في الصباح، المشهد مختلف تمامًا، تظهر المدينة؛ القاهرة بكامل تفاصيلها، حركة البشر على الكوبري الخشب.. البنايات الشاهقة.. المصانع.. على سبيل المثال مشهد مصنع البيرة “ستيلا” في بين السرايات، وسحابة ما تخرج من بين جدرانه العالية.. كنت أراها وهي تتجمع وتتبلور حتى تأتي ببطء فوق حوش القطارات، والهواء مشبع بمذاق مشروب البيرة المحبب للنفس.. عندك أيضًا بنايات مصنع مقار لشركة بويك العالمية للسيارات.. قمة برج القاهرة.. فندق سميراميس.. وقطارات الإكسبريس متجهة من وإلى مدينة أسوان.. هذا غير أصوات سيارات الإسعاف والمطافئ والشرطة.. أعني أن كل تفاصيل عمق المدينة تهاجمني بقسوة.. خطوط بشرية طويلة وقلقة.. طوابير لا تنتهي من الدراجات وهي تحمل الخبز من بولاق الدكرور إلى قلب المدينة الراقي..
يعتبر حي بولاق الدكرور القلب الذي يغذي شرايين الأحياء الراقية بالخبز والنساء الذين يعملون في المنازل، والحرفيين من نجارين وسباكين وحدادين ونقاشين..
أصبح الكوبري الخشب نقطة تلاقي دون أن أدري.. حتى تجارة المخدرات تمر من وإلى الكوبري الخشب.. عادة كنت أقف مع الأصدقاء من عمال السكك الحديدية وهم يبيعون أي شيء؛ زهورًا بلاستيكية، ملابس داخلية للنساء، أحذية.. الصابون الفاخر.. حتى أشهر امرأة تبيع الصحف والمجلات على الكوبري الخشب كان ابنها يعمل معنا عطشجي سكة حديد.. من الطبيعي إذن أن أشعر بالألفة وأنا أقف على الكوبري الخشب.. ومن ضمن هؤلاء طبعًا عم مصطفى الدكروري وهو يهتف بصوته الخشن الجهوري “اوعى القطر.. اوعى القطر”؛ النداء المخيف الذي كان يزلزل أعصابي..
كان عم مصطفي الدكروري متخصصًا في بيع الأحذية، بذقنه الطويل، ووجهه الأغبر من التراب وهموم الدنيا.. كان الدكروري يشبه المصلح الاجتماعي لهذه النقطة الحساسة من مفترق طرق المدينة!
حقيقة كنت أحب هذا الرجل كثيرًا؛ لما فيه من حيوية إنسانية.. كان يتكلم ببساطة الإنسان المقهور من الحياة؛ فقد كان يعمل فني كهرباء في السكة الحديد، حتى وجدته بين ليلة وضحاها المشرف الأول على حركة مرور البشر على الكوبري الخشب.. ونظرًا إلى الحوادث الكثيرة والمميتة بسب مرور القطارات أصبح هذا النداء “اوعى القطر” من التفاصيل الشخصية لعم مصطفي الدكروري..
حتى علي أبو ستيت؛ الشاب المدهش والذي كان من أعز أصحابي وجدته يومًا ما يبيع زجاجات البرفان على الكوبري الخشب.. كان صديقي علي أبو ستيت أيضًا يعمل في السكة الحديد.. وهو شخصية مدهشة؛ ملامحه أقرب إلى الشاعر أحمد فواد نجم، لكن عم علي كان يعشق الخمر والنساء، وكان يمتلك جسدًا رياضيًّا مفتول العضلات، ذا شعر أسود طويل، ويلبس البناطيل الجينز، وطبعًا يضع كاب مميزًا جدًا على رأسه.. ومدخن شره للسجائر.. لا يشرب أي نوع من المخدرات، لكنه يعشق كل أنواع الخمور.. في كثير من الأحيان، ومن شدة حبه للخمر كان يحضر معه زجاجة براندي إلى العمل، ويجلس بجانبي في حجرة أفندينا نشرب معًا.. كان حلو الحديث، شهم السلوك، مندفع في المشاعر الإنسانية، مثل الصداقة والواجبات الاجتماعية المختلفة، وإلى جانب كل ذلك كان يعشق النساء، وتزوج كثيرًا، لكنه لم ينجب إلا ولدًا واحدًا.. ومن عمق صداقتي به كنت أذهب معه إلى بيته حيث كان يمتلك بيتًا أو منزلاً من منازل السكة الحديد منذ عصر الخديو إسماعيل.. وكنت أحب هذا المنزل كثيرًا، وإن لم أكن أعشق هذه الجدران السميكة والمبنية بالدبش و”القصر مل” وهو رماد أفران الخبز، وهذا قبل اختراع الصبة الإسمنتية.. وطبعًا كان سقف البيت مدعمًا بقضبان السكك