كان الرجل تائهًا في ممرات الصفيح الأصفر والأخضر… عمليات حفر النفق من أجل المترو جعلت الزمالك متاهات تربطها ممرات لا تخضع للخرائط القديمة. الرجل كان يريد العودة إلى سيارته. وغابت ابتسامته ربما لأنه تخيَّل أنه سيظل تائهًا؛ ولن يجد دليلًا في تلك الساعات المتأخرة من ليل القاهرة. لم يسأل الفتاة التي ما زالت تحمل الفوفوزيلا وتضعها على فمها، لكنها في اللحظة الأخيرة ترددت في إطلاق صوتها المزعج، الذي يصنع ضجيجًا يشوِّش على كل شيء؛ على القلق والفرحة، وربما هو مزيج بينهما، لكنه إعلان عن وجود تائه مثل الرجل، ومثل سكان الزمالك الذين ما زالوا ينتظرون معجزة تلغي مشروع المترو، وتعيد إليهم “الفردوس المفقود” في الزمالك القديمة… على الفيسبوك حروب الفردوس المفقود أكثر عنفًا. يتصارعون صراع الملائكة في جيوش آلهة مختفيين. لا أحد ينتصر ولا صوت غير الفوفوزيلا، والهارب من أكمنة البوليس ومنصات الزبالة المتلفزة سيفاجأ بشوارع هامدة تتراكم نواصيها أكوام زبالة مبعثرة، وبين كوم وآخر يظهر مكان لطيف، يلمع كأنه جزيرة معزولة. لا شيء على حاله. ولا في مكانه. نحن في لحظة غبار نهاية عالم قديم لا يزال مستمرًا، وحتى خرائط الضوء وماتريكس الألعاب الرقمية في حفل افتتاح الأمم الأفريقية، لم تجدد ثقة، لكنها أكدت أن الأجهزة رفعت يديها تحت إلحاح الوقت وتركت الشركة المنظمة مساحة إتقان صغيرة دون تدخل، حتى إن المخرجين المصريين الذين شاركوا في إخراج الحفل هم أبناء مرحلة النجاح الفردي العابر لانهيار وتهتك كل منظومة جماعية. ذلك العبور الذي تظهر فيه مواهب مثل محمد صلاح تفرد وجودها عالميًّا بينما صناعة الكرة المصرية كلها في حالة تعفن مزمن. أو ظهور أفلام سينما تنجح في المهرجانات الدولية لمخرجين هاربين من منظومة مختنقة حتى الموت.
هذه لحظات تلمع بين موجات الهستيريا المحمومة التي تصدمك كلما توقعت شيئًا حتى الرداءة. لا شيء متوقع يستمر… والنجاح في صنع الإبهار الإلكتروني لم يكتمل فقد حدث خلل في صوت الرئيس السيسي جعل كلماته تبدو كما لو كانت مرسلة من زمن أبطأ، وبدا وهو واقف خلف حاجز زجاجي مقاوم للرصاص، يقول كلمات أشبه بالهذيان المفارق للحظة التي يقال فيها. الخلل في الصوت والإبهار في الضوء، أحدثا صدمة خارج التوقعات، كان الجمهور ينتظر ضبطًا لصوت السيسي، فالحدث كله مصنوع كذروة لبروباجندا جديدة، يملأ فيها الفراغ ليصبح زعيمًا خارج الحدود في ظل انسداد كل الجهات الإقليمية بالرعاة الخليجيين، ولم يعد أمامه إلا أُفريقيا، ولهذا خطف ترتيب كأس الأمم بعد تعثر الكاميرون؛ الكأس ترتبط باسم شركة بترول (توتال) منذ الجابون 2017، هذه علامة مضادة لأوهام الستينات في الزعامة، وصعود فكرة الرعاة والبيزنس من تحت الترابيزة إلى فوقها، بل وفوق الرؤوس التي تتصارع تحت شعارات ومكانات قديمة. الزعيم الآن هو سمسار قطع قديمة. والأحداث المبهرة لا يستمر إبهارها أكثر من خمس دقائق؛ بل إنه على بعد ساعات من افتتاح كأس توتال