دخلت المنزل نحو الساعة الحادية عشرة ليلاً، وأنا في غاية الإرهاق، وذلك بعد أن أنهيت عملي في السوبر ماركت.. أعمل في هذا السوبر ماركت منذ ثلاث سنوات، وذلك بعدما ذهبت إلى الطبيب وشكوت له من هذا الوهن الذي دمر كل أعضاء جسدي، إلى درجة إنني كنت أمشي على عكاز.. كما لو كنت رجلاً مسنًا عمره مئة عام.. كنت غير قادر على فعل أي شيء في الحياة! مجرد إنسان يمشي بصعوبة، ويتنفس أيضًا بصعوبة، وأظن ذلك بسبب أنني لا زلت أدخن السجائر الكليوباترا، وفي الصباح الباكر أذهب لأشتري صحيفة الأهرام من ميدان المطرية، ثم أسير حتى محطة مترو أنفاق الحلمية، وأظل أمشي حتى محطة المطرية كي أحصل على أكبر كمية من ضوء الشمس.. أسير في شارع “ترعة الجبل” إلى جانب سور مترو الأنفاق.. وحقيقة كنت أشعر بالسعادة وضوء الشمس يغمر كل جسدي، وثمة قطرات من العرق تنسال على سلسلة عمودي الفقري.. أشعر بها وهي تنزلق أسفل الفقرات العنقية ببطء شديد، وأنا سعيد، بل وفي قمة الفرح، حتى إنني أكاد أشم رائحة العرق المنبعثة من بين ملابسي.. كل ذلك وأنا أمسك بالعكاز..
كنت أحب هذا العكاز جدًا؛ منذ أن اشتريته من الخيامية؛ بالضبط من عند باب زويلة، ذات صباح شتوي.. وكنت قد ذهبت إلى باب زويلة كي أشم ذكريات الماضي السعيد، الذي كنت أتنفسه في جاليري ” زينب خاتون”.. المرة الأولى التي ذهبت فيها إلى زينب خاتون كانت نحو عام 1998.. في يوم من أيام الصيف الحارة جدًا كنت جالسًا على مقهى زهرة البستان في وسط البلد، مع اثنين من أصحابي؛ واحد منهم مخرج سينمائي، والثاني صحفي.. كنت جالسًا تحديدًا في ممر زهرة البستان؛ إنسان شبه ميت.. كل شيء في حياتي مدمر.. إنسان حطمته الحياة، أعيش في دوامة من الضياع الإنساني (مش عارف أنا عايز إيه بالظبط).. وقتها كنت أدخن سيجارة كليوباترا، وكوب الشاي أمامي على الترابيزة الخشبية، وقد أصبح باردًا لم تمتد يدي إليه.. لم أكن قادرًا حتى على احتساء كوب الشاي، والطقس حار جدًا، والعرق يتصبب من كل جسدي، ولم أستحم منذ نحو ثلاثة أسابيع.. كنت أعيش حالة الفنان البوهيمي، وكنت سعيدًا جدًا بهذا الإحساس الفوضوي، والبنطلون الجينز مقطوع من عند الركبة، وشعر رأسي طويل ومنعكش، وغير حليق الذقن، حتى القميص الأحمر الكاروهات أيضًا مقطوع من تحت الإبط، وبلا أزرار عن عمد.. وأعتقد أيضًا أن الحذاء كان مقطوعًا وقذرًا للغاية، وأحمل المخلة القماشية التي كنت قد اشتريتها من الخيامية..
ماذا كنت أريد من تلك الحياة العبثية التي كنت أعيشها.. حقيقة لم أكن أدري؛ فقد كنت أكره شخصيتي، وأكره ذاك الشعور المازوخي، الذي عاد ليهاجمني مرة أخرى بعد أن ظننتُ أني تركته في صحراء القوات المسلحة.. لكنه بصورة مفزعة، بل وقاسية للغاية تلك المرة، على الرغم من أنني كنت موظفًا بالسكك الحديدية.. ظللت أنظر إلى شجرة القشطة، التي كانت في ممر مقهى زهرة البستان لفترات طويلة، دون أي معنى لهذا التأمل الصوفي، أو البوذي، ظللت أحدق في أوراقها العريضة، الشديدة الاخضرار لساعات طويلة، دون أن أدري أن الزمن يمر.. وفجأةً ظهر الفنان التشكيلي “مصطفى المسلماني”.. هبط عليَّ في ممر مقهى زهرة البستان، مثل ملاك وقد هبط من السماء.. فجأة وجدت مصطفى المسلماني يقف أمامي مباشرة، ثم قال لي جملة واحدة “هل أنت فاضي الآن؟”.. ولم أشعر بنفسي إلا وأنا أسير معه مخترقين ميدان طلعت حرب، ومتجهين إلى بولاق أبو العلا.. كل ذلك وأنا شبه غائب عن الوعي.. ولكن قصتي مع الصديق العزيز مصطفي المسلماني حكاية أخرى.