في الليل، عندما أجلس وحيدًا على شاطئ الماء في بولاق الدكرور أتذكر الأصدقاء المسافرين بالقطارات وهم يلوِّحون لي عبر نوافذ القاطرات وهي تهدر بعنف.. في ذاكرتي، أفتش عن ذكرى ما حزينة؛ حيث الأسرَّة وجدران الاستراحة، أحاول أن أشم جواربهم، ملابسهم، أحذيتهم.. أشم هذا الهواء الملوث بعفن الذكريات، بالضحكات الخشنة بدخان السجائر الكليوباترا وهو يتصاعد بلونه الأزرق الجميل.. أهرب من هذا الإحساس مع أني أحبه بعمق.. استراحة بولاق الدكرور وأنا أنظر إلى البلاط المنقوش عليه خطواتي المرتبكة في هذه الحياة.. وبطاطين الأسرَّة وهي تنادي على ذكرياتي.. أحيانًا كنت أنام بكل ملابسي بفعل الإرهاق، فيأتي عم جعفر ويخلع حذائي بصمت وحنان الأب، أو يأتي عم عثمان فينو فيرش على وجهي الماء كي أستيقظ؛ إذ ينتظرني قطاري الحبيب على رصيف المحطة.. في تلك الليالي المرتبكة من حياتي كنت أبحث عن الصداقة والحب والنساء.. هل كنت أبحث عن المستحيل؟
أهرب مرة أخرى كي أذوب في أصوات الطبيعة على شط الترعة التي عشقتها بعنف.. من أجمل لحظات حياتي عندما أجلس على شط الترعة في بولاق الدكرور.. التناقض الذي دمرني؛ فالمسافة بين بولاق الدكرور وبين ميدان التحرير لا شيء على الإطلاق، مجرد 5 دقائق فقط، ولكن هيهات بين هذا العالم المملوء بالضجيج والصراعات الأيديولوجية والفكرية -ميدان التحرير- وبين صراع الطبيعة هنا على شاطيء الماء في بولاق الدكرور.. كان من دواعي سروري عندما عملت في السكك الحديدية أن وجدت هذه الترعة الجميلة ذات الماء العذب وأشجار التوت والنخيل والجوافة والنبق والجميز ونبات عباد الشمس الجميل.. في الأيام شديدة الحرارة كنت أستظل تحت تكعيبة العنب، والوابورات البخارية القديمة تقف في صمت التاريخ على القضبان الصفراء.. أحيانًا كنت أذهب إليها؛ أتلمس بأصابعي ألواح حديدها الخشن الصدئ، وأظل أبكي بصمت.. على أي شيء كنت أبكي؟ هل كنت أبكي بسبب صمت التاريخ؟ هل كنت أنادي على زمن ما وددت أن أعيش فيه؟ أم كنت أحاول أن أستعيد ذكرياتي مع هؤلاء؛ مع سائقي القطارات العظماء، الذين عملت معهم وعمري17 عامًا؛ فتى غضًّا لا أعرف من تاريخ البشر أي شيء.. لا شيء على الإطلاق.. ومن بينهم عم مصطفى عبد النبي؛ أكتب اسمه كاملاً كي أتذكره بكل تفاصيل وجهه؛ هذا الخلود البشري الذي كنت أراه في عينيه، في خطوات قدميه وهي تمشي على أحجار البازلت والفلنكات، وشعر رأسه الأبيض، وحاجباه الأبيضان، وشاربه الأبيض، وهو يتكلم معي.. لا لم يكن أبًا، بل كان فعلاً مثل جدٍّ يتكلم مع حفيده. حتى تلبستني حالة الحفيد وأنا أعبث معه بالكلمات، وهو يعلمني كيف أقود القاطرة الألمانية الحديثة حتى على عقله الشيخ.. كنت أندهش من كمية الحنان الذي يتعامل به مع القاطرة ذات الحديد الصلب الذي لا يشعر ولا يحس مثلنا نحن البشر.. وعم مصطفى يعتبر عمليًّا الابن الشرعي لعصر وبورات البخار.. ومع ذلك كنت أهرب من كل هذه المشاعر الفياضة تجاه فكرة التاريخ، وأذهب لأجلس تحت تكعيبة العنب، وأنظر إلى هذا الصراع المخيف بين نبات ست الحُسن وبين أغصان وأوراق العنب.. هذا الصراع الذي كنت أتأمله كثيرًا بين لحظة وأخرى.. وحقيقة كنت أتعاطف مع العنب ضد شراسة نبات ست الحُسن؛ بلون زهرتها البنفسجية ذات المظهر اللامع البراق.. صراع ويا له من صراع متوحش! شخصيًّا لم أدرك قوة نبات ست الحُسن إلا عندما وجدت عم علي أبو ستيت وقد أحضر بلطة حادة وبعنف شديد قطع دابر أو غصن سميك ملفوف بدرجة لا شك في أنها ستميت أغصان العنب، لكن ماتت أوراق ست الحُسن الأصغر نسبيًّا من أوراق العنب؛ شاهدت أوراق ست الحسن تتلولب وتلتف لفَّات متقنة على أغصان العنب حتى حجبت عنها ضوء الشمس.. ماتت أوراق ست الحسن بعد الضربة المميتة من أبو ستيت.. فقد سمعته وهو يهوي عليها ويقول “بنت الوسخة كانت هتموِّت العنباية”، الأمر الذي جعلني أنتبه بشدة إلى أن هناك صراعًا شرسًا ومخيفًا بل ودمويًّا بين النباتات المتسلقة؛ مثلنا نحن البشر، وفيما بعد، أو في الفترة نفسها، شاهدت هذا الصراع أيضًا بين نبات ست الحُسن وبين نبات اللبلاب، وذلك على عمود تلغراف.. لكن في هذا الصراع انتصرت ست الحُسن على اللبلاب انتصارًا حاسمًا، وذلك بعدما صعد نبات اللبلاب أولاً على عمود التلغراف المنسي والمقام بجانب حجرة عم سيد صابر.. صعد اللبلاب معتقدًا أن عمود التلغراف خالٍ من أي نبات متسلق، ولكن كان يوجد فرع صغير من ست الحسن وسرعان ما تسلق هذا الفرع الصغير عمود التلغراف، وهنا حدثت المعركة؛ في البداية تخيَّلت أن نبات اللبلاب انتصر، ولكن كان هناك فرع آخر من نبات ست الحُسن فوق حجرة عم سيد صابر، وبفعل تيارات الهواء التحم هذا الفرع الكامن فوق سقف الحجرة مع خشب عمود التلغراف، وظلَّ ينمو حتى وصل إلى قمة العمود، في الوقت الذي كان يصعد فيه نبات اللبلاب العمود.. ربما أخذ اللبلاب الغرور وتصوَّر أن المعركة سهله؛ ولم يدرك أن هناك فرعًا من نبات ست الحسن قادم من أسفل عمود التلغراف، ومن هنا صنعت ست الحُسن كماشة على اللبلاب بالفرع الساكن قمة عمود التلغراف والفرع الآخر القادم من أسفل العمود.. وما هي إلا أسابيع قليلة إلا وانطبق فرعا ست الحُسن على فرع اللبلاب الغافل.. في الحقيقة كان مشهدًا شديد القسوة، إذ لم ينتبه نبات اللبلاب المسكين إلى النمو المتسارع لنبات ست الحُسن، خصوصًا من الفرع القوي القادم من أسفل.. ربما انهزم ست الحُسن في معركته مع العنب فوق التكعيبة بالضربة القاضية التي سددها علي أبو ستيت، وربما لم يعرف ست الحُسن كم نحب العنب، بل ونحتفي بنمو أوراقه وعناقيده في صبر ومحبة، فمن المعتاد عندما تنمو أوراق العنب وتنضج تجد أحد العطشجية الشباب وقد أحضر سلمًا وتسلَّق تكعيبة العنب، وهو يجمع أكبر كمية من أوراقه الخضراء الكبيرة الناضجة في سلة أو جردل، ونحن بأسفل التكعيبة نوجه نظره بالكلمات أحيانًا أو بعصا طويلة أحيانًا، محاولين لفت نظره كي لا يقترب من عناقيد العنب الصغيرة والتي ما تزال في أوائل أطوار نموها.. كل ذلك وسط الضحكات المختلطة من الشباب مع السائقين كبار السن الذين يحاولون إغراء الشباب بالوعد بحلة محشي ورق عنب مُعتبرة من أصابع “أم العيال”.. عندما يتحدث أحد السائقين عن زوجته لا يذكر اسمها، ولا حتى يقول فلانة زوجتي، بل يقول “أم العيال ها تطبخ محشي النهاردا”.. فمن تقاليد هذا المجتمع ألا يذكر الرجل اسم زوجته أمام الآخرين، ولا أعرف حقيقة متى وأين اكتسبوا هذه الحرمة في نطق اسم الزوجة!
