يبقي السؤال الأكثر أهمية في حياتي كلها يا أصدقاء وهو: كيف نشأت المكتبة في منزلنا الصغير ذاك؟ وهو السؤال الصعب الذي حاولت على الدوام أن أجيب عليه؛ نحن الآن في قاهرة نهاية الستينيات من القرن الماضي، والمكتبة الوحيدة المتاحة للأسرة كي تطلع على الكتب كانت المكتبة العمومية التي تتبع الحكومة المصرية. كانت المكتبة جميلة للغاية، في فيلا قديمة بحي الزيتون، بجانب محطة القطار، ولها حديقة واسعة ومن دور واحد. ولا أعرف حقيقة، وحتى الآن من هو صاحب الفيلا الأصلي، التي كانت كل حجراتها ذات أقواس، وجدرانها مطلية باللون الأصفر، والمناضد والكراسي كلها خشب بلون القهوة، وذات نجف مُعلَّق في السقف، ناصع البياض ونظيف. لم تكن هناك مراوح سقف ولكن تيارات الهواء المحمل بالأكسجين النقي والمعطر بنسيم زهور الفل والياسمين كان يملأ أروقة الحجرات. والهدوء والصمت يعمان الحجرات. والموظفون يتعاملون في أدب جم وتهذيب بالغ في تعاملهم مع الأطفال الذين في مثل عمري.. أتذكر أنني كنت في نحو الخامسة، وأخي أحمد، أو أختي ملكة تمسك يدي، وأنا أتطلع بحب لكل هذه المراجع والكتب ذات الكعوب البيضاء، المرقمة بشفرة الببليوجرافيا، وطبعًا أثار هذا الترقيم عقلي الفطري الطفولي. ولكن عبق الكتب هو الذي لفت حواسي؛ خصوصًا حاسة الشم، وما زلت أتتبع هذا العبق النفسي في الكتب؛ ألم أقل لكم من قبل إنني من عصر الثقافة الورقية.. ويجب أن ننوِّه إلى أن الذي اكتشف هذا الكنز الثقافي هو أخي الأكبر؛ المهندس محمد، إذ أنه من العصر الملكي، وتخرج من كلية هندسة عين شمس، ومن ثَم كان يؤمها بحثًا عن المراجع وخلافه!
كانت مكتبة الزيتون العامة إذن هي الشرارة الأولى لتلك الثورة الثقافية التي كنت وما زلت أعيش في رحابها.. وفي اليوم الذي جاء فيه النجار كي يصنع المكتبة في الحجرة البحرية، أو “حجرة الرجال”، كان الوقت بعد العصر، وكنا في فصل الصيف، والهواء الطري المحبب للنفس يعم الحجرة.. وكان أخي مطراوي هو الذي أنشأ هذه المكتبة العظيمة.. وإن لم يكن هو الذي أعطى النجار أجرته.. وكانت النكات والضحكات تعم الحجرة؛ من النجار، أو من أخي مطراوي، أو من أخواتي البنات؛ إذ كان النجار زميلاً لهن في مصنع أدوات تجميل يقع بالقرب من ميدان النعام.. وكان مصنعًا مهمًا في حياتنا جميعًا، حيث كان صاحبه يملك توكيلاً تجاريًّا من شركة فرنسية تنتج كل ما يخص أدوات التجميل “مثل كريم نيفيا وخلافه”.. ولا أزال أذكر اسم النجار، عم فاروق.. أتذكره لأنه كان يومًا لطيفًا للغاية.. ربما كان هذا اليوم قبل وفاة جمال عبد الناصر بثلاث سنوات.. وكانت المكتبة بحجم قطعة الأثاث الشهيرة بالنيش في عصرنا الحالي.. وطبعًا كانت المكتبة حدثًا جللاً لأن الجيران جاءوا جميعًا كي يتفرجوا على هذا الكيان الجديد الذي اسمه “مكتبة الكتب فقط”.. حتى أم آمال؛ جارتنا التي تسكن فوقنا جاءت وزوجها عم سيد، وأعتقد أن أم آمال أطلقت زغرودة من القلب، لأنها من بولاق أبو العلا وذات حس شعبي جميل.. وطبعًا كان الحي كله يشير إلى منزلنا، أو إلى شقتنا: البيت اللي فيه مكتبة! حتى إن أصدقاء جيراننا كانوا يأتون أحيانًا كي يتفرجوا على مكتبة بيتنا.. وكان المنزل الذي نعيش فيه، أو شقتنا، بسيطًا جدًّا، مكونًا من حجرتين وصالة وحمام كبير، ومطبخ كبير أيضًا وبلكونة.. ويقع في الدور الأول من المساكن الشعبية..
