*هذه ترجمة مقال نُشر في موقع Literary Hub بتاريخ 25 مارس 2020.
تيشاناي دوشي شاعرة وروائية وصحفية وراقصة هندية، ولدت في 9 ديسمبر 1975. في 2006 حصل ديوانها الأول “بلاد الجسد” على جائزة Forward Poetry، وفي 2010 نشرت لها دار بلومزبري البريطانية روايتها الأولى “الباحثون عن السعادة“. وهي الرواية التي كانت مرشحة ضمن القائمة الطويلة لجائزة Orange، وضمن القائمة القصيرة لجائزة أفضل رواية هندية.
أحيانًا تقدم تشاناي قصائدها بمصاحبة عروض أداء راقصة.. في هذا الفيديو تقدم عرضًا راقصًا لقصيدتها “فتيات خارجات من الغابة” Girls Are Coming Out of the Woods من ديوانها الذي كان ضمن القائمة القصيرة لجائزة تيد هيوز للشعر، ويحمل العنوان نفسه..
في كتابه “والدن” يسأل هنري ثورو Henry David Thoreau “أين تحب أن تعيش؟“.. وهو السؤال الذي طرحته على نفسي –بشكل أكثر ارتجالًا– عندما قررت الانتقال من مدينتي تشيناي، التي يبلغ عدد سكانها 8 ملايين نسمة في جنوب الهند، إلى قرية ساحلية على بُعد 80 كيلومترًا جنوبًا. بالنسبة لثورو، لم تكن مدينة والدن على مسافة بعيدة من مكتب البريد، والبار، والبقالة، والمدرسة، وأي مكان يتجمع فيه الرجال، ليست بعيدة عن “مصدر حياتنا الدائم“.. ولم يكن لدي مثل هذه الأهداف النبيلة عندما انتقلت إلى بارامانكيني.. لقد اختصرتُ طموحات حياتي بأكملها فيما يلي: كوني شاعرة، عيشي على الشاطئ!
في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فكرتُ، أنا وبعض الأصدقاء، في شراء قطعة أرض على ساحل تاميل نادو. كنت قد سئمت التلوث، وازدحام المرور، وارتفاع تكلفة المعيشة في المدينة وأجراس إنذار سيارات الجيران التي تدوشني كل صباح.. في ذلك الوقت، كنت أعمل راقصة وصحفية مستقلة …..، واضطررت إلى إقناع والدي بأن ذلك سيكون استثمارًا جيدًا. كان المكان الذي وجدناه عبارة عن قطعة أرض بين قناة باكنجهام وخليج البنغال، طريق ينحرف عن الطريق السريع الساحلي الذي يربط بين تشيناي وبونديشيري. في اليوم الذي أحضرنا فيه السمسار لرؤية المكان، استغرقنا نصف الساعة للسير من السيارة إلى الشاطئ. وهناك رأينا بنات آوى تتمشى في غابة من أشجار الكازوارينا. وانقضت أسراب الرفراف والوروار مثل ومضات مرصعة بالجواهر، وبفعل رياح البحر القوية كانت جميع الأشجار؛ النيم، والشجرة المقدسة، وأشجار الكاجو تتمايل بقوة. عندما وصلنا أخيرًا إلى المحيط، استطعنا أن نرى قرية صيد صغيرة؛ حيث خليط من القوارب الملونة راسية تحت أشجار جوز الهند، ورعاة الشياة يقود حيواناتهم إلى المنزل. ذرع باشا؛ كلب صديقي الجريت دان، الشاطئ صعودًا ونزولًا بجنون، ثم اتُخذ القرار.. لقد وجدنا مكاننا.
كانت هناك تعقيدات؛ فشراء الأرض يتطلب الحصول على الكثير من الأوراق، والحصول على الأوراق يتطلب الدفع لعمدة القرية. كان هناك أيضًا مشكلة الصخرة المقدسة التي كانت موجودة على جزء من الأرض، والتي بعد سلسلة من البوجا –الصلوات الهندوسية– والمفاوضات، كان لا بد من نقلها إلى الشاطئ. في عام 2004، دمر إعصار المحيط الهندي واجهة القرية بأكملها، وألقى بأعمدة الجرانيت كما لو كانت أعواد الثقاب، وقضى على الأسوار الشبكية الخضراء لنحو ثلث أسوار الكومباوند. ولأكثر من عقد، كانت الحكومة المركزية تهدد ببناء مصنع للفحم على بعد عشرة كيلومترات من الساحل، وهو ما يجعله بالتأكيد مكانًا غير مناسب للسكن، ومع ذلك، بدأنا في البناء، وبعد أربع سنوات، عندما كان البيت جاهزًا، وجدت أنني لم أكن مضطرة إلى الانتقال إليه بمفردي، كما كان متصورًا من قبل؛ لقد وجدت رفيقًا، كاتبًا/ زوجًا، للانتقال معي.