الحديدية.. وفيه صحن عربي، وهو مكوَّن من دورين فقط، بسلم خشبي ذي درابزين تصعد به إلى الدور الثاني.. والأبواب والشبابيك كلها عريضة وطويلة.. وللبيت حديقة بها أشجار المانجو والتوت والجميز.. وكان علي أبو ستيت يحب القهوة العربية كثيرًا، لكنه لم يكن ماهرًا في صناعتها.. ومن عمق شخصيته وجدته يعرف سليمان خاطر؛ هذا الجندي بقصته الشهيرة، فقد كان يجاوره في السجن، لكنه لم يحك بقية التفاصيل، وأنا لم أضغط عليه كي يحكي نظرًا إلى حساسية القصة، ولكنني مع ذلك أحببت كمية المشاعر الإنسانية النبيلة في شخصيته؛ أقصد علي أبو ستيت.. وبدخولي إلى منزله بدأت أعرف تفاصيل حي عمال السكك الحديدية في بولاق الدكرور؛ فهو حي منغلق اجتماعيًّا، منغلق تمامًا ربما منذ 150 عامًا. الحي مبني في صفين من المباني، من جهة يطل على حوش البضاعة، ومن الجهة الأخرى يطل على شارع التحرير؛ أي من ناحية ميدان الدقي، ومن ثَم قلب المدينة.. لم يكن أبو ستيت يهتم بالبيت كثيرًا، فقد ورثه عن أبيه، الذي ورثه عن جده.. كان نظام التوريث متبعًا في السكة الحديد، ويتلخص في أن يرث الابن أباه في البيت، لكن بشرط أن يكون عاملاً في السكك الحديد كأبيه.. ومن هنا جاءت الروح العدمية لصديقي أبو ستيت، فهو في النهاية ورث أباه في البيت وفي المهنة بمحطة سكة حديد بولاق الدكرور.. ربما دمر هذا التوريث روح المغامرة عند أبو ستيت، وربما لأنه كان ثمة تفكك في أسرته، ففي أحد الأيام وجدت في البيت مجموعة من التجار الشوام؛ إذ كان أخوه يتاجر في التوابل من وإلى مدينة حلب السورية، يومها شعرت بخيبة أمل على وجهه، ربما لم يكن راضيًا عن خط سير أخيه في التجارة مع الشوام، لما هو مشهور عن تجار الشام من خيانة العهد!
ومن خلاله -أبو ستيت- عرفت عم زيدان؛ أشهر فني في بولاق الدكرور في صناعة وابورات البخار، فقد أنشأ المهندسون الإنجليز في بولاق الدكرور وحدة فنية لقطع غيار وابورات البخار، فكان عم زيدان هذا ما تبقى من ذاك الزمن البعيد.. وطبعًا صادقت عم زيدان وهو في الثمانين من عمره، أشيب الرأس تمامًا.. محني الظهر.. وتقريبًا بلا أسنان، وبالكاد يرى؛ فقد ذهب نور عينيه من الشيخوخة، لكنه كان يمتلك ذاكرة حديدية، ومن هنا بدأت أفتش في ذاكرة القرن التاسع عشر.. وكان طبعًا ذا أصابع مرتجفة، لكن له ذراعين عملاقتين وقدمين كذلك، فهو من قلب الدلتا، وورث عن أبيه -عم زيدان- ومن ثَم جده، المهنة والبيت.. ولاحظت شيئًا عجيبًا؛ أنه كان يحب الإنجليز.. أبي أيضًا لوَّح لي من قبل في حديث قصير عن حبه للإنجليز.. أبي من مواليد 1910؛ أي أنه عاصر الفترة الذهبية للإنجليز في مصر، لكن عم زيدان كان قاهريًّا، أو بمعنى آخر ابن المدينة، وعليه فقد شهد النمو العملاق للمدينة، ومن ثم السينما، ثم السكك الحديد، لذلك أوليته اهتمامًا خاصًا في كل شيء، حتى ملابسه؛ فلاحظت أنه محافظ على الملابس المدنية؛ من قميص وبنطلون وحزام وحذاء، وحتى وهو يقارب التسعين عامًا.. أما أبي فكان على العكس منه؛ وحتى وقت وفاته كان ما يزال محافظًا على ملابس الجنتلمان؛ كرافتة وحمالة بنطلون مثل الذي يلبسها الصحفي الشهير “عيسى”، ربما لأن أبي كان يعمل موظفًا مدنيًّا في مطار القاهرة، أو ربما لأنه كان من أسرة غنية كانت تعيش في مدينة المنصورة. أمي أيضًا من المنصورة، وكانت كذلك من أسرة غنية تملك أرضًا زراعية.. لكن عم زيدان كان بسيطًا في ملابسة المدنية؛ أعني القميص والبنطلون والحذاء، ولاحظت أنه يهتم بالسلوك الحضاري للمهندسين الإنجليز؛ من مأكل ومشرب وسلوك..
