في مجلتنا الجديدة نشاركك مقالات وأفكار تبحث عن الجمال والحرية، وتفتح مساحات لاكتشاف سرديات جديدة بعيدًا عن القوالب الجاهزة.
لنفترض أننا استيقظنا غدًا (بالمعنى الحرفي لكلمة غدًا)، على خبر الاختفاء التام لوباء الكورونا!
ولنفترض أيضًا أن هذا النبأ صادق في حد ذاته، ويشير إلى واقع حادث بالفعل، أو أنه يفي بمتطلباتنا أو شروطنا الذاتية للتصديق أيًّا كانت، بمعنى أنه إذا كان لدى كل منَّا ما ينتظره أو يتوقعه أو يشترطه من أجل التصديق أو الإقرار بشيء كهذا؛ فإن هذا الخبر –وفقًا لافتراضنا– سيكون قادرًا على الوفاء بهذه الشروط جميعًا.
والسؤال الآن: ماذا سيكون موقفنا المباشر من هذا الخبر؟
علينا أن نشير أولاً إلى أن انمحاء الوباء الحالي هو الحدث السعيد الذي يتوقعه الجميع بلا استثناء، ولذلك فمن “البديهي” أن ظهور خبر يطابق هذا المتوقع سيجعل استقباله سلسًا للغاية فنصدقه على الفور، ولكن مع هذا فإن الكيفية التي سنستقبل بها هذا الخبر تبدو محكومة بعوامل كثيرة شديدة التعقيد والتداخل، وبالتالي فإذا ما تأملنا قليلاً في تلك الحالة الافتراضية، فقد نجد أن هذه البداهة تتراجع على نحو غريب لتحل محلها بداهة أخرى معاكسة، إذ سنجد تفكيرنا أميل إلى أننا جميعا سنستغرق وقتًا –قد يطول أو يقصر– قبل أن نتمكن من إبداء تقييم متوازن إزاء هذا الخبر، أولاً، ثم فحص مبررات تصديقه وإقرارها، ثانيًا، أما رد فعلنا اللحظي فقد لا يتجاوز الإنكار والنفي والتمني والسخرية العنيفة والقاسية، ناهيك بالانخطاف تجاه التفسيرات التي تسعى إلى تقصي وتجسيد تلك المؤامرات التي تريد الإيقاع بنا لغرض ما (وبعيدًا عن التفكير الافتراضي فواقعيًّا لا يزال أغلبنا يجد صعوبة كبيرة في تصديق أن الصين قد سيطرت بالفعل على انتشار الوباء!).
وهكذا فإن تلك الحالة الافتراضية التي بدأنا بها تأملنا تضعنا أمام ظاهرة دقيقة وغريبة بعض الشيء، ظاهرة تحول البداهات وتعارضها أو حلول بعضها محل البعض الآخر، وهو سياق لم تهتم الفلسفة –لا قليلاً– بالتوقف عنده، فباستثناء بعض العناية الكانطية ثم الهيجلية بمسألة التحول الذاتي لمثل هذه الأفكار فقد كانت البداهة الثابتة والمستقرة والتي تتطابق دائمًا مع ذاتها بمثابة نقطة الأصل التي تبدأ الفلسفة منها وتنتهي إليها.
ولكن لنتقدم خطوة أخرى في تأملنا ونذهب إلى الحالة العكسية التي تقابل الفرضية التي بدأنا بها، أي خبر ظهور وباء الكورونا، وهي حالة سبق أن وقعت وعايشناها بالفعل في كل تفاصيلها، فهنا أيضًا سنلاحظ أن هذا الخبر كان صادقًا منذ لحظة ظهوره الأولى، بقدر ما كان مؤثرًا ولا يمكن تجاهله أو التقليل من أهميته، وبالرغم من ذلك فقد استغرقنا وقتًا طويلاً نسبيًّا قبل الإقرار بصدقه والاعتراف بأهميته، والتحول من التفكير فيه بوصفه شأنًا يخص الآخرين إلى أمر يخصنا، إن لم نقل إننا أنفقنا الكثير من الجهد في إنكاره؛ كل قدر استطاعته!
وبالنظر إلى هاتين الحالتين المتعلقتين بخبر بداية الوباء ونهايته، سيبدو واضحًا أن هناك فارقًا ملحوظًا بين وقت أو لحظة اكتمال وقوع بعض الأحداث في الواقع، ووقت أو لحظة اكتمال الاستجابة لها في الوعي، أي بين زمن الظهور، وزمن الحضور، وأن هذا الفارق في حركة وسرعة سريان الزمن (بالنسبة للموضوع ذاته) بين هذين النمطين قد يكون مصحوبًا بحالة من انقلاب ما هو بديهي على نفسه، ونشوء حدوس متعارضة ومتضاربة، أي أننا أمام ما قد يلوح وكأنه تغير في الوعي نشأ عن التلاقي مع حدث بعينه ثم تباعد عنه نسبيًّا تجاه مسارات تخصه.
وهذه الحالة لا تنطبق بالطبع على كل ما يحدث، ولا على كل الأحداث بغض النظر عن أهميتها من عدمه، فهي لا تنشأ إلا في نمط بعينه من سلاسل الأحداث التي تستطيع أن تصطنع لنفسها مساحة؛ أو أفقًا زمنيًّا خاصًا.
ولكن كيف يظهر هذا الأفق الزمني المختلف عن سريان الزمن الواقعي للحدث؟