كان كوشنر يعلن عن التفاصيل الفعلية لصفقة القرن، وهي توزيع 50 مليار دولار على دول الجوار الفلسطيني، ومع أن كل الذين أكلت القضية من أعمارهم سنوات وأرواح ورموز توقعوا سباقًا على البيع، إلا أن السيسي أرسل نائب وزير المالية إلى البحرين، بينما كانت وسائل الإعلام المدافعة عن أبي تريكة تواجه الحملة ضده بتسريب وصيته بأن تدفن معه الفانلة التي ارتداها تضامنا مع أهل غزة. ما كل هذه الرموز المتناقضة كل دقيقة. المذيع الأول في النفايات التليفزيونية يصرخ: أبو تريكة إرهابي لأنه يترحم على (مرسي) عميل قطر وتركيا… وإسرائيل بالجملة” بينما المدافعون عنه انتظروا أن تكون البطولة الكروية تغطية على صفقة القرن بعد بروفة البحرين، بالضبط كما كانت التوقعات بأن يكون عرض الافتتاح منتَجًا من منتجات الرداءة السائدة، لا شيء خضع للتوقعات الجاهزة. هل هي معجزة نجاح الفشل؟ أم المتاهة التي تدور حول حفر نفق ليمر فيها المترو في نهر النيل؟ وإلى هذا النوع من الأسئلة ينتمي سؤال آخر هو لماذا نجح السيسي في مذبحة الرموز المدنية وفشل مع أبي تريكة؟ كيف استمر أداء الألتراس في تحويل التشجيع إلى دراما بين الوقت والأبطال… بعد أن دمرت الخطط الأمنية روابط وتكتلات الأولتراس؟ هل كل هذا الجمهور أولتراس هارب من الفحص الأمني؟ أم أن كل من استجاب لنداء أبي تريكة خلايا نائمة؟
لا توجد أدوات كافية لتفسير هروب حالة لا واعية من ممرات الوعي بأن كل شيء انتهي… والزم جحرك وقفصك… فالوحوش على الأبواب، ونهاية العالم كانت أمس… فماذا ستفعل غير الاختباء وتلاوة تعاويذ الأسي والميلودراما؟
السيسي الذي يستثمر في إطالة وقته، لم تسعفه آلهة الحظ وتعليمات، فرئاسة الاتحاد الأفريقي محدودة بزمن قصير، ولا بد أن ينجز أسرع من إيقاع أجهزته وإنجازاته المحلية، الفرصة سقطت في حجره لكن قبل أن يبني استادا في عاصمته الجديدة، فعاد إلى استاد القاهرة؛ معجزة الستينيات، بعد سنوات من التكهين، مثيرًا نوعًا ملتبسًا من المشاعر، فالتجديد المتقن تلاعب بمشاعر الحنين، وهو في الوقت ذاته، موديل قديم، يفتقد لميزات المشاهدة في التصميمات الأحدث لملاعب كرة القدم. حتى استغلال كرة القدم في البروباجندا فكرة قديمة، كانت تتقنها الأنظمة المستقرة، لكن حاكمًا مثل المارشال السيسي لم يلتفت، بل كان وما زال في عداء مع جماهير وتأثير الكرة، لكنه اضطر إلى أن يكون اللقاء الأول مع هذا الكمية من الجماهير، ورغم الفلترة الزمنية في نظام التذاكر، إلا أن هذا كله لم يمنع اشتعالات مؤقتة خارج السيطرة، فكان الهتاف لذكرى مذبحة جماهير الأهلي (في بورسعيد) والزمالك (في استاد الدفاع الجوي) وبينهما نداء تريكة… الذي يبدو أنه يعاقب على رفضه مصافحة المشير طنطاوي بالعودة مع الجثث من بورسعيد.
كان وقتها المجلس العسكري في شركته مع الإخوان، ونجم الملاعب مخلصًا لجماهير تمنحه في كل مباراة علامات محبة استثنائية لم يسبقه فيها سوي القليلين، وكان آخرهم قبله بسنوات محمود الخطيب.
