استكمالا لدعوتنا للمشاركة في كتابة وتسجيل كوابيسنا الجماعية في زمن التباعد الاجتماعي والعزل الصحي حيث ظل الكورونا فوق الجميع. وصلنا عدد من الرسائل والشهادات المختلفة التى سنواظب على نشرها في فترات متباعدة ومختلفة..
هذه المرة يعانى صلاح من كابوس متكرر منذ بداية الجائحة، وحين يهرب من الفراش والمنزل يقابل في حلم آخر ما يبدو تفسيرًا للكابوس. أما أحمد أسامة فضائع في اضطرابات النوم التى انتجتها حالة الحجر الصحى، بحثًا عن عزاء في العزلة..
نستقبل المزيد من شهاداتكم وكوابيسكم ومخاوفكم في عالم الكورونا وما بعده
الايميل: as.naje@gmail.com
أو على حسابنا على الفيسبوك: https://www.facebook.com/MedinaPortal/
أو حسابنا على تويتر: @MedinaPortal
يمكن للمشاركة أن تكون في هيئة نصوص أو شهادات مكتوبة، أو فيديو، أو تسجيلات صوتية.
سوف نواظب هنا باستمرار على نشر تلك الكوابيس وأسوأ السيناريوهات، حتى يتحقق السيناريو الأفضل، ويعبر الوباء حياتنا بأقل الخسائر أو ننتصر عليه.. من يدري؟ ربما..
صلاح الناجى: كابوس المقابلة الأخيرة
آخر مشهد أتذكره دائمًا، تعطل مفاجئ للمصعد عند الطابق رقم 7، ثم يهوى بي، لكني أستيقظ قبل ارتطامه بالأرض.
هذا الكابوس يتكرر معي منذ أول ليلة في فترة العزل المنزلي.. نهايته المخيفة تفزعني. جلست كالعادة مسهدًا أحاول تفسيره.
تصفحت الفيسبوك. لم أخبر أحدًا من أصدقائي السهارى به حتى مطلع الفجر. ولم أجد له تفسيرًا أقتنع به. سمعت المؤذن ينادي للصلاة في البيوت. قررت البحث عن هواء جديد، ونسمات صافية في الخارج. كسرت العزل المنزلي؛ خرجت من الباب أتحامل على العكازين، ركبت الموتوسيكل. أدرته وانطلقت. طُفتْ الشوارع الرئيسية بالمدينة. عبرت أمام المسجد الكبير المغلق. دخلت القيسارية وانحرفت إلى الشارع المؤدي للعجوز، ملك الفول.
دخلت المطعم. بدأت في التهام وجبتي. دهمني زميل يهلل:
ـ شفت الماكينة قلت أتأكد بنفسي.. معقول جبرت الكسر، وكسرت العزل والحظر، ونازل تفطر!
ابتسمت وسألته:
ـ وإيه جابك.. أنت مش خايف من الكورونا؟!
ضحك قائلاً:
ـ الفول بالسمن البلدي مع البصل والجرجير دواء. والشافي ربنا
نسيت أمر الكابوس مؤقتًا، وواصلت المضغ وأنا صامت على غير العادة،
لاحظني الزميل. سألني السبب:
ـ فكري مشغول..
ـ بإيه!
ـ كابوس بيزورني كل ليلة
ـ بتشوف إيه!
ـ مصعد يطلع بي، وقبل الدور السابع يتوقف فجأة. ثم يسقط بسرعة رهيبة فأفزع من نومي ودقات قلبي سريعة، تضرب في صدري بقوة
توقف الزميل عن المضغ، تبدلت ملامحه، قال بجدية:
ـ أنصحك تكشف في مستشفى كويس وتعمل فحوصات وتحاليل.
ـ ما علاقة الحلم بالمرض!
ـ لا أقصد أنك مريض.. لكن أعتقد أن هذا الكابوس لا بد أن يؤخذ في الاعتبار، فربما جسمك به شكوى.. أو يحذرك من أزمة قلبية. هذا اعتقاد شخصي، لك أن تأخذ به أو ترفضه.
لم آخذ بهذا الكلام ولم أرفضه. بل لم أسمعه أصلاً، إذ أن ما حدث وأنا أسير بالموتوسيكل في الشارع الذي يقع فيه مطعم العجوز، وقبل أن أصل المطعم، قابلني “م.م“، وقال لي:
ـ الحمد لله وجدتك في الوقت المناسب. وصلت إشارة بأن حالتك سلبية، ألف مبروك، حاولت أكلمك لكن موبايلك مقفول، وكنت في الطريق إليك لأبشرك.