ما لفت نظري وأنا صغير كان حالة الفقر المادي الذي نعيش؛ فيه على الرغم من أننا جميعًا نعمل “ما عدا أمي”، كلنا نعمل، بناتًا وصبيان، وحتى أبي.. والأكثر غرابة أنه لم يكن في بيتنا ثلاجة، أو تليفزيون، أو خلاط كهربائي، أو حتى مكواة كهربائية، أو غسالة كهربائية، وللغسالة الكهربائية حكاية لها العجب!
وأتذكر الحوالة البريدية التي كان يبعث بها أخي الأكبر؛ المهندس من مصنع كيما في أسوان، وهي الحوالة التي حافظ على إرسالها حتى وفاته.. حالة الوفاء تلك كانت تهزني بعنف، وما زلت أتذكر المبلغ النقدي الذي كان 20 جنيهًا.. كان ذلك طبعًا مبلغًا جبارًا في ذلك الوقت من عصر جمال عبد الناصر.. وبمجرد أن يأتي البوسطجي بكعب الحوالة كنت أشعر بانفراجة ما في حياتنا اليومية.. ذاك الأمل الذي كنت أراه على وجه أمي.. ولذا اخترع أخي أحمد كراسة صغيرة، ورسم جدولاً لمصاريف البيت، وكانت هذه الكراسة مع النظام الحديدي في الطعام هي الملجأ الأخير من خط الفقر المرعب.. الكراسة والاجتماع الأسبوعي لنا.. كلنا بناتًا وصبيانًا نجتمع كي ننظم أمور أعمال النظافة وشراء الخضار وترميم الجدران وإصلاح مواسير المياه والصرف وخلافه.. ومن المعارك اليومية في تلك الفترة “كيفية صناعة الفول المدمس في المنزل بعيدًا عن احتكار عم حنّا له”، الأمر الذي جعلنا نشتري دماسة كهربائية.. الفول المدمس والبليلة من المعارك الرهيبة التي كنت أنظر إليها بخوف.. ومع طبقات صوت السبرانو نيفين علوبة استمعت بقصيدة أمل دنقل “ضد من”، ضد من، تلك الكلمة التي كنت أخاف منها طول حياتي!
في إحدى الأمسيات الشتوية كنت أستمع إلى صديق الأسرة كريم، وهو يتكلم عن مكسيم جوركي، وللمرة الأولى أسمع هذه الحكمة: لقد أتيت للعالم كي أقول لا.. هل كانت هذه الحكمة ملخصًا لما كانت عليه حياتي؟ فمن جملة “ضد من” إلى جملة “كي أقول لا” تدحرجت سنوات حياتي بين الحب والكراهية، بين الخضوع وبين الاستسلام.. أنا الآن أقترب من 60 عامًا؛ وحقيقة أنا لا شيء على الإطلاق.. مجرد فقاعة هواء تمشي على الأرض.. لا أسرة.. لا أصدقاء.. لا حلم.. ولا يوجد أصلاً أي أحلام.. جسد يمشي ويأكل.. حتى الكلام أصبحت ممنوعًا منه، لأنه ببساطة لا يوجد غير الجدران الصامتة! وبدأت شبكات العنكبوت تنمو ببطء.. تنمو وتتكاثر في زوايا جدران الحمام، والمطبخ، والحجرات، والصالة.. وأنا مندهش ومستسلم حتى للفئران.. ذات يوم استيقظت على صوت صوصوة تحت كنبة الصالة، فذهبت إلى سوق سميكة، واشتريت مصيدة فئران.. هل تصدقون يا أصدقاء لو قلت لكم أن المصيدة اصطادت نحو 20 فأرًا!
في صحراء القوات المسلحة كانت الفئران جزءًا من حياتي؛ كانت تأكل معنا في أطباق الطعام، حتى عندما أنام كنت أجدها تمشي فوق جسدي وأنا نائم تحت البطانية.. وطبعًا كانت أرحم من العقارب والثعابين..
من أجمل المعارك التي كنت أستمتع بها في طفولتي مشاهد اصطياد الفئران، إذ كنا نجدها في كراكيب البلكونة، وكان أخي أحمد يتولى تقسيم أرض المعركة، وبمجرد أن نرى فأرًا يجري هنا أو هناك إلا ويتم توزيعنا، بحيث نجبره على الاستسلام أو الهروب عبر سور البلكونة.. لكن عادةً كنا نصطاده بالمصيدة.. وكنت أتولى عملية قتل الفأر/ ولا أعرف ما الرحمة التي كنت أتخيلها وأنا أُحضر دلوًا كبيرًا مملوءًا بالماء، وأبدأ في إغراق المصيدة في ماء الجردل، وكنت أنظر وأشاهد الفأر المحبوس داخل المصيدة وهو يجري يمينًا أو يسارًا.. والمصيدة تغرق ببطء.. والفأر يجري ويتشقلب محاولاً الإفلات بكل الطرق الممكنة.. لكنني كنت سعيدًا بحالة الموت هذه؛ متصورًا في عقلي الطفولي أن هذه الميتة أرحم من ضربه بالعصا والدم ينزف من فمه..