العزلة تضخم كل شيء؛ الجمال، الخطر، الرعب، الهدوء.. العزلة في الحقيقة بحث عن الحميمية، بحث عن أنفسنا..
في البداية، كانت الحياة في بارامانكيني مغامرة.. لم يكن ثمة ساعي بريد، لذلك بقينا؛ أنا وكارلو، دون بريد أو صحف. لم يكن لدينا جرس باب، ولا تليفزيون، ولا شبكة إنترنت، ولا محلات للوجبات السريعة. وكان أقرب سوق لنا في البلدة التي يوجد فيها المحطة النووية في كالباكام على بُعد عشرين دقيقة بالسيارة. كان الزوجان سامباث وآمو من القرية، يعيشان معنا كقائمين على رعاية الأرض، وباستثنائهما لم يكن لنا تفاعل كبير مع الناس. أصبح التخلص من القمامة أكبر مشكلة لدينا، فكنا نحوِّل قدرًا منها إلى سماد، لكن كان علينا جمع الباقي في أكياس، في حين كان أقرب صندوق للقمامة على بُعد ساعة. ومع عدم وجود خدمات جمع القمامة في القرية، كانوا يحرقون القمامة بشكل دوري، بما في ذلك البلاستيك، وفي تلك المناسبات، كان علينا إغلاق جميع النوافذ وانتظار أن تتبدد أدخنة الديوكسين الملوِثة.
على عكس والدن، حيث عاش ثورو على بُعد عشرين دقيقة من موطنه الأصلي؛ وحيث كانت ماما متاحة دائمًا لغسيل الملابس وتقديم وجبة ساخنة، كنا نعيش في مكان ناء (على الرغم من أن والدتي كثيرًا ما كانت ترسل لنا بعضًا من الفواكه المجففة وفطائر الكيش المصنوعة منزليًّا). وكان الأصدقاء الذين يزوروننا يتلقون تعليمات بإحضار الطعام إذا كانوا راغبين في الأكل. أما قائمة البقالة فكانت كما لو أنها قائمة لعلاج الإسقربوط: الليمون والبرتقال والبابايا والجوافة والتونك.
في جميع أنحاء العالم، وخصوصًا في الهند، يتدفق الناس من الأطراف إلى وسط المدينة. ويعتبر التحرك في الاتجاه الآخر أناركيًّا. وهو أيضًا امتياز؛ يمكن لكاتبين مستقلين أن يعيشا في أي مكان، ولكن اختيار الانسحاب من العالم، والتقوقع إلى الداخل، والابتعاد عن المجتمع، كان خطوة مربكة. كإخبار الناس الذين لديهم أطفال أنك لا تريد أن تنجب، فيعتبرون ذلك إهانة وحكمًا على أسلوب حياتهم.
بالنسبة إلى ثورو، الذي كان يشكك بشدة في جدوى وسائل الاتصالات الجديدة مثل التلغراف، كانت العزلة طريقة للفرار من الحداثة. كانت فكرته عن النعيم أن “تجلس بين أشجار الصنوبر والجوز والسُّماق في عزلة وسكون..”. لم أكن من المعادين للآلات، وعلى الرغم من أنني في السنوات الخمس الأولى من العيش في بارامانكيني، كنت سعيدة بكوني بعيدة عن وسائل التواصل الاجتماعي، لكن كان هناك شيء لطيف بشأن استمرار ضجيج العالم الذي سمح لك “بالعيش بعمق وامتصاص نخاع الحياة” الذي تحدث عنه ثورو، والذي رغبت فيه أيضًا.