وربما تقليد حرمة اسم الزوجة من تقاليد عصر الوبورات البخار، إذ لاحظت أنه ومع دخول عصر القاطرات الحديثة حدث تحول طفيف في العلاقات الاجتماعية، ومع ذلك لم أتمكن، حتى الآن، من أن أخبر الأصدقاء العطشجية والسائقين أن أخواتي البنات يذهبن إلى الأوبرا أو إلى المسرح.. أو أنني ذات يوم جلست في حجرة أخواتي البنات أستمع إلى مناقشة رواية من روايات الكاتب عبد الرحمن منيف، وأنها؛ أختي الكبرى، هي التي عرفتني على الكاتب الأمريكي هيمنجواي، وأخذتني في يدها وذهبنا إلى مسرح الطليعة، ودخلنا مسرحية “مس جوليا” في أمسية شتوية، وبعدما خرجنا من المسرحية ظلت تمزح معي وهي تسأل عابثة” فهمت حاجة من المسرحية؟”.. يومها لم أُجب على سؤال أختي، لكنني ما أزال أتذكر شذرات من أداء عبلة كامل، وأيضًا حالة الضوء والخفيف التي كانت تظلل المسرحية ذات الفصل الواحد.. أقصد أنني كنت أتمزق بين حياتي الليبرالية في المنزل، وبين حالة الانغلاق الثقافي التي كنت أعيشها في مجتمع السكة الحديد المنغلق اجتماعيًّا وثقافيًّا..
من اللحظات التي ظللت أبكي فيها- وربما حتى الآن- عدم ذهابي إلى الحفلة الأولى لفيلم المومياء؛ وأعتقد كانت في سينما راديو، لا أتذكر، ولكني أتذكر حالة البكاء المميتة، والحسرة على عدم دخولي هذا الفيلم المهم جدًا، خصوصًا وهو يُعرض على شاشة السينما العملاقة.. أتذكر أن أخي مطراوي عاقبني بعدم ذهابي معهم لمشاهدة الفيلم بسبب أنني كذبت عليهم كذبة بيضاء، من عبث الطفولة البريء، يومها شعرت بحزن عظيم، إذ حدثت مناقشات عظيمة في المنزل بين أخواتي البنات وأخي مطراوي قبل وبعد الفيلم، الأمر الذي جعلني لا أكذب في سلوك اجتماعي حتى الآن وهو ما جعلني أعيش في حالة منعزلة.. لقد اكتشفت أن المجتمع كله يعيش في حالة كذب مريضة.. لكن أخي مطراوي كافأني بعد ذلك وأدخلني فيلم “مَن قتل بن بركة” ولا تتخيلوا سعادتي بهذه المكافأة، فقد سببت تحولاً في مشاهدتي للأفلام، وهي فرحتي بالحياة، مثل فيلم “إسكندرية ليه” وكانت في سينما نورماندي في مصر الجديدة.. وكم كانت سعادتي عندما شاهدت هذا الفيلم؛ إذ حدثت أيضًا مناقشات عظيمة بعد الفيلم في حجرة أخي مطراوي، أو في حجرة الرجال، حضر هذه الأمسية الصيفية الكاتب محمد إبراهيم مبروك، وكان صديق الأسرة.. يومها كنت منبهرًا خصوصا عندما سمعت اسم المخرج الإيطالي فيليني ويا لها من سعادة.. وفيما بعد عندما شاهدت فيلمه “روما مدينة مفتوحة” في معهد جوتة تذكرت الأيام الجميلة في منزلنا.. ولكن هذه حكاية أخرى!