إشارات متعارضة كانت في استاد القاهرة، وجماهير لم يكن انسجامها واضحًا، إنهم جميعًا في حلبة من البحث عن شيء، لم يكن في الملعب، ولا في اللحظة، الرمز الذي بدا مكتملًا كان هتافات تنادي على أبي تريكة. اكتمال قديم هو الآخر، رسالة من عالم لم يحضر بالكامل في الافتتاح. كل شيء من هذه الإشارات المتناقضة نال حظًا من التصفيق والتهليل، حتى الأداء المتواضع للاعبين، أو استعراض ترويض الجماهير الذي لم يكن كاملًا. كان يومًا له دلالة على افتقاد القدرة على السيطرة، لا النظام السعيد باستمراره، ولا الجماهير المكتئبة من السعي الحثيث لهذه السيطرة، وطبعًا الجمهور المنتظر للمعجزات كان الأكثر توترًا، فالإبهار كان مثقوبًا بتحية محبوب الجماهير المنبوذ، وكراهية البروباجندا تخلخلت بالاندماج في الحدث الذي سُمي كالعادة بالعرس. وتسمية العرس قديمة أيضًا، لكن تجاور أو تصارع أكثر من عريس هو الجديد؛ إلى درجة أن جمهور أبي تريكة صور ما حدث على أنه هدف في مرمي السيسي، أو جوقته المبتذلة في هجومها الذي تلا تغريدة ترحم على محمد مرسى رئيس الجمهورية في عام الإخوان. ولتكتمل المفارقات كانت كلمات مرسي الأخيرة من خلف زنزانة زجاجية عازلة، وكأن الأحداث التي تتراكم حولنا تخرج من العلب التي تمنع الرؤية وتجعل الواقف خلفها حاضرًا غائبًا، والجمهور خارجها كتلًا غائمة… كأنها ولدت من غبار مستمر السقوط.
هذا الجمهور الغائم كان يريد الانبساط في العرس، واختار الدقيقة 22 ليجدد المحبة لأبي تريكة، وبعدها في الدقيقة 74 ليجدد الغضب، تتداخل المشاعر بشكل عصي على الاختصار والتلخيص، وأكثر من قدرة كل أجهزة الحكم المتراصة حول فكرة “شيطنة” كل من لا يقف معهم.. في ربط بين البلد كلها والرجل الواقف خلف زجاج معزول… تجار الشيطنة لم يستوعبوا سر أو لغز أبي تريكة الذي كان صادمًا منذ ظهوره. أسطورة ظهرت وسط مزاج النقلة الكبيرة لتحويل الرياضة إلى “بيزنس” حلب البقرة الذهبية… كان قد مر أكثر من عشرين عامًا على بداية عصر يتحول فيه النجم إلى بارون من بارونات الثروة. أصبح ساحرًا، أو أصبح الماجيكو، لأجيال خرجت من هشيم عائلات فقدت زمانها مع غياب انسجام الستينيات. وعندما كنت يومها مسؤولًا عن تحرير جريدة البديل… وفكرت في تخصيص عدد العيد عن البهجة. اخترت صورة أبي تريكة وحده على الغلاف. وكانت صدمة. كما كان الموضوع غريبًا في ظل طواحين الشكاوى من الفقر والفساد والاستبداد. كيف تبحث عن بهجة وسط كل هذه المآسي؟ كيف نوقف دورة عمل تتقصي عن مواطن الفساد والاستبداد لنبحث عن أماكن البهجة؟ حاولنا في العدد التفكير والبحث عما يبهجنا في بلد كان يسير إلى التعاسة بكل قوته… لصوص يسرقون كل شيء… ويتركون للملايين الحسرة أو التكيف أو الشعور بأن الدنيا أضيق من مساحة القبر… فيعيشون على أمل حجز مكان في الجنة. اخترنا يومها صورة تريكة لأنه صانع بهجة، فيه يرى الفرد العادي قوة انتصاره على كل العجز وقلة الحيلة… يخطف بموهبته ما يمكنه أن يصنع أكثر من هدف في مباراة… له سحر خاص… ليس ابن الصناعة الكبيرة لنجوم الرياضة… لكنه يذكر دائمًا بموهبة العبور من مستنقعات الفقر، كما كانت نجوم البرازيل في سنوات ماضية، يضاف إلى سحر موهبتها جاذبية تخطي حواجز الفقر والمرض.
