في الليل، وأي ليل، كنت أنتظر قطارًا ما، في محطة ما..
وعلى محطة بولاق الدكرور اعتدتُ أن أتأمل هذا العالم.. هذا الغامض المدهش.. من حجرة الناظر القديمة.. وتكَّات التلغراف بالقطارات التي مرَّت فوق ذاكرتي.. نشوانًا بالإحساس الغامض لليل.. وهو يتسلل إلى داخل ذاتي الجريحة من الحياة.. كنتُ أجلسُ على الدوام على هذا الكرسي.. منتظرًا القطارات التي تحمل الأصدقاء وهم يسافرون بقطارات الإكسبريس متجهين الى مدينة أسوان.. والكوبري الخشب هناك.. يقسم مدينتي الحبيبة القاهرة إلى نصفين.. الجسر الخشبي الذي كنت ألتقي فيه مع الأصدقاء الشعراء.. أنتظرهم مثل أملٍ بعيد.. مثل حلم يعصف بمشاعري.. هنا على الجسر الخشبي التقيت بالشاعر رفعت سلَّام.. وروح الشاعر اليوناني ريتسوس تحلِّق من فوقنا..
وهنا أيضًا – على الكوبري الخشبي- أعطاني الشاعر حلمي سالم علبة سجائر كليوباترا؛ هدية على قصتي التي نشرتها في مجلة أدب ونقد.. وأعطاني أيضًا زجاجة بيبسي كولا.. فتذكرت صديقي الفيلسوف عم “سيد صابر”، ماسح الأحذية على الكوبري الخشب، بجلبابه القديم، وأصابع يديه الملوثة من علب الورنيش.. وأنا أتكلم معه عن فلسفة الجمال عند الشاعر الألماني شيلر..
كان عم سيد صابر ربعة القوام، أقرب إلى القِصر منه إلى الطول، بشارب كثًّ غير مشذب، وشفاه حمراء متورمة بسبب الشطة والفلفل الأحمر الحار؛ الذي كان يدمنه.. وكنت على الدوام أجلس إلى جانبه على الكوبري الخشبي؛ يتحدث معي وهو يمسح للرجال أحذيتهم، وذات يوم طلب منى كتاب “فن الإتيكيت”.. يومها دهشت للغاية، وظللت أنظر إلى عينيه الحمراوين الجاحظتين، وأفكر في طيبة قلبه، بجلبابه الواسع وهو يعلق فيه صندوقه الخشبي المملوء بعلب الورنيش؛ الأسود منها والأصفر.. أو وهو ينام في حجرة المُلاحظ في السكة الحديد.. فقد كان بجانب عمله في مسح الأحذية موظفًا بالسكة الحديد؛ يعمل فني قاطرات.. وكان عمله تحديدًا مرتبطًا بهندسة وصلاحية عجل القاطرات..
عم سيد صابر، شخصيه طيبة للغاية.. جاد في كلماته.. بل ويتكلم بالحكمة في جميع الأحاديث.. لكنه كان مدمنًا للقمار.. واعتاد أن يلعب الكوتشينة مع أفندينا في حجرة الملاحظة.. لقد كان عم سيد صابر شخصية معزولة تمامًا عن بقية الزملاء، وان لم يكن مضطهدًا بسب طبيعة مهنة مسح الأحذية.. وقد بذلتُ جهدًا خارقًا كي أجعله يتكلم عن سيرة حياته.. خصوصًا العالم الخفي، أو الفترة من حياته، عندما كان يبيع زجاجات البيبسي كولا على أسطح القطارات المتجهة من وإلى أسيوط..