وامتدت العزلة.. أخذت أيامنا وليالينا إيقاعًا مختلفًا على الشاطئ. كان كارلو يعمل في الغرفة التي في آخر الطُرقة، وأعمل أنا على مكتب في غرفة نومنا. كان مسؤولًا عن الغداء، وكنت مسؤولة عن العشاء. كنا نلتقي لتناول الطعام والمشي. ولكن لساعات عديدة من اليوم، كنا نجلس خلف أبواب غرفتينا بمفردنا. وقد أخذت بعض ممارستنا شكلاً روتينيًّا؛ كالسباحة في المحيط مع الدلافين، أو مراقبة تحليق طائرة ورقية ذات أجنحة سوداء وهي تراوغ وترفرف. وظهرت تفاعلات مع ثعابين الأشجار البرونزية، والضفادع، وفئران الأرض، بالإضافة إلى جيشنا من الكلاب الشاطئية الهندية (عند نقطة لم يعد في الإمكان السيطرة عليها، بلغت الذروة حين وصل عددها إلى 18). تشكلت أيامنا بشكل واضح، وأصبحت قاعدتنا: لا بأس إذا تحدثنا إلى الكلاب، ولكن بمجرد أن تبدأ الكلاب في التحدث إلينا، فقد حان الوقت للذهاب إلى المدينة!
كانت المدينة في بعض الأحيان هي بونديشيري، وفي الغالب تشيناي، التي تزخر بمزيج هائل من دور السينما ذات العرض المستمر، وحفلات العشاء، والحفلات الموسيقية، والمحادثات. وبعد أيام قليلة من الابتهاج، يسود شعور بالضيق؛ كآبة حياة المدينة، وهذا يذكِّر بما أورده بابلو نيرودا في مذكراته “العزلة والاختلاط سيظلان الالتزام الأساسي للشاعر في عصرنا“. عليك أن تتفهَّم أنه من الممكن أن تكون مائلًا إلى العزلة واجتماعيًّا في الوقت نفسه، إنه التذبذب المستمر بين الاثنين.
ماذا يحدث لطبيعة الوحدة عندما تعيش في عزلة شديدة، عندما تتلاشى اللغة وتسود المناظر الطبيعية؟
كان السؤال الذي طرحته على نفسي مرارًا، هل يمكنني العيش وحدي في بارامانكيني كما كنت أتخيل في البداية؟ وهذا ما وضع يدي على فكرة روايتي “أيام وليالٍ قصيرة“؛ إذ تأتي امرأة تسمى جريس للعيش في منزل وردي ساحلي، يشبه إلى حد كبير المنزل الذي أعيش فيه، لرعاية أختها لوسيا المصابة بمتلازمة داون؛ قبل ذلك لم تكن لوسي تعرف أختها التي تربت في إحدى دور الرعاية.. تعيش جريس ولوسيا في المنزل مع كلابهما ومدبرة المنزل ماليكا. كنت مهتمة باستكشاف ما يحدث عندما ينكمش الكلام ويتوسع الخيال. فلوسيا ذات قدرات لغوية محدودة، أما بين جريس وماليكا فهناك تواصل هزيل بلغة التاميل.. فماذا يحدث لطبيعة الوحدة عندما تعيش في عزلة شديدة، عندما تتلاشى اللغة، وتسود المناظر الطبيعية؟
الهند تزخر بأدب الوحدة. هناك نيرمال فيرما، وبريمشاند، وكامالا داس، وأمريتا بريتام. في الواقع، يمكنك أن تجادل في أن السبب الذي يجعل الناس يصبحون كتابًا في المقام الأول هو أن يملؤوا هذا الشعور بالوحدة. لا يحتاج الكتَّاب في الهند إلى الابتعاد عن نشاز المدينة ليجربوا الاغتراب، لكنك تشعر بأن عشقهم للوحدة ناتج عن حقيقة أنك من الصعب جدًا أن تجد نفسك وحدك.
كان مصدر إلهامي في هذا الصدد دائمًا أنيتا ديساي، وهي أول كاتبة قابلتها. أتذكر قولها عندما بدأتْ الكتابة للمرة الأولى في دلهي، حيث لم يكن هناك مجتمع من الكُتَّاب، ولا إحساس بالزمالة، وكانت الكاتبة الوحيدة التي تعرفها هي روث براور جابفالا، التي شاهدتها وهي تدفع عربة أطفال في الحي، فدعتها لاحقًا ليتحاورا بشأن الكتب.
