تختزن العتبة؛ مجرد الكلمة، كثافة أكثر قليلاً من قرن ونصف القرن، وتنطوي على طبقات من التحولات؛ الحادة والناعمة، والازدهار والأسن، وهي اليوم إذ تطل على مشارف تحول جذري وحاسم تنبِّه إلى أهمية تفكيك كثافتها تلك، والطلة على المخاطر الهائلة التي قد تجلبها تحولاتها المقبلة. وهي جزء مركزى، حديث نسبيًّا، ضمن إطار أوسع، كثيف بدوره، ربما أعمق كثافة وأبعد مدى؛ وهو الأزبكية.
الحديث عن النشأة ضروري؛ وقد يكون دالاً، ليس فقط لفهم الثقل الهائل الذي يدمغ به الاسم وقائع التاريخ وتحولات المكان، وإنما اتصالاً بالواقع أيضًا، وربما بالغد القريب.
نسبة الأزبكية تعود إلى مُنشأها الأول: الأتابك سيف الدين أزبك من ططخ الظاهري، والسنة 880 هجريًّا (1475)، اسم الرجل كله يبدو لغزا الآن. الأتابك، بحسب المعجم الكبير، لمجمع اللغة العربية: لفظ تركي مكوَّن من قسمين (آتا = أبٌ، بك = سيد)، وهو لقب سلجوقي، كان يُطلق على أكبر أمراء الجيش في الدولة المملوكية، واسمه أزبك، أما “سيف الدين” فهو لقبه الأول، إذ اعتاد رجال السيف والقلم في دولة المماليك حمل ألقاب مضافة للدين، بعضها ذو صفة مدنية مثل: جلال الدين، تقي الدين، جمال الدين، كريم الدين؛ بينما حمل العسكريون ألقابًا ذات صلة بالبأس والقوة مثل: سيف الدين، ركن الدين، عزالدين، وأما “من ططخ“، تلك فهي علامة “العبودية” الأولى، فـ «ططخ» هو التاجر الذي جلبه صغيرًا إلى مصر ليباع مملوكًا، و«مِن» هي نسبة اعتاد المماليك استخدامها فينسبون بعضهم للتاجر (الجلَّاب) إما بأن يقال فلان من فلان، أو أن يُنسَب مباشرة للتاجر كقولهم «قايتباي المحمودي» نسبة إلى جلابه المدعو محمود، والظاهري ليس نسبة إلى المذهب الظاهري، كما قد يظن البعض، بل إلى مالكه، فقد كان لكل مملوك نسبة لجالبه (تاجر العبيد الذي يجلبهم ويبيعهم في سوق العبيد) أو لمالكه أو لكليهما. وأزبك نُسِبَ للاثنين معًا فهو «من ططخ» جالبه، وهو «الظاهري» نسبة للسلطان الظاهر جقمق، مالكه.
الأتابك سيف الدين أزبك من ططخ الظاهري، كما يكشف لنا ابن إياس– المؤرخ المصري محمد ابن إياس الحنفي القاهري (1447- 1522)- في كتابه “بدائع الزهور في وقائع الدهور” هو الذي أنشأ هذا الحي. الأرض أهدها، أو منحها، أو تغاضى عنها السلطان قايتباي لقائد جيوشه، وقد كانت كما يصفها ابن إياس “أرض ساحة خراب، ذات كيمان في أرض سباخ، وبها أشجار أثل وسنط، وبها مزار سيدي عنتر وسيدي وزير، وغيرهما من الأولياء رضي الله عنهم، وكان في هذه الأرض جامع خراب يسمى جامع الجاكى“، ثم يستغرق في تفاصيل البناء حتى يصل للنقطة ذات المعنى بالنسبة لسياقنا “وأصرف على ذلك مالاً (…) ثم شرعت الناس تبنى على هذه البركة القصور الفاخرة والأماكن الجليلة، ولا زالت تتزايد في العمارة إلى سنة إحدى وتسعمائة (هجريًّا)، وقد رغب الكثير من الناس في سكنى الأزبكية، وصارت مدينة على انفرادها، ثم أنشأ بها الجامع الكبير وجعل به خطبة، وأنشأ به المئذنة العظيمة، وجاء غاية في الحسن والتزخرف والبناء. ثم أنشأ حول هذا الجامع الربوع والحمامات والقياصر والطواحين والأفران وغير ذلك من المنافع، وسكن في تلك القصور وتمتع بها مدة طويلة، حتى مات وبقي له تذكار بالأزبكية.”
