اليوم 10 فبراير 2021.. استيقظت نحو الساعة العاشرة، وغسلت أسناني، وغسلت وجهي بصابون ماركة نابلسي شاهين، وبدأت في ارتداء ملابسي كي أذهب إلى السوبر ماركت الذي أعمل فيه من الساعة الواحدة ظهرًا وحتى العاشرة ليلاً.. وبدأت أجهِّز المخلة القماش كي أضع فيها احتياجاتي الشخصية؛ مثل الخبز وحبات من الطماطم وزجاجة المياه والبلوفر الشتوي، إذ تكون درجة الحرارة منخفضة جدًا عندما أخرج من العمل.. وعندما مشيت ملتفًا حول سور شجرة ستنا مريم انحرفت يسارًا كي أتجه إلى شارع البلسان، ومن ثم إلى محطة مترو أنفاق المطرية.. وبالمصادفة نظرت إلى جهة اليمين، فشاهدت عربة كارو يجرها حصان وفوقها تل من نبات الخس البلدي ذي الورق الأخضر الكبير العريض.. الذي أحبه بشدة ووجدت المعلم الذي يبيع الخس يشبه عاشور الناجي في رواية الحرافيش؛ بشاربه الكث والطاقية الشبيكة واللاسة البيضاء النظيفة وجلبابه البلدي الأبيض الناصع، وهو ينادي بصوت أجش خشن ومنغم “يا ورور يا خس”..
أعرف هذا المعلم منذ زمن بعيد.. ربما منذ 10 سنوات.. يقف بالحصان والخس هذه العربة الكارو في هذا المكان بالضبط.. أي في سوق سميكة.. وأحب شخصيًّا أن أتامل ملامحه الجميلة بنظرات عينيه السوداء البراقتين، وابتسامته المهذبة وكلماته القليلة وهو يقدم لي الخس في أدب واحترام.. وقد كان لنبات الخس منزلة خاصة في حياتي؛ إذ كانت الأسرة كلها تعتمد على النباتات الورقية الطازجة في حياتها اليومية.. طبعًا كان الجرجير والبقدونس والشبت والكرفس والكزبرة التي يطلقون عليها هنا، في الأحياء الشعبية “خضرة المحشي”.. الأمر الذي كان يجعلنا جميعًا؛ أنا وأخوتي، في حالة من الشبع الوهمي.. ومع أن الجرجير له مكانة خاصة وللبصل الاخضر أيضًا.. ومعه السريس؛ وهو نبات ورقي أيضًا ذو أوراق عريضة نسبيًّا.. هذا غير الفجل والكراث.. لكن الخس كان له مكانة متميزة، لطعمه المتميز؛ خصوصًا قلب الخسة، لما فيه من مرارة محببة.. وربما لأنه يستلزم اهتمامًا قويًّا واعتناءً بنظافته.. لأنني لاحظت ومع مرور الزمن وجود دودة تعيش باستمرار وسط أوراقه الخضراء العريضة.. وهو ما جعلني أركز بصري وأنسى أي شيء آخر، وأنا واقف إلى حوض المطبخ.. كانت رؤيتي لهذا الدود تفزعني في مرحلة طفولتي المبكرة جدًا.. ولذلك كنت في أحيان كثيرة أشعر بالمسؤولية الأخلاقية تجاه وجود الدود من عدمه في ثنايا أوراق الخس العريضة الخضراء.. بالإضافة إلى أنني كنت أحب وبشكل شخصي مشوار الذهاب مع أختي الكبرى “فاتن” إلى مزرعة السجن بالقرب من مسلة المطرية الفرعونية الشهيرة في نهاية شارع المطرواي ولكن من ناحية محطة قطار عين شمس.. وهناك كنت عادة أشاهد السجناء وهم يرتدون البدل الزرقاء. ولم أدرِ سبب هذا المشوار الصباحي المشمس إلا بعد زمن طويل.. حين عرفت أن إصرار أختي فاتن على هذا الخس بالذات أنه كان أرخص ثمنًا مقارنة بأسعار سوق سميكة..