كان لكلتيهما أم ألمانية، واختبرتا بعمق الشعور بكونهما غريبتان. تحدثت ديساي عن كيف كانت الكتابة فعلًا خصوصيًّا “شبه سري“، شيء يجب القيام به بمجرد أن يذهب الأطفال إلى المدرسة، وإخفاؤه قبل أن يعودوا. وهذا رجع صدى التاريخ الكامل للنساء اللواتي كتبن سرًا؛ كانت جين أوستن تخفي مخطوطاتها خلف الورق النشَّاف عندما يأتي الأصدقاء لزيارتها. وفي الآونة الأخيرة، اضطرت راجاتي سلمى إلى أن تخفي قصائدها عن أسرتها المسلمة الصارمة في منطقة التاميل، حيث لم يُسمح لها بالخروج؛ فلجأت إلى النشر باسم مستعار لتتمكن من الكتابة بحرية عن العزلة والحيض و “الجنس الممل“.
تُشكِّل السرية والعزلة جوهر تاريخ أدب النساء، في حين أنه في كتابات الكتاب الذكور الذين كتبوا عن الشعور بالوحدة، كنت دائمًا تلمح ظل امرأة قريبة، داعمة، سواء في حالة ثورو وأمه سينثيا، أو وردزورث وأخته دوروثي، أو دي إتش لورنس وزوجته فريدا.
لا بد أن جزءًا من هذا التاريخ كان حاضرًا في رأسي عندما كتبت “أيام وليالٍ قصيرة” لأن الرجال عارضون في روايتي. أردت أن أكتب عن رهاب الأماكن المغلقة الذي أصابني منذ صغري ولا أزال أعاني منه.. وأن أكتب عن حياة النساء بكل طبقاتهن وطوائفهن وإمكاناتهن.. وعن الحياة المنزلية والرعاية ومقاومة الرغبة المُلحة في أن أكون لطيفًا على الدوام، وفي الأثناء نفسها أصر على أن هذه السردية “الصغيرة” حول الحرية والواجب والرغبة والاغتراب، تستحق أن تكون جزءًا من سردية أكبر للأمة والوطن.
لقد جعلتني الحياة في بارامانكيني أعيد التفكير في موقعي كامرأة في المجتمع. حيث يعمل الخوف على مستوى مختلف هناك. في المدينة، أنت دائمًا في حالة تأهب، ومحاط بالناس. أما في بارامانكيني، فقد كنت أخرج أحيانًا إلى الشاطئ بمفردي، حيث لا شيء، ولا أحد، وفجأة تظهر مجموعة من الرجال يتسكعون على الرمال، وحتى إذا لم يكن هناك أي شيء يهدد سلوكهم، تخايلني القصص التي ترد في الأخبار، وكل الإحصاءات الرهيبة، يبدأ الخوف الحقيقي والخوف المتخيل، فأشعر أنهم يقتربون! كيف إذن تجزم بأنك حر وسط كل هذه المخاوف؟ سيزورك أصدقاء من المدينة وسيظل السؤال الأول دائمًا، هل المكان هنا آمن؟ لماذا لا يوجد لديك حارس أمن؟ هل لديك رقم الشرطة المحلية؟
العزلة تضخم في كل شيء؛ الجمال، الخطر، الرعب، الهدوء. العزلة في الحقيقة بحث عن الحميمية، وعن أنفسنا. أفكر في فرجينيا وولف وإرث أخت شكسبير، في مكان تسوده المساواة. أنا وزوجي نكتب في غرفتينا، مرتبطان بطرقة واحد. إن معرفة أن شخصًا يجلس للعمل على مكتبه مغلقًا عليه بابه.. محاولًا صنع هذا الشيء المجنون الذي يسمى كتابًا.. وأن شخصًا آخر ليس بعيدًا يفعل الشيء نفسه تمامًا، هو نوع من الوحدة، من البقاء بمفردك، ومعًا.. أفضل تمثيل لذلك وجدته عندما كنا نخرج إلى الشاطئ مع كلابنا، وهو أمر تفعله جريس ولوسيا أيضًا. تحتل هذه الكلاب الهامش بين الحيوانات البرية والأليفة، فهي ليست حيوانات أليفة ولكنها مرتبطة بالأرض بشدة، ومخلصة غالبًا. وعندما ننطلق معهم على الشاطئ يفرحون كثيرًا، يرفعون رؤوسهم إلى السماء وينبحون، فننبح معهم.. يا له من صوت يقربنا إلى بعضنا البعض ويعيدنا إلى العالم..