اندهشت لما سمعته، هززت رأسي لأفهم، فاستطرد “م.م“:
ـ صحيح هي مفاجأة.. لكن اذهب الآن بسرعة وبشر صاحبتك.. قل لها نتيجتك سلبية أيضًا.
لم أكذب خبرًا، انطلقت بالموتوسيكل. بعد دقائق وصلت. دخلت بناية من عشر طوابق، وقفت أمام باب المصعد وانتبهت فجأة لأمر غريب.
سقط العكازان من يدي، وقفت وحيدًا. تذكرت الكابوس. اكتشف تفسيرًا. فالطابق الذي تسكنه هو الطابق رقم 7. ضحكت. قررت ألا أركب المصعد. التقطت العكازين واتجهت لأصعد إلى الطابق السابع، على السلم.
بعد ساعتين، فُتِحَ باب الشقة، خرجت منه امرأة في طريقها إلى السوق والكمامة على أنفها. ضغطت مفتاح استدعاء المصعد، واستدارت قليلاً. ثم انتفضت مفزوعة، ووقفت تنظر لي وهي تصرخ بهيستيريا.
كانت لتوها قد رأت جثتي مسجاة على السلم، لا تُحرِّكُ سَاكِنًا.
أحمد أسامة: الوحدة وجه قبيح للعُزلة
بداية عادية ليومٍ عادي جدًا.
الحياة في ظل أجواء الكورونا جعلت وصف اليوم، كل يوم، مثل الآخر.. استيقظت نحو العاشرة، أتكاسل كالعادة، ومعي ذلك الصداع البسيط الذي يهاجم مؤخرة عيني على استحياء، مثل ضباب متوسط الكثافة. فلا هو يحجب عنك الرؤية بالكامل ولا ينتابك الشعور بالراحة بعد صفاء الرؤية..
أخيرًا أعاني من مشكلات متعلقة بالنوم، ليس هناك موعد محدد أذهب فيه إلى النوم، أسهر أيامًا وأنام باكرًا في أيام أخرى، بل قد يجافيني النوم بعض الأحيأن طوال الليل وحتى التاسعة صباحًا.
قد أكون في قمة الإرهاق عند النوم وأسقط على سريري شبه فاقدٍ للوعي ممنيًا نفسي بنوم عميق يمتد لساعات، إلا أنني أفاجأ باستيقاظي عقب أربع ساعات فقط ولا أستطيع النوم مرة أخرى! حدث ذات مرة أن استيقظت عقب النوم بساعة ونصف فقط ولم أدر ماذا أفعل! وإذا نمت ما أعتقد أنه يكفيني– سبع أو ثماني ساعات– أستيقظ على صداع وخمول عام!
على كلٍ لم أعد أبالي أو أكترث.. أقرر أن أنفض تكاسلي وأقضي حاجتي؛ أغسل أسناني ويزعجني نزيف اللثة مرة أخرى، أبصق الدماء مرارًا وتكرارًا كعملية روتينية بلا كلل ولا هدف. أتناول إفطارًا بسيطًا مكونًا من ساندويتش جبن بالمشروم، وبضع حبات من الزيتون، أعقبهما بكوب كبير من النسكافيه الساخن، الذي لم أعد اثق في مفعوله ولو قليلاً.
أفتح حاسوبي المحمول، أقوم بتصفح آخر مستجدات عملي، لا شيء جديد يذكر. أراسل بعض الأصدقاء، الأوقع أنني أقوم بالرد على مراسلاتهم من باب الذوق ليس إلا، محاولا الحفاظ على أدنى قدر من التواصل الاجتماعي مع الآخرين.
في الأونة الأخيرة، أشعر براحة كبيرة في الانعزال، وعدم التجاوب مع أحد أو الاتصال بأحد. كل ذلك لم يجد نفعًا مع محاولة نسياني أو تناسيَّ لتلك الفكرة التي أرقتني بشدة منذ عدة أيام، فعادت لتهاجم عقلي وتحتل تفكيري بشدة. لم أحأول التهرب منها هذه المرة، ولا أجد سلوانًا إلا في القراءة، قررت التماشي معها، ومحاولة السباحة بين ثنايا أمواجها.
فكرة أنه لا بد لي من الكتابة، حتمًا سيأتي يوم وأكتب، مرارًا أقوم بتأجيل تلك الخطوة، بلا سبب مقنع، أعتقد أنه الخمول، أو الخوف من الكتابة، فالكتابة عمل شاق، ومرهق..
