في الليل، كنتُ أحلم، وأنا أقف في نافذة حجرتي التي تطل على شجرة “ستنا مريم” المقدسة، والضوء الأصفر يهزني من أعماقي، وهي تبدو في الليل مثل شمعدان.. أحيانًا كنتُ أستيقظ في الفجر وأفتح النافذة لأجد الضباب يلفها، والشجرة بأوراقها الخضراء تكاد تلمس السحابة البيضاء.. كنتُ منبهرًا وفخورًا بتلك الشجرة في حياتي؛ وعلى ملامحها استيقظت كل حواسي النفسية والبصرية، إن لم تكن الشجرة المقدسة هي نفسها كل حياتي.. وقد صحبت كل الأصدقاء ليجلسوا تحتها، كي يروا تلك المعجزة التي أعيش في رحابها..
في الربيع، تنضج ثمار الجميز ببطء أمام عينيَّ؛ من الأخضر الداكن، ومن ثَم يتحول ببطء أشد إلى الأصفر الفاتح، ثم إلى الأصفر الداكن، وأنا أشاهد منبهرًا هذا الخلود الباهر لسر الخلود.. أرقب أحد أسرار هذا الكون المتناغم والمتناسق في نسق هارموني خلَّاق.. بالصراع الوجودي لنظرية ديمومة البقاء.. بغريزة التناسل واللذة.. أشاهد نبات “الجهنمية” المتسلق وهو ينمو ويمتد، متسلقًا جذع وأعواد وأوراق شجرة الجميز، مثل الصراع المخيف، الذي ذكرته سابقًا، بين نبات ست الحُسن والعنب واللبلاب، لكن الصراع هنا كان أقوى وأعنف! لأن نبات الجهنمية أكثر جمالاً وفتنة، بلون زهوره الحمراء الجميلة حقًا! حتى إنني تصورت- من فرط جماله- أنه في سياق المنظومة المقدسة لشجرة “ستنا مريم”، ولكنني لاحظت أنه يكاد ينتصر، بل لقد انتصر بالفعل! لأنه احتل السور المحيط بالشجرة بالكامل، بل وتمكن من التسلل إلى أوراق الجميز الطيبة والمستسلمة عن طيب خاطر.. وقد كان بأوراقه البرية وزهوره الحمراء والشديدة الإبهار والمورقة طوال العام يكاد يجعلني أنسى ثمار الجميز، وقد بدأت في النضج، ونبات الجهنمية وقد التفت أوراقه البرية الخضراء والشرسة وقد أحكمت خناقها حول ثمار الجميز دون انتباه مني على الإطلاق؛ هذا على الرغم من أنني أعشق الجميز بجنون منذ طفولتي وحتى الآن..
صراع النباتات هذا جعلني أرى الحياة من زاوية أخرى..
والموسيقى تعزف لحن الحياة، كانت الموسيقى هي كل حياتي، منذ الصباح الباكر؛ الذي يبدأ بالموسيقي العربية عبر إذاعة البرنامج الموسيقي، وحتى الساعة 2 بعد منتصف الليل، وهنا تتوقف أحلامي.. لقد استمعت إلى كل أنواع الموسيقى؛ بداية من طقاطيق عبده الحامولي، وحتى موسيقي باخ، وفي أعياد الكريسماس أعيش مع تراتيل فيروز، فتحلِّق روحي مرة أخرى مع شجرة ستنا مريم المقدسة، وصوت الموسيقي وهو يتسرب بهدوء إلى خلايا جسدي، خلية إثر خلية، دون أن أدري..
إن قوة روح الموسيقى تلك هي التي جعلتني أعيش، وحتى الآن أتذكر هذا النداء الخفي والمؤلم، والذي كان يصرخ بداخلي: لماذا تتوقف الموسيقي عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل؟! الأمر الذي كان يعكِّر مزاجي بشكل لا يُصدق، فيجعلني في حالة أرق طويلة، بل وانشطار محبط، والليل هناك خارج النافذة ينادي عليَّ بنداء مجهول لا أعرف ما هو؛ بأشجار الكافور والأكاسيا والجهنمية، بأجراس الكنائس التي تقرع في جوف الليل، وصوت صفارة بعيدة وحزينة من صفارات قطارات الليل، وهي تأتي من ذاكرة باطنية من محطة سكة حديد “عين شمس”، فتطفو عيون النساء التي أحبها في ظلام الليل، ولا أعرف كيف أهرب..
لم أكن بعد قد عرفت لذة التدخين، ولا الرسم، ولا والكتابة، وكنت أكرهُ بعنف كتب المدرسة الإعدادية، فجاءت موسيقي فريق البوني إم وأغنية راسبوتين كقارب نجاة لروحي الممزقة بعنف..