لكن الأخطر من عم زيدان، كان عم عمر القرشي، الذي كان أبوه سائق قطار الخاصة الملكية لجلالة الملك فواد، ومن ثَم الملك فاروق.. كان عم عمر القرشي من أصول نوبية، ذا بشرة في لون القهوة.. ضخم الجثة.. أفطس الأنف.. ذا أسنان بيضاء جميلة.. وكان حلو المعشر والحديث.. ويحفظ جميع أغنيات المطرب محمد عبد الوهاب، على أساس أنه فتى عصره؛ فترة منتصف القرن العشرين، وكان يتكلم عنة بحب ووله شديدين، مثلما يتكلم شباب اليوم عن الفنان عمرو دياب.. كما كانت لعم عمر القرشي ميزة غريبة، وهي حبه للأناقة؛ فقد كان مهندم الثياب، وعادة ما يلف رقبته بلاسة أو كوفية أوروبية الطراز، ويلبس على الدوام حذاءً لامعًا، وكان يتكلم الإنجليزية بطلاقة، ولا أعرف كيف تعلمها.. ومن حُسن حظي أنني كنت أعمل مع عم عمر القرشي عطشجيًّا في بولاق الدكرور، ومن هنا بدأت أهتم بتركيبة شخصيته الفريدة، ولاحظت أن عم القرشي يصادق، أو يحافظ على صداقته لطبقة المتعلمين، أو التكنوقراط بلغة هذا العصر.. فوجدته ينتمي إلى جمعية خدمية غير هادفة للربح تعني بتنمية المجتمع؛ وطبعًا كان اهتمام الجمعية بحي الدقي، وليس بمجتمع بولاق الدكرور المتدني طبقيًّا.. نعم، تذكرت، فقد كنت أحيانًا أجد عم عمر القرشي يلبس بدلة كاملة وكرافتة، وهذا يعتبر مختلفًا أو نشازًا عن مجتمع عمال السكك الحديد في بولاق الدكرور، وقد شهدت فعليًّا عدم وجود أي علاقة حميمية بين عم زيدان وبين عمر القرشي، لأننا يجب أن ننوِّه إلى أن سائق السكة الحديد هو قمة الهرم الاجتماعي والطبقي.. لذلك كان بيت عمر القرشي أكثر اتساعًا من بيت علي أبو ستيت، أو بيت عم زيدان، إن لم يكن أقرب إلى بيت المهندس الإنجليزي من الرحابة والرقي، وهو ما احتله طبعًا في العصر الحديث المهندس المصري، من حيث المكانة الاجتماعية والطبقية.. وكنت كثيرًا عندما أذهب إلى المهندس محمد برقوق في بيته لأمر ما من أمور العمل ألاحظ النقوش المعمارية التي تميز بيته عن بقية المنازل.. ولكن الشيء المشترك هو وجود حديقة خلفية، ما عدا منزل عم زيدان، إذ لاحظت فقرًا معماريًّا في منازل العمال، مما يعني وجود فوارق طبقية أيضًا حتى في المنازل، فقد لاحظت أن منزل المهندس برقوق مقام على شكل قلعة سكتلندية؛ أعني أنه ذو برج منفصل عن مجمل المنزل، بالإضافة إلى ميزة وجود ساعٍ، أو خادم، يعيش ويعمل في خدمة المهندس، ومن ثَم أفراد أسرته، وهذا ما جعلني أهتم بشخصية المهندس في عالم السكك الحديد، خصوصًا وقد شممتُ رائحة مدام بوفاري في مظهر وشخصية زوجة المهندس برقوق..
وكي نتكلم عن البناء الاجتماعي لشخصية وتكوين مهندسي السكك الحديد، يجب أن ننوه إلى حالة الانغلاق الاجتماعي لهذا المجتمع الفريد في غرابته؛ من حيث التباين الثقافي والمعرفي.
عندما قدمت استقالتي من السكة الحديد حدث لي موقف غريب.. ولكن هذه حكاية أخرى.