كان تحوُل الأزبكية مع نهاية القرن الخامس عشر إلى حي كبير للأثرياء استشرافًا لتحول اقتصادي واجتماعي كبير، كبحه السلطان الغازي سليم الأول الذي أخضع مصر لسلطان دولة بني عثمان، وأعاق تقدمها المُحتمل لنحو ثلاثة قرون.
بنى الأثرياء في مصر؛ خلال سنوات القرن الثامن عشر، دورًا لهم على الشاطئ الجنوبي لبركة الأزبكية، وبعضها– لعظمتها وجمالها وشهرتها– توارث سكناها وملكيتها الأمراء والأغنياء، عن أحدها يقول الجبرتي “هو أحد دور المجد والفخر والعز، وكانت تتكون من اثني عشر مسكنًا متجاورًا كل مسكن منها كان بيتًا متسعًا على حدته، وكان هذه الدار ملتقى أمراء مصر وأدبائها وضيوفها، وكانت تقع مقابل جامع أزبك“.
الجبرتي– عبد الرحمن بن حسن برهان الدين الجبرتي (1753 – 1825)، مؤرخ مصري معاصر لتلك الفترة، وقد وصفها بدقة في كتابه «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» والمعروف اختصارًا بـ«تاريخ الجبرتي»-، ينقل لنا جانبًا من البذخ الذي تتابع على تلك الدار مع مالكها الجديد الأمير رضوان كتخدا الجلفي (ت 1755)، فقد أدخل عليها تعديلات ووسع حدائقها وأباحها للنزهة لكل الناس وخاصة أيام الفيضان، وكان على باب هذه الدار العمودان الملتفان المعروفة عند أولاد البلد بثلاثة ولية، وعقد على مجالسها العالية قبابًا عجيبة منقوشة بالذهب والأزورد والألوان والزخارف الدقيقة وعمل بواتك على البركة مباشرة كانت بمثابة سوق عامرة وقت الفيضان، وكان هذه الدار بفخامتها وبذخ أثاثها موضعًا للشعراء“.
هذه الدار التي كانت تعرف للعامة باسم قصر العتبة الزرقاء لأن بعض درجات السلم، وربما بعض أعمدتها كانت زرقاء، وربما في أوقات كانت بوابتها؛ التي كانت تؤدي لشارع الأزهر، زرقاء اللون، مر بها نابليون، سريعًا، في بعض أيامه القاهرية القليلة. ثم كان أن خرج بعض التجار والأثرياء من أطراف الحي في عصر يوم 13 مايو عام 1805 يتنادون لمبايعة محمد علي أميرًا على مصر، بدلاً من الوالي الذي ولاه السلطان– خليفة المسلمين-.
العهد الذهبي للأزبكية وللعتبة بدأ مع عباس باشا (1848- 1854)، الذي يصف عبد الرحمن الرافعي عهده بأنه “عهد رجعية“، فعلى الرغم من كل مظاهر التدهور التي صاحبت حكم عباس باشا إلا أنه كانت هناك بعض ملامح النمو العمراني في عهده، فقد تطوَّر مناطق عمرانية قائمة، منها– اتصالاً بسياقنا– منطقة بركة الأزبكية: عمل على تطوير المنطقة بعد أن أساء الأهالي استخدامها وتسبب الإهمال وإلقاء القمامة في المنطقة المحيطة بالبركة إلى انسدادها وتراكم الحشرات بها، فأمر عباس بردم القناة واستبدل بها جدولاً يروي البركة في وقت الفيضان. ومنطقة بركة الفيل: حيث اهتم بتمهيد وتسوية المنطقة وأقام قصرًا كبيرًا فيها، وأقام ميدانًا كبيرًا وأطلق على المنطقة اسم “الحلمية” نسبة لعباس حلمي باشا. ومنطقة العتبة الخضراء: فقام بهدم القصر الذي كان بمنطقة العتبة الزرقاء وأقام بدلاً منه قصرًا كبيرًا عُرف باسم قصر العتبة الخضراء، ومنه أخذت المنطقة تسميتها الجديدة بسبب تشاؤمه من اللون الأزرق.