بالقرب من محطة قطار المطرية، كانت تسكن أسرة يونانية، في فيلا بالحي الإفرنجي، وهي أسرة جميلة، كان أخي أحمد صديقًا لابنهم “يورجو”، ويورجو يأتي لزيارتنا في الصباح الباكر، أو في وقت الضحى؛ إذ كان من عاداته الأوروبية أن يبدأ يومه برياضه الجري في شوارع حي المطرية القديم.. وصورة أم يورجو لا تفارقني، وأخي أحمد يمسك بيدي الصغيرة، ويقدمني إليها، وهي تقف أعلى سلم الفراندا بشعرها الأبيض الجميل، وثمة زهور فُلٍّ بيضاء على فستانها القطني الأصفر، فبدت لي مثل ملاك مرسوم في إحدى لوحات مايكل أنجلو أو روفائيل، وأشجار النخل والتوت والجميز والبرتقال من حولي، ونظرة حنان تطل من عينيها وأخي أحمد يقدمني إليها: أخويا مصطفى الصغير.. آخر العنقود. ونظرة عينيها العميقة للغاية، الممتدة في حنان أمومي أوروبي ونادر..
تذكرت هذا الوجه لأنه كان خليطًا من وجه الملكة إليزابيث الثانية؛ ملكة إنجلترا، وبين وجه بربارا؛ زوجة جورج بوش الأب.. عندما كان يورجو اليوناني يأتي لزيارتنا كان يغني لنا أغنية ديميس روسوس” بعيدًا بعيدًا يا حبيبي”.. ديميس روسس بجلبابه الأبيض الجميل، والمنقوش بزخارف موشاة بخيوط الدانتيلا، بجسده الضخم وعينيه الثاقبتين، ولحيته الكثة وصوته الحزين الدافئ، فتتطابق صورة ديميس روسوس في خيالي مع صورة وحياة راسبوتين الأسطورية، مع أصوات فريق البوني إم الأمريكي.. كل ذلك وأنا أبحث عن معني ما لحياتي؛ تلك المسيرة الممزقة والمشوشة، حتى التقيت بجماعة الجراد الأدبية.. ويا له من لقاء.. ولكن تلك حكاية أخرى.
عندما أخذتني أختي الكبرى؛ ملكة، من يدي وذهبت بي إلى الكاتب فتحي إمبابي، لم أكن أدري أن تاريخ حياتي قد تغيَّر، وإلى الأبد.. في ذاك اللقاء القصير جدًا قالت له ملكة: “هذا الإنسان يقول إنه كاتب.. يا ريت تشوف لنا ما معني ما يكتبه”.. وكانت أختي ملكة قد بذلت مجهودًا مضنيًا في لملمة أوراقي المبعثرة في كل مكان، ثم كتبتها وجمعتها في كراسة أو كشكول كبير، وكان فتحي إمبابي في الأصل صديق الأسرة، وبصراحة كان دمث الأخلاق إلى درجة مذهلة، ومهذبًا وراقيًا في جميع تصرفاته، الشخصية والإنسانية.. ولم يكن فوضويًا مثل أغلب الفنانين والكتَّاب الذين دخلوا بيتنا.. وكنت قد قرأت روايته الشهيرة “العرس”، وإن لم أحفظها عن ظهر قلب، وشعرت بالتقاء روحاني في شخصيته المنضبطة مع تمكنه من فن السرد والكتابة..
لا أزال، حتى الآن، أتذكر الطريق إلى بيته في منطقة الألف مسكن، القريب من حي المطرية، وكان ثمة ترزي على ناصية الشارع الذي يسكن فيه؛ اسمه “ترزي شيك”، وكانت واجهة المحل جميلة، وصفراء، وعلامة المقص تعلو واجهة المحل، فأعطت انطباعًا طيبًا ومحببًا في ذاتي المرتبكة والمشوشة.. وكانت الأشجار المورقة تحوط الشارع والحي طوال العام، فكنت أشعر أنني أقابل شخصية أنطون تشيخوف من جديد.. وعلى الرغم أن فتحي إمبابي كان مهندسًا فإن روحه الانسيابية وطبعه النفسي الراقي ورومانسيته أعطوني ثقة كبيرة في التعامل معه بطمأنينة وحب.. كانت جدران بيته كلها بيضاء، ذات شبابيك واسعة.. والهواء الدافئ يتدفق في حجراته الواسعة، واللوحات معلقة على الجدران؛ فشعرت أن هناك أخوة إنسانية بينه وبيني.. ولقد صدمت صدمة فظيعة عندما قال لي في لقائنا الثاني “مزِّق هذه القصص..”، الأمر الذي جعلني في حالة انهيار نفسي تام.. ولكني لم أكن أدري أن هذا الفعل كان أهم خطوة في حياتي الأدبية والثقافية، إن لم يكن في حياتي العملية ككل….وهذه حكاية أخرى!