيعتها مرة أخرى دون الوقوع في مضاعفات نفسية.
ولهذا لا يوجد ما هو حسن وما هو سيء في الأنواع الثلاثة المذكورة، أحيانًا نمر بالمراحل الثلاث في اليوم الواحد، وأحيانًا نمر بها في الموقف الواحد. وهذا حقنا، لكن الفارق المهم هو أننا نقوم بذلك ونحن على درجة جيدة من الوعي بأنفسنا، في كثير من المواقف نستخدم حيلاً دفاعية من أجل تحمل مواقف صعبة، لكننا نظل مدركين لها وأنها نتيجة للموقف الضاغط التي نمر به. أي أن السياق يسمح لنا بالتجاوب مع ما يناسبه، ولا نقف عند نوع واحد فقط. كما نستطيع أيضا تدريب سعتنا الفطرية لتستوعب طرقًا جديدة لتحويل الحيل الدفاعية المعطلة إلى حيل دفاعية محفزة للصحة النفسية.
ثانيًا: نمط وتركيب الشخصية عامل مهم جدًا للتعامل مع مثل هذه المواقف والأزمات، فالشخصية الهشة أو المرتبكة على سبيل المثال والتي لا تمتك مهارات حياتية، تعينها علي التعامل مع الضغوط، قد تظهر عليها أعراض جسمانية، مثل الصداع النصفي، أو الأرق أو الطفح الجلدي، أو نوبات الهلع، وتسمى الأعراض النفس جسدية “بديلاً لمشاعر الخوف والقلق المكبوتة والتي في أحيان كثيرة لا يربط الشخص بين هذه الأعراض ومخاوفه وقلقه” فيذهب إلى جميع التخصصات من أطباء لعلاج الأعراض التي يشعر بها وتؤلمه بشكل حقيقي، رافضًا أن تكون الأسباب نفسية، وكأن حالته النفسية بعيدة كل البعد عن جسده، الذي هو جزء من وجوده ووجدانه.
أما الشخصية التي بها بعض من السمات الوسواسية أو الاكتئابية، ويظهر عندها القلق والخوف الزائد والتمحور حول المشكلة، فقد تعطل حياتها وتوقفها إلى حد كبير. وكذلك الشخصية البارانوية التي تواجه الضغوط والقلق بنظرية المؤامرة، وغيرها من أنماط الشخصية المختلفة “كل يتجاوب حسب إمكاناته ومفاهيمه”.. وهنا لا بد من التأكيد علىأنهليسهناكصوابأوخطأ..
ثالثًا: البيئة التي يعيش فيها الفرد لها دور مهم، ولا بد أن نقف هنا بعض الشيء؛ فالمجتمعات التي لا يستطيع فيها الفرد الحصول على احتياجاته الأساسية، من مأكل وملبس ومنزل وأدوات النظافة الشخصية وغيره، لا يستطيع استيعاب وضع تعليمات وضوابط لا بد أن يلتزم بها، فهو يعيش معاناة أكبر في الحصول علي حق البقاء، وفي مجتمعاتنا للأسف الشديد أصبح النسبة الأكبر تمثل هذه الفئة.
ولهذا يشعر الفرد بالوحدة وعدم الإحساس بالأمان أو الدعم من الدولة والمجتمع، ويفتقر إلى المعلومات الصحيحة والشفافية في التعامل، ويزيد لديه الإحساس بالخوف والقلق، ويتأكد لذهنه إنه في مواجهة هذه المشكلة بكل تبعاتها بمفرده تمامًا، وينغمس في البحث عن حلول ذاتية وسريعة، وهذا يزيد الطين بله.
للأسف يفتقد الفرد في مجتمعاتنا إلى الثقة في مصادر المسؤولية، ولهذا نجد كثير من الفيديوهات منتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي تحمل معلومات وتنبيهات وطرق للوقاية من الأفراد أكثر بكثير من المسؤولين. ويعكس ذلك فقدان الثقة المتبادل بين الأفراد والمسؤولين.
لكن ماذا نفعل؟
الحفاظ على السلامة والحماية النفسية أهم شيء في مثل هذه الأوقات، وذلك يتحقق من خلال تدريب المرونة النفسية لتصبح أكثر سعة في وقت الضغوط والعودة إلى طبيعتها بعد الانتهاء من الوضع الضاغط.
هناك ثلاثة أضلاع للمثلث:
1 العلاقات الاجتماعية: على الرغم أن التواصل الاجتماعي يزيد من الصحة النفسية، وأننا دائمًا ندعو الأفراد إلى بناء علاقات اجتماعية جديدة، وتوثيق العلاقات الحالية، إلا أن المطلوب الآن هو التباعد الاجتماعى. ولهذا لا بد من الحافظ على التواصل مع الأصدقاء والأقارب والزملاء “بأي طريقة” وعدم الانفراد بمخاوفنا وقلقنا، بل يجب علينا مشاركة هذه المشاعر والأفكار مع أشخاص نثق بهم، وندعوهم إلى ذلك أيضًا.
علينا أن نشكر التكنولوجيا على وجود الإنترنت، لتمنحنا هذه الفرصة من التواصل. أو نقابل الأصدقاء بشكل فردي، أي دون تجمعات من وقت إلى آخر في أماكن مفتوحة، لأن احتياج الفرد للتواصل الحي والمباشر يملأه بالونس والحياة.
أحيانًا يساعد تقديم المساعدة للأخرين في وقت التعب النفسي على التعافي وطمأنة النفس.. على سبيل المثال إذا استطعت تقديم خدمة مثل الذهاب إلى السوبر ماركت بدلاً من كبار السن في المكان الذي تسكن فيه، يساعدك على عدم التمركز حول ذاتك، ويمنحك فرصة للشعور بأنك شخص مفيد “وإذا تطلب الأمر الذهاب إلى متخصص، نذهب على الفور”.
