وفي الليل، أفتح نافذة حجرتي على شجرة ستنا مريم، والهواء البارد يلسع مشاعري بعنف، لتندفع شذرات ذكرياتي مثل شهب أو نيازك تأتي من كوكب مجهول، واعذروني أيها الأصدقاء لأنني لا أزال متمسكًا بالثقافة الورقية، لأنني في الأساس الابن الشرعي للثقافة الورقية؛ نعم، فلا أزال أشتري صحيفة الأهرام الورقية، وأتلمس أوراقها، وأشم عن حب عبق الحروف برحيقها الأقرب لحمض الكبريتيك وهو يتسلل إلى خياشيم أنفي، وأنا غير مصدق أن الزمن قد تغيَّر بهذا الشكل، فأنا الآن أدفع فاتورة الكهرباء إلكترونيًّا، وكذلك المياه والغاز، وكذلك أقبض مرتبي، حتى المقال الذي أكتبه أسبوعيًّا لموقع مدينة..
لقد أصبحت أشعر أنني إنسان إلكتروني بشكل كامل، والشيء الذي لا أزال أحافظ عليه هو كتابة مشاعري، التي كانت على الدوام هي البوصلة التي أعرف من خلالها من أنا. فقد كانت صحيفة الأهرام هي صديقي الحبيب إلى نفسي أينما كنت، حتى وأنا في السكة الحديد كنت مواظبًا عليها مواظبة التنفس. ربما كانت الأهرام خط دفاع نفسي تجاه عالم السكة الحديد الموحش في فقرة الثقافي؛ لقد كنت أشعر وأنا موظف سكة حديد أن القراءة فعل محرم على المصريين، ويا لها من مصيبة لو وجدوا معي رواية أو كتابًا في علم النفس أو الفلسفة. وكأن المصريين يطبقون مقولة جوبلز المأثورة “عندما أسمع كلمة الثقافة أتحسس زناد مسدسي”. وعمليًّا يا سادة ما كان من أحد من عمال السكة الحديد عندما يكتشف معي صحيفة الأهرام، إلا ويمسح بكرامتي البلاط، فما بالك لو أمسكوا معي مسرحية لشكسبير مثلاً! حتى إنني من باب الاحتياط كنت أضع الكتب في تجويف عمودي الفقري، وعادة كان حزام البنطلون الجينز يمنع أي إحساس بأن هناك كتلة ورقية ما موجودة في ظهري، الأمر الذي كان يسبب لي ألمًا نفسيًّا هائلاً، بل ويجعلني في حالة إحباط شعوري أقرب الى الانتحار! حتى إنني بتُّ أتقبَّل السخرية من شخصيتي المُحبة للقراءة. ومع مرور الزمن، أصبحت أحسُّ بشعور دوني، أصبحت شخصية مريضة؛ تعشق الاحتقار، وتتقبل المازوخية عن طيب خاطر، لكثرة ما سمعته من توبيخ وتسفيه لمجرد أنني مواظب على قراءة الصحيفة بشكل يومي. ولا تزال إحدى هذه الجمل ترن في أذني، على الرغم من مرور عشرات الأعوام “يا أخي بدل ما تشتري الجورنال، اشتري ساندوتش فول”.
ولأنني كنت أصغر فرد في الأسرة، كان واجبًا عليَّ أن أشتري الإفطار والعيش، وكذلك إخراج سلة القمامة، ولكن الفرحة الحقيقية عندي كانت شراء صحيفة الأهرام ومعها صحيفة الأهالي يوم الأربعاء. الأمر الذي شكَّل ليس فقط سلوكي، بل شكَّل أيضًا فكرة الذوق الثقافي. ولا تزال ذاكرتي تحتفظ بصورة الدكتور طه حسين ومقالته “حديث الأربعاء” في الأهرام. وبصراحة لم يتمكن عقلي الطفولي على الإطلاق أن يقرأ ولو سطر واحد ممن كان يكتبه طه حسين، لكنني كنت أدرك، أو أحاول أن أفهم ماذا كتب طه حسين، من خلال مناقشة أخي أحمد مع أخي مطراوي بشأن المقال الأسبوعي. ولكن التجربة الأكثر قوة لم تكن مع طه حسين، بل حدثت مع محمد حسنين هيكل، ربما لسيطرة الأفكار السياسية على كتب هيكل، وكانت هي المناقشة الحبيبة إلى نفسي وروحي؛ إذ كان الجدال يدور عادة بين أخي الأكبر محمد وبين أخي مطراوي، وكان عادة حول الصراع الأمريكي الروسي، ومن ثَم حول الصراع الحضاري بين الشرق والغرب، أو حتى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، نهاية بقصص يوسف إدريس، وروايات نجيب محفوظ، وطبعًا السينما والمسرح كان لهما نصيب الأسد، وحتى الفن التشكيلي كان يأخذ حقه؛ إذ كانت لوحات محمود سعيد معلقة على جدران وأبواب الحجرات، ومعها لوحات السجيني وليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو، ويتوسط كل هؤلاء تمثال من المرمر الأبيض لفينوس؛ كان قد أحضره يورجو اليوناني من أثينا يومًا ما هدية في أحد أعياد الكريسماس.
