اللغة السرية في حوش القباري

مذكرات عطشجي في السكة الحديد

مصطفى الناغي

الإسكندرية حبيبتي.. هناك لحظات منسية في عمق الذاكرة نحاول أن نكتشفها لكنها تراوغنا على الرغم من أننا نحاول أن نتلقفها لكنها- هذه اللحظات المنسية- تهرب منا.. وربما إلى الأبد.. اليوم أنهيت عملي في السوبر ماركت في نحو الساعة الثانية بعد منتصف الليل.. وكان الليل عميقًا بشكل أخَّاذ.. هادئًا ومتماسكًا، وبه لسعة برودة محببة للنفس.. ذهبت مباشرة إلى محل يبيع السجائر، واشتريت علبة سجاير كليوباترا.. ووقفت قليلاً كي أتامل السماء الصافية.. وثمة روح حزينة ما تلتف حول روحي.. لا أعرف ما هي.. ربما هذه الليلة سوف ينتهي هذا الفصل البديع من حياتي.. أعني فصل الشتاء.

ربما روح الصمت الذي يلف ميدان “النعام” هو السبب.. أقول: ربما.. لأنني لا زلت أتذكر هذا الشارع المدفون في ذاكرتي.. أعني شارع “علي باشا اللاله”.. وأضواء الليل الصفراء وهي تنير إحساس روحاني في القصر المسحور للبرنس يوسف كمال.. والأضواء الصفراء وهي تكشف عن غموض تلك اللحظات المنسية في عمق الذاكرة.. وثمة مزلقان قديم ورنات الأجراس الأسطورية وهي تدق علي روح طفولية بعيدة.. والجنود وهم ذاهبون إلى مدينة السويس عام 1973، وهم يلوحون لنا نحن الأطفال عبر نوافذ القطارات المتجهة إلى مدينة السويس.. وربما يكون تلويحهم لحظة الوداع في حياتهم.. كانوا يلوحون لنا نحن الأطفال.. ويقذفون لنا بالبسكويت المخلوط بعشب الكمون ذي المذاق الأمومي النادر والمملوء بعطف الحنان وأمل الحياة.. حتى الآن لا زلت أحب هذا البسكويت، بل وأتتبع مساراته في مشاعر جسدي عبر صحراء متوحشة مملؤة بالعطش، وأنا أمشي عبر دروبها الخشنة في جبال البحر الأحمر.. وأبحث عن تلك المشاعر الأمومية في ظل وهج شمس مشتعلة داخل أنين ذاتي التي تبحث عن حنان ما لم أجده حتى اللحظة.. حتى وأنا أسير في الليل السكندري ذي الهواء المشبع باليود.. وذكرى لورانس داريل وهو يبحث عن عبق وروح مليسا، أو حتى جوستين تلوح.. أو وأنا أمشي على هذه الفلنكات؛ هناك في هذا الليل الطويل من حياتي عن أي شيء كنت أبحث؟ وكوبري التاريخ هناك مثل ذكرى منسية من حياتي والماء العطن للريَّاح الإبراهيمي يشدني إلى ذكرى.. إلى لمسة.. إلى صورة حزينة في حياتي.. والليل طويل وبارد ومؤلم في قسوته.. وأنا وحيد للغاية.. وحيد وخائف.. وعواميد التلغراف هناك تطن بلحن غامض.. والريح القارسة تشد أوتار أعصابي على لحن موسيقي الجاز الحزينة.. صوت الساكسفون وهو يبكي السماء الزرقاء البعيدة.. أمشي على الفلنكات وقطرات المطر تتساقط ببطء.. وتبلل شعري.. أمشي في صمت.. أبكي في صمت.. ومنازل عمال الدريسة هناك مبلولة بالمطر والصمت والحزن والموت.. والريح تهز عشب نبات الحلفا الخشن المتوحش في صمته.. وأنا أبحث عن إنسان ما كي أتكلم معه.. وبلوك السكة الحديد هناك غارق في صمت الليل الحزين.. وأنا أبكي.. لماذا أبكي، لا أعرف.. ولكنني أبحث عن حب ما وقد ضاع مني وإلى الأبد.. وظلال القاطرات القديمة هناك على مرمى البصر.. أسير إليها في بطء حذر؛ ربما ألتمس من حديدها البارد شعورًا بالحنان أو العطف.. لكن ملمسها بارد للغاية.. وكنت عادةً أهبط حوش القباري بعد منتصف اليل بقليل، وعربات قطار البضاعة هناك غارقة في ليل طويل وبارد وملمس الفلنكات لزج، وقدماي تبحثان بصعوبة بالغة عن موضع خطوة خوفًا من الانزلاق وسط برك ماء المطر الآسن.

في حوش قطارات القباري تستهويني أعمدة الحديد الصلب للجمالون القديم.. أذهب إليه في هذا الصمت المقدس.. وأحاول أن أشم هذا الهواء القديم المحمل بعبق التاريخ.. ولون صدأ الحديد، البرونزي منه والأسود، له إحساس نادر.. له شبق نفسي بحثت عنه كثيرًا في حياتي.. والكوكب الأرضي صامت صمت القبور.. وثمة ضوء خفيف وناعم وأملس.. أتجه نحوه في بطء الباحث عن الحقيقة.. أذهب وكلي أمل في أن أستريح من عنف الحياة.. إنه نور البلوك القديم.. وملاحظ البلوك مستيقظ مثل حارس قبور يحاور أشباح الموتى.. وجسدي يهتز من فرح اللقاء الإنساني..
 ملاحظو بلوكات السكك الحديدية فلاسفة في أعماق شخصياتهم الملهمة والمتأملة عن طيب خاطر لدراما الحياة.. وكأنهم متصوفون يعيشون في الأوراق الصفراء من ملحمة ألف ليلة وليلة.. أو من كتاب قديم من كتب الطبيب ابن سينا على الدوام. أجلس بجانب النافذة ذات الزجاج الشفاف، والقطارات هناك تقف مثل حكمة أبدية تحكي عن ديمومة الخير والشر.. أشرب الشاي في صمت الليل الحزين، وقطرات المطر تنساب على الزجاج.. ونحن صامتان لا نتكلم.. والريح تصفر في الخارج.. وصفارة قطار بعيد تأتي مثل نواح ناي فلاح يناجي روح الأرض الأبية، وهو يجلس تحت شجرة كافور.. وضوء لمبة جاز ينير شمعة وحيدة في لهب أرجواني وهو يهتز.. والأرضية الخشبية تحت قدميَّ تزيق مثل صوت قطة تبحث عن رفيق لها..
الصمت في بلوكات حوش القباري له لغة سرية وغامضة.. وأنا مرهق من السفر.. وتلوح لي رغبة غالية وعصية في أن أنام على الفلنكات المفروشة بحصيرة صفراء، مرسوم عليها حصان الزيني هلال والزير سالم؛ أسطورة البطولة التي كنت أتمثلها في حياتي على الدوام.. كنت دائمًا ما أبحث عن البطولة.. حلم اليقظة المرعب الذي جعلني في النهاية أعمل عامل نظافة في سوبر ماركت.. ولكن هذه حكاية أخرى.