عباس باشا أنشأ، أيضًا، أول سكة حديدية، كان دخول القطار الفعل الوحيد الذي سيذكر به الباشا، غريب الأطوار، فعل غيَّر تمامًا طبيعة الحياة؛ ليس فقط في القاهرة، بل مصر كلها، فعل حدد بصورة قاطعة آفاق التطور والنمو، ووضع حدودًا حادة داخل مصر، فهو إذ ربط بين الإسكندرية والقاهرة، ومن ثم بالسويس، وتاليًا بورسعيد، رسم خريطة ما زالت آثارها فاعلة حتى اللحظة، اليوم تقام بطولة أمم أفريقيا لكرة القدم، انظر أين تقام المباريات، ترى خطوط التطور تلك، فالتنمية التي كانت في الغالب محصورة هنا، محرومة منها باقية المناطق، ذلك التحديث كان بالأساس؛ وبحسب جلال أمين، لخدمة التجارة الدولية، وبأعباء ديون دفع المحرومون تكاليفها الأعلى.
العهد الذهبي للأزبكية وصل لذروته الخيالية مع الخديو إسماعيل، فخطته العمرانية كانت مركزة على بناء عاصمة حديثة، فعمل على تطوير منطقة الأزبكية لتصبح مركزًا ثقافيًّا ترفيهيًّا غربي الطابع وتماثل مثيلاتها في فرنسا، وعهد للمهندس بارلي بوضع تصميمات حديقة الأزبكية لتتحول إلى منتزه فخم يماثل نظائره في أوروبا، وقام بارلي بتصميم الحديقة بنمط إنجليزي مماثل لنمط منتزه “مونسو” وافتتحت الحديقة في 1872. وتم تخطيط المنطقة المجاورة للحديقة لتحتوي على دار الأوبرا ومسرح الكوميدي، ولكي يكتمل المسعى نقل مقر الحكم إلى قصر عابدين الذي بناه حديثًا، ثم تابع النشاط التجاري رحلة الانتقال من قلب القاهرة المعزية تجاه الموسكي والأزبكية، وظهر الكثير من المحلات المملوكة للأجانب في منطقة الأزبكية. عاشت الأزبكية؛ والعتبة بالتبعية، نحو قرن من الازدهار المضطرد، تخللته؛ بلا شك، تحولات حادة، جاءت مع الاحتلال البريطاني (1882)، بعض آثارها قد نجدها بذكاء لافت في “زقاق المدق“.
الآن ماذا نستنتج من هذا العرض للمعلومات التاريخية الغفل؟ أين سنجد أثر الأتابك، والرجعي، والحالم بباريس الشرق؟
لا يبلغ بنا التهور حد البحث عن معلومات ودلالات في البيانات الشخصية لرئيس حي الأزبكية، فالسيد صبري محمد عبده سليمان عبده، رئيس الحي، ضابط سابق– حاصل على بكالوريوس علوم عسكرية، ودبلوم العلوم السياسية والدراسات الاستراتيجية، لكنه أيضًا، حاصل على بكالوريوس تجارة – إدارة أعمال، جاء إلى الأزبكية بعد خبرة في رئاسة حي دار السلام، بالإضافة بالطبع إلى المهام التي قام بها داخل القوات المسلحة والمتصلة بمجال أعمال التنظيم والإدارة، كما لا يبلغ بنا التهور حد القول إن الأتابك والرجعيين والحالمين يبنون ويعمرون وتبقى منجزاتهم بعد رحيلهم، بغض النظر عن النقد الجذري لخيارتهم “التنموية“، فتلك خديعة “التاريخ“، فعل يكون في الأساس خطأ، أو أدوات تنفيذه خطأ لكنه يصبح بمرور الوقت “مكسبًا” إذا غفل الناظر إليه عن الأثر الأعمق الذي يخلفه في طبيعة وبنية التطور الجمعي للمجتمع، فكأس الأمم مرسومة على حدود قرارات عباس باشا وانحيازاته هو ومن خلفه في الحكم، فالمحرومون من إمكانية مشاهد المباريات في المدن المصرية الأخرى سواء أدركوا ذلك أم لم يدركوه ضحايا توزيع غير عادل للثروة والسلطة، ليس الأمر أن تذهب إلى الملعب لتشاهد مباراة، يكفي أن تأتي إليك المباراة– في المنيا مثلاً– سيكون ذلك مكسبًا كبير بلا شك– المتعة شيئًا لا يقدر بالطبع– مكسبًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا.