كان للدوريات الثقافية دور فعَّال، مثل مجلة الدوحة، والأهرام الاقتصادي، والأهرام الاستراتيجي عندما كان بطرس غالي مدير التحرير، وبالطبع مجلة صباح الخير وروز اليوسف والهلال والمصور وآخر ساعة، هذا غير الكتاب الذهبي، وروايات الهلال، وترجمات الألف كتاب، وكتب دار التقدم، مرورًا بسلسة مركز الدراسات الفلسطينية “فتح”. كما كان هناك اهتمام مطلق بنشرة أخبار إذاعة مونت كارلو، وصوت سلمى الشماع الجميل يرن في الحجرات، أو في صالة المنزل. كل ذلك وأصوات فيروز والشيخ إمام أو ماجدة الرومي تملأ حياتي بالبهجة. لكن بيتهوفن وشوبرت وموزار وشوبان وباخ وهاندل وكورساكوف وليست وسيد درويش يملكون كل جوارحي ليل نهار، وصولاً إلى مظفر النواب وأمل دنقل ودرويش وعبد الرحمن الأبنودي وبول إيلوار وبابلو نيرودا، نهاية بشكسبير وموليير ورامبو وفكتور هوجو وأندريه جيد وتولستوي ومكسيم جوركي وبوشكين ومايكوفسكي وتورجنيف وكورلنكو وديستويفسكي وبلزاك وتوماس كاريل وجان جاك روسو وآدم سميث وماركس وإنجلز وفولتير، هذا غير سليم حسن وموسوعة وصف مصر، والمُعلقات، وألف ليلة وليلة، وكتاب جغرافية الجوع، وفؤاد زكريا، وعبد الرحمن بدوي، وهيجل ويحي حقي. وبالطبع فوق كل هؤلاء نوال السعداوي ويوسف شاهين وعدلي فخري وإيليا كازان وبريخت. وكان هناك ديكارت وسبينوزا وإبراهيم فتحي وفتحي غانم ومجيد طوبيا وغاندي وأرسطو ويوربيدس وسوفوكليس وسافو والإسكندر الأكبر وسقراط وجون لينون ومانسون وجوجان وفان جوخ. فتخيلوا معي أيها الأصدقاء أن كل حياتي كانت وسط هذه الكوكبة. ومع ذلك كنت أنام على صوت ماكينة التريكو التي كانت أختي الكبرى مُنى تصنع عليها البلوفرات الصوف،!
وفي الليل تأتي الموسيقى مثل حلم، كنت أحلم بالموسيقى وهي تتدفق في خلايا جسدي. وفي جبال البحر الأحمر القاسية كنت أكاد أجن وأنا بلا موسيقى، حتى أتى مجموعة من الجنود القاهرين، تحديدًا من حي شبرا، ومعهم كاسيت، في هذه اللحظة كنت نائمًا في قفص القرود، نائمًا من قهر الصحراء المؤلم، والقمر هناك مثل امرأة تنادي عليَّ، وفجاءة انهمرت الموسيقى مثل شلال، مثل أمل، مثل وجه امرأة يتكلم معي، مثل همسة، مثل نظرة عيني امرأة تلبس الملس وهي تمد أصابع يديها وتمسك بكتفي تنادي على شعور مات منذ زمن بعيد، وكانت روح الموسيقى تناديني وسط الصخور، وسط فوهة بركان خامد، وأنا وحيد للغاية، وبلا أمل من الحياة.. بلا أمل وبلا معنى، فكل حياتي أصبحت سرابًا، مثل بخار ماء يتصاعد؛ مجرد فقاقيع وقد بددتها ريح الصحراء، حتى جاءت موسيقى مونامور؛ والقمر ينادي على جسدي بقوة غريزة الحياة..
لم أكن أدري أن للحياة هذه القوة الجبارة حتى ذاك اليوم، أو تلك الساعة المؤلمة؛ حين كنت نائمًا في قفص القرود أقرأ “رامة والتنين”، والساعة نحو الثانية بعد الظهر، وقلبي يكاد يتوقف من ثقل الحرارة اللإنسانية، وجسدي يتصبب عرقًا، أرتدي فانلة داخلية، وأتنفس بصعوبة؛ إذ كنا في يونيو والشمس مثل لهيب شعلة من نار، والماء في مكعب الماء يغلي من حرارة الطقس التي تبلغ درجة الحرارة فيه 50°، وفجأة سمعت صوت صوصوة، فقلت ربما هو فأر شارد يبحث عن كسرة خبز، ولكن عندما ألقيتُ بعينيَّ على أرضية قفص القرود الإسمنتية وجدت شيئًا رهيبًا، وجدت عصفورًا شاردًا يمشي ببطء شديد، فاتحًا منقاره الصغير، الأبيض من شدة العطش، ولسانه الأبيض كذلك، وكانت الصدمة الكبري أن وجدت فأرًا من فئران الصحراء الكبيرة، التي تبحث عنها الصقور بلهفة وحب كي تأكلها. واستبدت بي حالة من الحزن المؤلم وأنا أرى العصفور والفأر يمشيان إلى حافة السرير، وكل منهما فاتح فمه، وكل منهما لسانه أبيض من العطش وشدة الحرارة، وبسرعة ذهبت إلى جركن الماء وصببتُ الماء على أرضية قفص القرود الإسمنتية، وبدأ العصفور يلعق الماء بلسانه ومنقاره، وكذلك الفأر، وأنا غير مصدق أن غريزة الحياة قوية بهذا الشكل العجيب. ومع ذلك كنت أريد أن أنتحر.. لماذا كانت رغبة الانتحار مسيطرة على ذاتي بهذا الشكل العدم.. ولكن هذه حكاية أخرى.