2 الروحانيات: الاهتمام بممارسة الهوايات والاهتمامات “حسب المتاح” أو اللجوء إلى خلق فرص جديدة، مثل التعامل مع الإنترنت بديلاً مؤقتًا لممارسة الرياضة أو اليوجا.. إلخ.
ظهرت الكثير من المبادرات من متخصصين في الفن والرياضة وتعليم اللغات وغيرها، بطرح طرق للتعلم عبر الإنترنت سعيًا إلى خلق حالة من التواصل مع الآخرين، ومساعدة الأفراد على استغلال وقت الفراغ والجلوس في المنزل لفترات طويلة بطريقة مناسبة وممتعة أيضًا.
حاول أن تفكر بطريقة مفيدة، واجعلها فرصة لتتعرف على نفسك واحتياجاتك النفسية بشكل أعمق.
يمكنك التدرب على كتابة جرد اليومي لمشاعرك وأفكارك في نهاية اليوم، “التي تتبع من احتياجاتك الفعلية” وإدارة الأزمة الآنية، لأننا نادرًا ما نعطي أنفسنا فرصة لقراءة مشاعرنا بشكل دقيق، وإعطاء هذه المشاعر الاسم المناسب لها؛ فنحن لا نفرق بين الفرحة والنشوة أو الغضب والضيق،
وهذا يحتاج إلى وقت وتدريب لكي نطور الوعي الذاتي لدينا، ومن ثَم فهي فرصة كي نطوِّر قدرتنا على إدراكنا لأنفسنا، وتظهر نتيجة ذلك في حل كثير من الصراعات النفسية الداخلية وعلاقاتنا بالعالم من حولنا. وهذا ما يعرف بالذكاء الوجداني Emotional intelligence
كل هذا يجعلك تتعرف على الأشياء التي تحتاج إلى أن تتعلمها كي تحمي نفسك من المضاعفات النفسية.
حاول أن تحتفظ بما كتبته وأعد قراءته فيما بعد، وقارن مدى تطورك في فهم نفسك، وامتلك مهارة تقييم الذات بدلاً من جلد الذات ولومها الدائم على تكرار السلوك نفسه وانتظار نتائج مختلفة.
لقد حانت الفرصة لاستغلال الوقت لتفعيل الأنشطةا لمؤجلة، مثل الاستماع إلى الموسيقى، أو القراءة، أو الصلاة، أو تقديم المساعدة للآخرين.. ومحاولة الاحتفال بالمناسبات الاجتماعية دون التعرض للمخاطر. هذا ما رأيناه عند الإيطاليين الذي يحتفلون بأعياد الميلاد في الشرفات.
شخصيًّا قمت بعمل لقاء جماعي مع صديقات عبر الإنترنت، تبادلنا فيه مشاعرنا وأفكارنا، وكان الحديث في البداية أغلبه شكاوى من المخاوف والقلق، ولكنه انتهي بالضحك والراحة.. أحيانًا أوقات الضغوط تجعلنا أكثر إبداعًا.
3 البيولوجي: الاهتمام بالنظافة الشخصية “التي تعتبر حملاً ماديًّا ومعنويًّا على الكثيرين في مجتمعاتنا، فهي ليست من الأولويات في تلبية احتياجات الفرد”.. والذهاب إلى الطبيب عند الحاجة، ووضع حدود مع الآخر، وتوكيد للذات والحفاظ على الخصوصية.. لا تصافح باليد إرضاءً للآخرين أو خوفًا من الحكم عليك بأنك خواف أو ضعيف.
لا تجعل أحد يفرض عليك قواعده ونظامه. لا تجب عن أسئلة لا تريد أن تجيب عليه.. تعلم أن تقول لا.
جاءت لي فتاة رقيقة تشكو من عدم قدرتها على التوقف عن المصافحة باليد “شغلي يا دكتورة يحتم عليَّ ذلك، وغير ذلك يعتبرني العميل أستهتر به، يسخر مني قائلاً هل أنت خائفة إلى هذه الدرجة؟ ولا أستطيع أقول له نعم، عدم السلام يحمي من انتقال الفيروس.. أنت عارفة ثقافتنا قائمة على التقبيل والأحضان الحميمية في اللقاءات.. وأحيانًا نكررها مع الشخص في نفس اليوم”. لهذا نحن أمام تحديات عديدة؛ على المستوى الشخصي والمجتمعي أيضًا، وأمام ثقافة وعادات وتقاليد وأعراف أقوى بكثير من القوانين واللوائح.
من الممكن إعداد قائمة شخصية من المهام اليومية، نستعرض فيها الأشياء التي نريد القيام بها. والأشياء التي نجد أنها تمثل خطورة علينا؛ مثل الذهاب إلى السينما، وأحاول البحث عن بديل لها أو تأجيلها إلى الغد، كي لا أدخل في صراع مفاده حرماني من ممارسة حياتي الطبيعية، أستطيع أن أقول لنفسي “النهاردا بس مش هعمل دا، لكن بكرة أعمله، ويمكن بكرة الفكرة ما تبقاش بنفس الإلحاح”.
في النهاية، أحيانًا تورطنا الأوقات الصعبة الضاغطة، وتحفزنا لتحريك دافعية العمل بالوعي بالذات أكثر وأكثر، ومن ثَم نستطيع إدارة والتحكم في مشاعرنا وأفكارنا بشكل أكثر أريحية وواقعية، مما يزيد من فرصنا لاكتشاف إمكانات ومهارات وقدرات شخصية لم نكن على وعي بها.
صورة الغلاف من موقع فليكر، للمصور ستيفان كامر، عام 2013.