كل ما بإمكاننا استخلاصه من ذلك العرض التاريخي أن المدن– وبالدرجة الأولى “العواصم“- لها قوانين خاصة، وقد طالعنا قانون الأزبكية: قرار الأتابك استتبع تجمع الأثرياء حول المنشأة الحديثة، التي بنيت، كما أغلب المنشآت المعمارية الكبرى في مصر طول تاريخنا الحديث وفق أحد فعلين، أو كلاهما: ردم وحفر، ردم مستنقعات وبرك، وحفر وشق ترع وقنوات، وهي أفعال تطرد بالضرورة منتفعين، وتُهجِّر سكانًا وعمالاً ومنتفعين.
الباشوات والخديوات تابعوا الأتابك، أنشأوا القاهرة الجديدة: كمقر جديد للحكم، متصل به أماكن جديدة لسكن الأثرياء، وأماكن للترفيه، وللتجارة. والقاهرة الجديدة تلك تمثِّل قطيعة تامة مع العاصمة– مقر الحكم– كما صاغتها إرادة عمر بن الخطاب في رسالته لسعد بن أبي وقاص– فاتح العراق “لا تجعل بيني وبينك ماء“، كي يسهل مده بالقوات والمعدات في حال الحاجة، ولأن العرب لم يكن قد أحسنوا ركوب البحر بعد، ووفقها خط سعد الكوفة (أول مدينة عربية)، على الضفة الغربية للنهر، وهكذا أنشأ عمرو بن العاص “الفسطاط“، شرق النيل وفي أطراف الصحراء، وتابعه الباقون من الولاة والحكام، وظل “الحكم” محصورًا داخل الفسطاط، المعسكر، القطائع، القلعة، ملتصقًا بالصحراء، بعيدًا عن الماء، والسكان؛ المزارعين بالأساس.
قاهرة إسماعيل مثَّلت قطيعة تامة مع كل هذا– ربما مثَّلت محاولة الأتابك أزبك محاولة مبكرة لذلك– فهو بقراره الانتقال إلى عابدين ليكون قريبًا للغاية من النيل، وجعل الأزبكية مركزًا ثقافيًّا ترفيهيًّا غربي الطابع؛ تشغل فيه دار الأوبرا الخديوية مركزًا محوريًّا، وبإدخال عباس للقطار من قبل، كون ما يطلق عليه مركز المدينة– العاصمة (CBD)، مركز واحد ومحيطات متعددة حوله: فهناك محيط تجاري– إداري، وثانٍ ثقافي، وثالث سياسي. وبمرور الوقت أصبح هناك ثلاث نقاط: باب الحديد (رمسيس، محطة مصر، محطة القطار الرئيسية)، والعتبة، والتحرير، تمثل المناطق الواقعة بينها، وتلك التي على تماس مباشر معها، النقطة صفر المركزية التي تختزن كل كثافة مصر، في كل مناحي الحياة.