لم أتعامل معه يومًا على أنه “قديس” كما يسميه الجمهور الأهلاوي، ولم أره شيخًا أو إخوانجيًّا كما يفسر قطاع واسع اهتمامه بتفاصيل متعلقة بالعبادات، أو بالحرص على إظهار علامات التدين علانية أمام الجهور. أبو تريكة ابن موهبة طارت من موقعها في عالم الشهرة والمال… لكنها بقيت بعقلها كاملًا خارج هذا الانتقال. لم يصعد أبو تريكة السلم الاجتماعي، ولا انتقل إلى رتبة البارونات، وبقي باحترافه قريبًا إلى حد كبير من موهبة الحواري، بعيدًا إلى حد ما عن تأثير “صناعة الكرة” بما تمنحه من تطوير في المهارات وبناء للعقل والجسد معًا. بدا أبو تريكة بالنسبة لي قادمًا من زمن قديم، ومعجزته أن لمع في زمن لا يعترف بالحواري ومواهبها… بل لم تعد سوى مصدرًا للجرائم والتعاسة. أبو تريكة استغنى عما تمنحه النجومية من دخول في عالم “البارونات” كما فعل الخطيب مثلًا، أو كما حاول نجوم أقل موهبة منه…
أبو تريكة
هو بارون خارج مجتمع المصالح الذي نسج شبكته بين الرياضة والبيزنس والسلطة. أبو تريكة بعيد عن هذا العالم بأبيضه وأسوده. ما زال مقيمًا عند حسه الأول… ليس بعيدًا عن عالم البارونات… لكنه ليس منهم. وهذا تقريبًا ما جعله يقف وحده ضد هجمة البارونات من أجل مباراة السوبر. لدى أبو تريكة ما يحركه غير المصالح. لديه مشاعر لم تدخل في ماكينات… أو دخلتها وارتاحت للبقاء خارجها. وهذا ما يجعله يرى اللعبة… لعبة، لا ماكينة تدر الثروات… لعبة يمكن أن تقف احترامًا لمشاعر، أو بحثًا عن حق … أبو تريكة ما زال يلعب، بينما كل الوسط المحيط به يبحث عن دوران عجلة المصالح. في قلب وسط رياضي بالكامل لا توقفه تفاصيل مذبحة جمهور اللعبة. ولا يهتز لأن مؤامرة التغطية على مرتكبي المذبحة ما زالت مستمرة. أبو تريكة وحده مع الألتراس ضد كل من حوَّلوا الصناعة إلى مافيا.. مافيا تمتص كل ما في اللعب من متعة، وتحوِّلها إلى حرب مصالح صغيرة تربط بين اتحاد الكرة ومجالس إدارة النوادي وعكاكشة الإعلام الرياضي… دائرة واحدة لم تخجل حينما سارت خلف جمال مبارك في كارثة الجزائر، ولا عندما قادت الثورة المضادة دفاعًا عن نظام مبارك، والآن عندما يوجهون حملة ضد الضحايا لصالح القتلة. أبو تريكة وحده في مواجهة مافيا لم تكن إلا جزءًا من نظام فاسد، ومستبد أدار البلد كلها كأنها عزبة أملاك… واعتبر منتخب البلاد لاعبين في سيرك ترويضه للشعب… هناك طبعًا جمهور يريد أن ينسى؛ جمهور تسيطر عليه مقولات فاسدة، ترى أن ترسيخ القيم واستعادة الحقوق سيوقف السير ويعطل الحياة. لم يعد لدى الألتراس سوى الضغط لاستكمال كشف مؤامرة اشترك فيها المجلس العسكري وأجهزته كلها… هذه المؤامرة التي لم تكشف، ولن تكشف إلا بالضغط، والمزيد من الضغط. الألتراس ليسوا وحدهم؛ فهم طلاب المتعة الأكثر تعصبًا لها… يوقفون سبب متعتهم، تمامًا كما يفعل أبو تريكة عندما يرفض اللعب على حساب ضياع دم الشهداء. وهذه القدرة على الاستغناء، أو الإفلات من جاذبية المافيا وخطابها المبتذل، هي من أسباب البهجة… لو تعلمون!