لا أعلم عن ماذا أكتب، لكني أشعر أني بحاجة إلى قول الكثير، إلى التعبير عن ما يفتعل بداخلي. أريد أن أشعر بالراحة، وجدت بعضًا منها في القراءة، انهمكت في القراءة مثل العائد الى الحياة بشهقة هواء، أحأول امتصاص كل ما أستطيع قراءته. إحساس الراحة الذي تشعر به في أثناء رؤيتك للوحة فنية، بسيطة التفاصيل، معالمها مكتملة، تجعل شفتيك تفتران عن ابتسامة دون الحاجة لأن تكون دارسًا للفن، أو مختصًا فيه.
في حالتي، أمدتني القراءة بمثل ذلك الإحساس. إلا أنه ما زال إحساسًا منقوصًا، مثل ابتسامة مبتورة، غير مكتملة، اللوحة ينقصها بعض التفاصيل، بلا دليل، أو حتى إرشادات لإكمال ما ينقصها. قد تكون الكتابة سبيلي للبحث عن تلك الراحة التي أنشدها، قد تكون هي تلك التفاصيل الناقصة، المبهمة. قد تُكمل بناء تلك اللوحة، وتوضح كنهها في النهاية.
وحتى الانتهاء من تلك اللوحة، وظهورها على الملأ، فها أنا أكتب، وأحاول تجربة حظي، لعل وعسى، أن أحظى بتلك الراحة.
أعود مرة أخرى إلى حاسوبي، أفتح صفحة للكتابة، لا أعلم من أين أبدأ، لكن أصابعي لا تخذلني، أجدها تضغط على المفاتيح بطريقة لا إرادية، تستمر الكلمات في التتابع والظهور على الشاشة، بلا انطباع عن الشكل النهائي لما سأكتبه، كما لو أن أصابعي تحولت إلى ريشة فنان، تكون بداية رسوماته عبارة عن لطخات متفرقة هنا وهناك، على سطح لوحة كانت في الأصل، فارغة، مصمتة.
أشعر بدفقة من الانتعاش، تهاجم وتكافح ذلك الضباب الذي يعمل عمله كصداع في ثنايا رأسي. يتحول الإحساس إلى لذة، كإحساس بالبخار عند تجمعه، أحس بتثاقل في أصابعي، وكأنها باتت تحتاج إلى مجهود أكبر لمتابعة الضغط على المفاتيح. لا أواصل الإلحاح أو الضغط، أتوقف، أحملق في الشاشة، محاولا قراءة ماكتبت، شذرات وشظايا، من يومياتي وذكرياتي، لا أعلم ما الرابط بينهم. لطخات فرشاة كما أسلفت. أعيد القراءة المرة تلو المرة، حتى تنطفئ الشاشة، معلنة الدخول في فترة السبات المؤقت، لا أزال أنظر إلى الشاشة المظلمة، أستطيع تمييز انعكاس معالم وجهي، لا أحتاج إلى كثير من الجهد، لأفهم وأعي ماغاب عني طوال تلك الفترة، وعجزت عن تفسيره، فملامح وجهي على سطح عاكس مظلم، أجبرتني على الاعتراف بأني وحيد.
قد يكون من مميزات فترة الجائحة، الوجود لمدة أطول في المنزل، مما يتيح الفرصة للتقارب الأسري، وإيجاد الوقت اللازم لمشاركة الاهتمامات الأسرية، إلا أنني في الوقت نفسه، أشعر بالعكس، أشعر بأن ذلك من أشد المساوئ المصاحبة للجائحة، أثرًا ووطأة، بعد الآثار الصحية، وما ينتج عنها من تدهور عام يؤدي إلى الوفاة. عندما أنظر إلى الطرقات الفارغة، والملامح المذعورة والخائفة، والالتزام بإرشادات التباعد الاجتماعي، يقتحمني إحساس رهيب بالوحدة، مصحوب ببرودة تصيب القشعريرة، تبحث عما تدفئ به نفسك، ويبث بعض الحرارة في أوصالك. لكنها محاولات بائسة، بلا نتيجة.
أدرك أن روحي تعاني البرودة، مثل باقي أعضاء جسمي، روحي تلتمس الدفء، في مجالستي لمن أحب، دفء الروح قد يكون مقدمًا في بعض الأحيان على دفء الجسد، بل قد يكون منبعًا لدفء الجسد في الأساس. أشتاق إلى دفء من هذا النوع، أشتاق إلى لدفء أرواح من أحبهم، فهم فقط، من بيدهم أن يعيدوا إلى روحي إحساس السعادة، والقضاء على شعور الوحدة.