في العتبة يوجد الصفر “الواقعي“، النقطة التي تقاس منها المسافات بين القاهرة وبقية المحافظات والمدن المصرية، هكذا يدعى الموقع الرسمي للملك فاروق الأول، على الشبكة العنكبوتية، فإجابة على سؤال: كيف تقاس المسافة من القاهرة إلى أي محافظة أخرى؟ يأتي الجواب بأن “المسافة تقاس من داخل هيئة البريد في ميدان العتبة، حيث يوجد داخل مبنى هيئه البريد تمثال للخديو إسماعيل، وتوجد أسفل قاعدته نجمة، وهذه النجمة هي مركز القاهرة الذي يبدأ منه قياس المسافة من القاهرة إلى المحافظات الأخرى“، هل من الضروري البحث عن مدى صحة ذلك، أم أن الأفضل الذهاب إلى التقارير والدراسات التي قام بها الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، وغيره من الأجهزة المعنية بالدراسات العمرانية والتخطيطية؟ في الواقع لا يجادل أحد في أن تلك المنطقة هي مركز القاهرة، مركز العاصمة، مركز مصر بالتالي.
هذه المنطقة التي تسمى مركز المدينة التجاري والإداري يحددها جهاز التنسيق الحضاري وفق مفاهيم نظرية الأماكن المركزية، والمقصود به (المركز) الحي التجاري الواقع في قلب المدن (بالإنجليزية: Central business district)، لكن بالنسبة للقاهرة (القاهرة منذ سبعينيات القرن التاسع عشر وحتى اللحظة) يتجاوز الأمر الجانب “التجاري والإداري” كما هو واضح بجلاء.
نظرية الأماكن المركزية هذه صاغها في عام 1933 عالم الجغرافيا الألماني والتر كريستالر (1869- 1969)، وهي تحدد المعايير التي وفقها يتكون موقع داخل المدينة تتركز فيه الأنشطة الاقتصادية الأكثر أهمية، وعلاقة ذلك المكان بمحيطه الجغرافي، ووفق هذه النظرية أضحت منطقتنا المعنية مركز القاهرة، ووفقًا لموقع الملك فاروق– لا حاجة للتدقيق في المعلومة، فهناك رمزية هائلة في التعبير في سياقنا– فالمركز صفر لقياس المسافات موجود في العتبة.
الآن، يجري العمل على صفر آخر، و (CBD)آخر؛ فالأخبار تذكر أنه “يتم تخطيط وتصميم منطقة الأعمال المركزية “CBD” على أن تكون جوهرة التاج في العاصمة الإدارية الجديدة؛ إذ توفر مجمعًا متعدد الاستخدامات منها ما هو إداري، وما هو تجاري، وترفيهي، وفندقي، وآخر سكني، وهو ما سيؤهل المنطقة لتصبح رمزًا للحضارة والتقدم الإقليميين“.
هنا يجب سماع الصوت الذي يقول: يا سلام سلم، بدل الواحد اتنين: صفرين، واتين (CBD)، وعاصمتين، والعتبة جزاز والسلم نايلو في نايلو. هذا الصوت قد يحاول أن يكون رصينًا، ويدَّعي الحكمة ويقول: هذا النقل إلى الصحراء على مسار الارتباط بحركة التجارة الدولية، بعيدًا عن النيل متعارض، ليس فقط مع سياقات الرشادة الاقتصادية، لأنه قائم على الديون أو حسابات قد تختل في أية لحظة، بل متعارض بالأساس مع سياقات ومقتضيات الوحدة العضوية للرابطة الوطنية الحديثة.
العواصم؛ كما يخبرنا التاريخ المصرى، تُختار وفق محددات قليلة وقاطعة: الغازي، أو المحتل، أو الفاتح، يختار موضع أمان في الأساس، ويجبر السكان؛ الأثرياء منهم بالأساس، على الالتحاق به، كما قد تختار أحيانًا نتيجة تغير في العقيدة، أو للمجد الشخصى، أو لظروف طبيعية قاهرة.