الفئران كانت أرحم من الثعابين والعقارب طبعًا، لأنه حدث يومًا ونحن على بوابة الكتيبة في صحراء القوات المسلحة، وعند استلام الخدمة وفجأة ظهر لنا ثعبان من بين الصخور والرمال، وكان معي الجندي شوقي.. وكان من الممكن أن يتركه شوقي يمشي بسلام، ولكنه ضربه بدبشك البندقية، وطبعًا أفلتَ الثعبان من هذه الضربة، لأن شوقي لم يكن متمكنًا من قبضة يده على الدبشك، وكنت أنا واقفًا على بُعد أمتار قليلة، وأريد أن أقول له “اتركه يمشي في سلام”! لكن لم تسعفني الكلمات لأن شوقي خاف من الثعبان، وتصوَّر أنه سيهجم عليه أولاً..
ولأن شوقي نجار مسلح في الحياة المدنية، وهذه مهنة عنيفة جدًّا، فقد تعامل مع الثعبان بعنف شديد.. الأمر الذي جعل الثعبان يقوم بمناورة حادة؛ من أسفل دبشك البندقية ويفلت في النهاية، لكنه لم يفلت والسلام، فقد نفث السم على وجه شوقي، إذ كان الثعبان من فصيلة الكوبرا ذات الأجراس، التي تبخ السم في حالة الدفاع عن النفس.. ولم يصدق شوقي عندما ذهب في غيبوبة إثر بخَّة سم الكوبرا، وظللت لأسبوع كامل أضع عليه قطع القماش المبلل بالماء كي تهبط درجة حرارته، وعندما أفاق من غيبوبة الموت وفتح عينيه وجدته يقول لي “أنت الذي أنقذت حياتي!”.. وظل يبكي وأنا مذهول من كلماته، وظللت أقول له – وعن حب- أنت صديقي.. أنت صاحبي.. وقد كان شوقي فعلاً من أعز أصحابي من الجنود بعد هلال العربجي.. كان شوقي من حي السيدة زينب، أسمر اللون، طويل، وذو جسد قوي مفتول العضلات، وكف بأصابع عملاقة، وكانت كف يده ميتة الجلد لأنه حكى عن الحديد المسلح في فصل الصيف، والحديد نار من قوة ضوء الشمس.. وعلى الرغم من أنه جندي فإنه كان متزوجًا.. وما أدهشني أن شوقي كان دمث الأخلاق بشكل لا يُصدق.. دمثًا وخجولاً ومتواضعًا.. وعندما يتكلم تشعر أنه خريج مدرسة الليسيه الفرنسية.. ولأنه اشتغل منذ طفولته نجار مسلح حدث انحناء بسيط في عموده الفقري، وكنت ألاحظ هذا الانحناء عندما يمشي في طرق الصحراء الخشنة الوعرة.. وطبعًا كانت صداقة هلال مع شوقي أقوى من صداقة هلال معي أنا شخصيًّا.. وكان هذا يؤلمني جدًا في أعماق ذاتي؛ إذ شعرت مع مرور الزمن أن الثقافة جدار نفسي بيني وبين أبناء الشعب البسطاء.. ولم يكن لي أي حيلة في ذلك..
أتذكر أنني عندما كنت أقرأ رواية “أولاد حارتنا” في الكتيبة تركني أصحابي الجنود أقرأ، ولم يلتفت أي واحد منهم ماذا أقرأ، حتى عندما قلت لهم إنها رواية نجيب محفوظ.. وأكملت الرواية، وكنت سعيدًا للغاية لأنني عندما نزلت إجازة الى بيتنا يومًا ما ووجدت الرواية على المكتب لم أصدق نفسي، أنا عائد إلى الجيش وقد حصلت على هذا الكنز.. وأي كنز! وكأنني كنت على موعد مع القدر، لكنني يجب أنتهي من الرواية وأنا في الصحراء، فلو لم أنتهِ منها وأنا في الكتيبة وذهبت بها إلى البيت مرة ثانية ستأخذها مني أختي أو أخي؛ فكل الأسرة وببساطة تحب القراءة حبًّا جمًّا؛ كنا جميعًا دود قراءة كما يقولون في المناطق الشعبية.. وقد أحببت شوقي وهلال جدًا على الرغم من الفوارق الثقافية، ولم أدرك سر بكاء شوقي بعدما أفاق من غيبوبة سم الكوبرا إلا عندما حكى لي سر بكائه، وذلك لأن الصول سمير كان يبث ضدي دعاية بين الجنود.. أما لماذا كان الصول سمير يبث دعاية سوداء ضدي؟ فهذه حكاية أخرى!