في الليل، وأي ليل، كنتُ أنام في استراحة ما، في مدينة ما، في محطة ما.. ومع مرور الزمن نشأت بيننا علاقة حب، أكثر قوة من علاقتي بالقاطرة؛ أعني حبي للاستراحات العديدة التي نمت فيها بحكم السفر إلى المدن، فقد كانت مثل “حبل سُرِّي” من الحنان والأمومة في علاقتي بالمدن.. في مدينة الخطاطبة [في محافظة المنوفية] على سبيل المثال دهشت من حالة الطمأنينة التي وجدتها في هذه استراحتها؛ التي كانت تتكون من ثلاث حجرات كبيرة، ذات سقوف عالٍ، والأسرَّة كلها عليها ناموسية بيضاء ذات حواف مشغولة بالدانتيلا.. وفي الصباح الباكر وجدت الفرَّاش وزوجته يوقظانني، وعندما استيقظت وجدتهما يضعان أمامي أرغفة من خبز البتاو الدافئ، مع البيض المسلوق والجبنة القريش، كل هذا مع جملة: صباح الخير يا أفندي!
أفندي! الكلمة التي كانت تجعلني أسبح في ذاكرة القرن التاسع عشر..
لكن من بين كل الاستراحات، تظل استراحة مدينة طنطا هي الأجمل بكل المقاييس.. فقد كانت على رصيف المحطة مباشرة، وطبعًا كانت ناموسية السرير البيضاء نظيفة للغاية، ووجدت الفرَّاش العجوز يضع تحت قدميَّ القبقاب الخشبي!
أما في مدينة الزقازيق، فكان الطريق إلى الاستراحة مليئًا بأشجار الكافور الباسقة العالية للغاية، وقدماي تمشيان على بذور الكافور، والهواء مملوء بالأكسجين المعطر بنسيم أوراق الكافور وشجر الليمون يبعث على الشعور بالطمأنينة.. وأنا أدخل الاستراحة في الساعات الأخيرة من الليل.. جسدي مرهق.. وعقلي في حالة عنيفة من الإجهاد، والصداع المرتبط بالتركيز في ظلام الليل بحثًا عن السيمافورات.. أدخل لأجد عادة الفرَّاش مستيقظًا ويصنع الشاي.. ثم يقدم لي الماء والصابون من إبريق من نحاس أصفر ولامع.. وعادة أجد الراديو شغال على إذاعة القرآن الكريم.. وصوت الشيخ عبد الباسط يأتي من مكان بعيد.. غامض وصوفي في وقت واحد!
لكن في استراحة مدينة ملوي كان الإيقاع النفسي أقوى كثيرًا.. يا إلهي ما هذا؟ كانت الحيطان عالية للغاية والسقف مصنوع من دعامات حديد قضبان السكك الحديدي.. والأبواب خضراء.. عالية وكبيرة.. وكذلك الشبابيك؛ كبيرة وذات سياج من الحديد المشغول على طراز الآرت نوڤو.. والزجاج أبيض (بلجيكي) لامع من النظافة.. والبطاطين بطاطين الجيش.. ذات دفء خاص.. تشع بالأمومة والحنان.. وشاهدت “طاقات” التهوية كما في كتاب حسن فتحي.. تسمح للهواء بالانسياب عبر مسارات دافئة ومحببة للنفس!
فكنت أنام من السعادة.. فتى مراهق يسافر عبر المدن الليلية.. وكلمة “يا أفندي” تلاحقني أينما ذهبت.. تمدني بالثقة في النفس..
ولكن في استراحة مدينة الإسكندرية وجدت العكس تمامًا؛ وكأنها كانت استراحة للشياطين.. فعندما طرقت باب الاستراحة ودخلت، وجدت السائقين يلعبون القمار.. ولمحت من بعيد بقايا زجاجة براندي! هذه هي التقاليد الراسخة في استراحة مدينة الإسكندرية؛ وهي مكونة من عدة حجرات.. تقع في عمق بنايات المحطة أي تحت سقيفة الجمالون.. وتطل على الرصيف مباشرة.. وهناك يطل أحد السائقين من النافذة.. وعادة يكون بالفانلة واللباس الداخلي بنصف جسده.. مخاطبًا سواق القطار القادم من مدينة القاهرة.. وهو يقلد صوت النساء: اتأخرت ليه يا خول؟
لكن مع كل ذلك تبقى استراحة بولاق الدكرور هي الأهم.. فلقد هربت في أحد الأعوام من قسوة أخوتي.. وظللت أعيش فيها لمدة ثلاثة أشهر.. كانت الاستراحة قديمة جدًا.. منذ زمن الخديو إسماعيل! وهي من طابق واحد.. وتحتوي على ثلاث حجرات كبيرة.. وملحق بالحجرات حجرتان صغيرتان؛ إحداهما للمطبخ، والأخرى لعمل الشاي.. ويوجد دورتا مياه؛ دورة مياه إفرنجية، ودورة مياه بلدي.. هذا غير الحمامات المجهزة للاستحمام فقط..