وطبعًا في ذاك الوقت المبكر من حياتي لم أكن قد عرفت كتاب “الربيع الصامت” لراشيل كاريسون الأمريكية، التي لاحظتْ أن أرض مزرعة السجن سوداء، بل شديدة السواد.. ولم تكن المبيدات الحشرية تستخدم مثلما تستخدم الآن في العصر الحديث.. كان للخضرة الطازجة إذن مكانها الاستراتيجي في مطبخ الأسرة.. تعويضًا عن قلة البروتين الحيواني.. ومن ثَم كان البصل هو الملك المتوج بلا منازع.. ومعه الجرجير الذي كان الغذاء اليومي في كل ساعات النهار أو الليل.. وعلى سيرة الأكل لا يمكن أن ننسى جواهر الغذاء؛ وأعني بذلك التوابل.. من الكمون والفلفل الأسود والينسون والحلبة الحصى والقرفة والزنجبيل.. وعندما جاء الشيخ إمام إلى بيتنا احتفالاً بزواج أخي الأكبر عبد العزيز.. طلب قبل أن يغني في صالة المنزل كوبًا من الزنجبيل، كي يشد أحباله الصوتية قبل البدء.. ولدهشة الضيوف وجدوا الزنجبيل محفوظًا بعناية في برطمان، وموضوعًا في مكانه في المطبخ.
ما يجعلني اشعر بالفخر أننا، في بيتنا، ملكنا فلسفة قوية بشأن أهمية وجود ثقافة التوابل، وذلك على الرغم من الفقر المادي الذي كانت تعاني منه الأسرة، في مقابل الوفرة المادية التي كان يتمتع بها الجيران.. وحين يدق أحد الجيران باب شقتنا كي يستلف مثلاً: ملعقة ملح، أو ينسون، أو كراوية.. كنت أشاهد- بعين الطفل- أننا وعلى الرغم من الفقر المادي نمتلك شيئًا أهم من النقود؛ ألا وهو الخزين الاستراتيجي من التوابل والبقول..
وللبقول قصة عظيمة في حياتي؛ إذ كنت أرى على الدوام برطمانات الفول المدمس والفاصوليا الجافة وكذلك العدس الأصفر أو الأسمر أبو جبة، أو اللوبيا المجففة، أو الفول المدشوش، أو البسلة المجففة، أو حتى الملوخية المجففة، أو القمح “قمح البليلة”، أو الفانيليا، أو البيكنج بودر، أو النشا؛ كل هذه الأنواع تقع تحت بند الخزين الاستراتيجي.. كما كان الأرز والمكرونة ولسان العصفور والشعرية وزجاجات الزيت مع السمن الصناعي “الهولندي” مع الخزين الاستراتيجي من السكر والشاي من الأشياء المقدسة في مطبقية المطبخ.. حتى وصل الأمر إلى مشابك الغسيل، وصابون الوجه “ماركة الشمس”، وعلب السافو.. كل ذلك من أجل مواجهة شبح مخيف هو عدم وجود سيولة نقدية.. وكان لوجود أخي الكبير المهندس محمد ميزة غربية، ألا وهي أنه عندما كان يأتي في إجازة من مصنع “كيما” أسوان – حتى بعد أن تزوج- ومعه أجولة كبيرة من الكركديه والتمر الهندي والعرقسوس نظرًا إلى رخص أثمانها من بلد المنشأ في أسوان.. فكانت أكواب الكركديه المثلج أو الساخن أو التمر هندي من المشروبات المحببة صيفًا وشتاء.. بل والمتوفرة بكثافة طوال العام!
وقد صنعت تلك المنظومة المتكاملة من التوابل والبقوليات والمشروبات جدارًا حديديًّا ضد أي هجوم متوقع، أو غير متوقع من الفيروسات أو بكتريا المناطق الحارة.. على سبيل المثال ولكي نقاوم فيروس الإنفلونزا في الشتاء، كنا نقاوم هذا الفيروس اللعين بشيء بسيط وبديهي؛ وذلك بأن يشتري أخي أحمد أو عبد العزيز من ميزانية المنزل قفصًا من البرتقال أو اليوسفي في بداية فصل الشتاء.. تطبيقًا للقاعدة الطبية الشهيرة ” الوقاية خير من العلاج”.. وكل ذلك من خلال دراسات ومناقشات اقتصادية عنيفة.. أو باللغة الدارجة: وفق ما تسمح ميزانية المنزل الاقتصادية..
ولربما جاء اختراع أخي أحمد لكراسة مصروفات المنزل بمحض المصادفة، وذلك من خلال صداقته العميقة للأسرة اليونانية؛ أسرة أم يورجو اليوناني.. لما هو معروف عن الأوربيين من دقة في إدارة الخطط الاقتصادية.. خصوصًا بعد المأساة التي عاشتها القارة الأوروبية من حروب طاحنة، كالحربين العالميتين؛ الأولى والثانية.. وكان أخي أحمد محل ثقة هذه الأسرة اليونانية لما وجدوا في شخصيته من خصال حميدة، مثل الأمانة وعدم الكذب والصدق في القول والأدب الجم في الحديث، حتى إن أم يورجو تطوعت في يوم ما وشاركت أخي أحمد في تجارة البيض الطازج دون هامش ربح يعود على أم يورجو اليونانية.. ولكن هذه حكاية أخرى.