كان عم سيد صابر يحب الرسم، ويلوِّن جدران الحجرات.. ويرسم الزهور الجميلة.. وكان يفعل شيئًا عجيبًا؛ كان يوقِّع لوحاته بكلمة غريبة؛ يكتب في طرفها دائمًا “سيد ابن سعدية”.. وكنت أتعجب للغاية من هذه المفارقة! وكأنه غير مؤمن بالمجتمع الأبوي الذكوري الذي نعيش فيه.. كانت أكثرية السواقين والعطشجية لا تعيره أدنى التفات بسبب جلبابه المتسخ بالورنيش.. لكنه كان كريمًا على ترابيزة القمار؛ على الأقل في السجاير الكليوباترا والسكر والشاي.. هذا غير أحاديثه المسلية الشيقة عن بداية هجرته إلى مدينة القاهرة؛ حيث بدأ حياته ببيع زجاجات البيبسي كولا على أسطح القطارات القادمة من مدينة أسيوط، أو في داخل عربات القطار.. أو وهو يحكى عن ضربات القدر؛ الموت، التي أصابت أصحابه الذين كانوا يبيعون البيبسي كولا على أسطح القطارات.. وقد كان يحكي لي فقط هذه الحكايات دون سعادة، وأيضًا دون ألم.. ربما لأنه كان مؤمنًا أنني سوف أكتبها يوما ما..
وأعتقد أنه شخصية نادرة للغاية، لكن القمار كان يبدد طاقته الإبداعية، خصوصًا في فن الرسم.. لكنني التقطتُ هذه الخاصية، أعني الرسم، وبدأت أهتم بها، وخصوصًا توقيعه باسم أمه أسفل الزهور التي كان يرسمها على كل شيء؛ الجدران، والأبواب.. ومع أنه كان يلعب القمار فلم يكن يشرب المخدرات.. لكن ابنه كان يتاجر في المخدرات! ترى هل هذا هو السبب الذي جعله يهجر أسرته، ويظل دائمًا ينام في إحدى الحجرات بجانب القاطرات والقضبان.. وكان أيضًا يطبخ في هذه الحجرة على الدوام.. يطبخ في النهار، ويلعب القمار ويرسم في الليل.. وقد صادقته عن حب..
وكان عم سيد صابر ذا ذكاء نادر في فهم البشر.. وعنده قدرة عبقرية في التكيُّف مع البشر في الحياة.. وكان أيضًا ذا منطق في الكلام والإقناع، حتى وصل إلى رتبة كبير ماسحي الأحذية على الكوبري الخشب.. يحل مشكلاتهم، وينظِّم مواعيد جلوسهم على الكوبري.. وفي أحيان كثيرة تأتي ابنته أو زوجته إلى حجرته بالملابس النظيفة أو بالطعام؛ هذا لو كان مريضًا.. وعلى الرغم من علاقتي الجيدة به، لم تواتني الشجاعة قط أن أجعله يحكي عن أزمته الحياتية مع زوجته.. فقد كان عم سيد صابر شخصية مؤدبة؛ وكان الوحيد الذي لا يشتم إطلاقًا بكلمات قبيحة.. بل كان يرسم الزهور الجميلة وهي تتفتح، مثل فان جوخ، نابضة بالحياة..
عرفت كل هذا عن عم سيد كل ذلك عبر متابعة لشخصيته استمرت على الأقل 10 سنوات.. ولا تتصور يا صديقي أن كتابة أو متابعة الشخصية تتم بين ليلة وضحاها.. فالشخصية، أي شخصية إنسانية لها تطورها الدرامي، وكل ما يمر بها من منحنيات يحدث وفقًا لنموها الدرامي.. وقد يحدث ألا تتطور شخصية، ومن ثَم تدخل في منطقة النسيان.. وهو ما يجعل العقل اللاواعي يتركها، أو ينفيها.. وهو أيضًا ما كان يجعلني بشكل ما أبحث عن شخصيه أخرى.. أكثر ثراءً، أو أكثر قدرة على النمو دراميًّا..
وقد حزنت حزنًا شديدًا عندما عرفت أن عم سيد صابر توفي.. وكنت أرفض تمامًا أن أضع قدميَّ أمام وجهه على الصندوق الخشبي، كي يمسح لي الحذاء؛ احترامًا لمشاعره ولشخصيته النادرة في حياتي..
وأنا طبعًا شاهدتُ فيلم “ماسح الأحذية” في سينما الزيتون، لكن هذه حكاية أخرى!