وكان للاستراحة فرَّاش عتيد كنا نطلق عليه ” الچنرال جعفر” وكان الچنرال جعفر من محافظة سوهاج، ومع ذلك يتكلم اللهجة القاهرية.. وهو طويل قليلاً ونحيف للغاية.. ويلبس بالطو السكة الحديد الصوف الثقيل جدًا صيفًا وشتاءً.. ولكنه كان أخنف مريضًا طوال العام من سوء التغذية.. هذا غير الوساوس البصرية والسمعية بسبب مشاركته في حرب الخليج الأولى.. وكان ينتظر شيكًا بمبلغ مالي كبير من بنك الرافدين، فكان يذهب في أول كل شهر إلى البنك في ميدان الدقي، لكنه في الغالب يعود خالي الوفاض.. ويظل يحكي عن هذه المعاناة المأساوية، ونحن الشباب نضحك غير مبالين بحجم المأساة التي يعيشها.. كان الچنرال جعفر أمينًا إلى درجة مذهلة.. أمينًا وودودًا إلى حد كبير.. وإن لم يكن ساذجًا.. وكان يحوِّل راتبه من السكة الحديد إلى أمه في البلد عبر حوالة بريدية؛ فلم يكن متزوجًا.. ومن قوة أمانته أنه كان يعمل في بداية حياته القاهرية فرَّاشًا في دورة مياه محطة قطار كوبري الليمون، بميدان رمسيس، وفي أحد الأيام وجد شنطة بها الآلاف من الجنيهات، كانت تخص موظفًا في أحد البنوك.. وبسبب أمانته تلك وظَّفه ناظر المحطة في السكة الحديد..
وكنا، نحن العطشجية، نحب الچنرال جعفر حبًا جمًّا.. وكثيرًا ما كنا نسرق منه الشاي والسكر.. أو نتلاعب معه وهو نائم؛ فنقلد أصوات النساء.. فيقوم من النوم مذعورًا غاضبًا فقد كان الچنرال جعفر يكره النساء..
كانت استراحة بولاق الدكرور إذن عالمًا شبه منفصلٍ تمامًا عن مدينة القاهرة.. ففي أي لحظة من ساعات الليل كنت أدفع الباب الخارجي الكبير.. وكنت أعرف أن هناك حجرًا ضخمًا يضعه الچنرال جعفر خلف الباب خوفًا من الغرباء.. والاستراحة أصلاً مخصصة لسائقي قطارات مدينة الإسكندرية.. وكذلك لسائقي مدينة المنيا.. وأيضًا لسائقي مدينة القاهرة.. ومن هنا كانت بداية الصراع بين المدن الثلاث الإسكندرية والقاهرة والمنيا!
كنا نحب سائقي مدينة الإسكندرية.. كانوا جدعان جدًا.. ومتحضرين.. وطبعًا صيَّع.. أو بمعنى آخر: ذوي خبرات إجرامية في الحياة.. وكانوا عادة يحملون الأسلحة البيضاء أو النارية؛ إذ كانوا يخترقون خطوط سكك حديدي خطرة ومهجورة وبعيدة عن العمران! أما سائقي مدينة المنيا فكنا نكرههم جدًا.. بلكنتهم الريفية المايعة.. وكنا نعتقد أنهم يحملون في قلوبهم طبع الخيانة والبخل! لذا عادة ما كنا نضربهم ضربًا مُبرحًا.. وفي الغالب ينتهي الشجار في قسم الشرطة الخاص بالسكك الحديدية (الحكمداريه)..
أما استراحة محطة ميدان رمسيس.. أو الاستراحة المركزية، فهذه لها حكاية أخرى.