كيف، ومتى بدأ انحدار العتبة، أو مركز المدينة– مركز العاصمة، مركز مصر، نقطة الصفر– إلى الدرجة التي تعامل على أنها “منطقة” منكوبة، أو موبوءة، أو غير صالحة على أقل تقدير؟ بعد قرن بالتمام من تغيير عباس باشا “الرجعي” لون العتبة إلى الأخضر بدلاً من الأزرق لأنه يتشاءم منه، أعلن مجموعة من الضباط نهاية الدولة العلوية، وقيام الجمهورية، وكانت تلك إشارة البدء لهجرة بقايا أثرياء العهد “البائد” إلى مركز المدينة، أما “الطبقة الجديدة” فلم تجد فيه مكانًا لائقًا، أو آمنًا، فاختار أغلبيتها مصر الجديدة، أو الأطراف الأقرب لطبيعة الريف؛ مسقط رأس أغلبهم، وبتحول مقر الحكم عن عابدين إلى قصر القبة– مع بقاء عابدين للمظاهر الاحتفالية– فقد المكان أهم مقومين من مقومات مكانته المركزية الخاصة بمصر– مركزية مطلقة وتعدد دوائر أنشطة متداخلة–، وعاش المكان على النفس الأخير للملمح الثقافي الترفيهي البريء؛ فغير البريء في شارع كلوت بك وما حوله انتهى بنهاية الاربعينيات.
المقلب الآخر لحركة الضباط تجاه المركز جاء اتساقًا مع الهجرة والإهمال، حريق الأوبرا كان كلمة سر خفية لحرائق أخرى، فالكثيرون يربطون بين حريق الأوبرا الخديوية– فجر 29 أكتوبر 1971- وبين حرائق العام التالي التي طالت أماكن مسيحية عدة، أسلمة المجال العالم كانت تنمو باضطراد بينما المركز يفقد بريقه ويتغير رواده، الحريق التالي في الميدان جاء بعد أن أصبح الأكثر ازدحامًا وقبحًا، أتى الحريق– 27 سبتمبر عام 2008- على كامل المسرح القومي؛ الذكرى الباقية من حلم باريس الشرق. والآن يصعب؛ إن لم يكن يستحيل، الذهاب بيسر إلى مسارح العتبة المحاصرة بالباعة الجائلين من كل مكان.
هل هناك تعمد في كل ما حدث للعتبة؟
الوقائع تؤكد أن قرار هجر المنطقة من قبل السلطة كان لدواعٍ أمنية بحتة، وهجر الأثرياء لها كان بسبب عدم أمان السلطة للوجود وسط كل هذه الكثافة. ومع هجرهم تراجعت جاذبية المكان، وأهميته.
ولماذا لا يُلتفت إلى حريق القاهرة– يناير 1952- باعتباره العلامة الفارقة الأولى؟ لأن الأمر أكثر تركيبًا بكثير من أن تحيط به نظرة واحدة، وسياق واحد، فحريق القاهرة متصل بما سبقه مباشرة– عجز الكفاح المسلح في القناة عن أجبار الاحتلال البريطاني على الجلاء، وعجز القوى السياسية عن تقديم تصور للتصدي للتعقيد الاجتماعي والسياسي، إذ تتشابك قضية الاستقلال غير المنجز، وهزيمة حرب فلسطين، مع قضية الصراع الطبقي المحتدم–، ومرتبط، أيضًا بما يليه وصولاً إلى 1956، فالسنوات الست أسهمت– بالإضافة إلى عوامل عديدة أخرى– في إنهاء جانب مهم للغاية من “حلم إسماعيل“، وهو الحضور الأجنبي بشرًا ونموذجًا.
تحولات العتبة عدة، والعوامل التي تساهم في انحدار المكانة والدور والجاذبية كثيرة، هناك صراعات اقتصادية مطمورة، أو على الأقل غير ظاهرة بوضوح، هناك صراع بين المصنعيين والمستوردين، الأنشطة العلنية والسرية، أبناء النهار وأبناء الليل، اقتصاديات وأخلاقيات الزحام والتعايش مع الخطر واللامبالاة ورغبات ملامسة تاريخ زائل.
وبمرور الزمن احترقت وتهدمت وزالت مبانٍ كثيرة، وأقيم مكانها مبان شديدة القبح، يبدو القبح متعمدًا، بل يمكن المجازفة بالتأكيد على أنه متعمد، فالقرارات تتخذ بلا شفافية ولا دراسة، وهذا جذر الفشل بعيدًا عن النية والقصد.
تصوير الغلاف: سامح أبو حسن